| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الخميس 28/10/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين  قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏5‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com 
 

معلم في القرية
(21)

من آراء المربي الراحل في الانتهازيين وسلوكهم: (... وكأن المبادئ السياسية أشبه ما تكون بالمنازل فهم يتحولون من منزل إلى منزل، حسب ما يتيسر في ذلك المنزل، من طمأنينة وراحة ومطمح!؟. وآخر نزيه ولكنه يكتفي بالمعارضة الوديعة؟!) (ما أشبه اليوم بالبارحة/ الناشر)

مع المعلم
حين انخرطت في سلك التعليم، لم أكن عفوياً فيما قصدت. فقد رفض عميد أسرتنا أن يساعدني في موضوع التعيين، ووعدني أن أتهيأ لفرصة أخرى، ربما أجد مكاناً في القضاء. إن وظيفة التعليم في الابتدائيات تستوجب أن يكون المعلم مهيئاً بشكل خاص يتلاءم ومناهج التعليم وإلمام عام فليس هناك تخصص في مادة معينة. إنها الوظيفة التي تتلاءم وما تعلمته في معاهد النجف، من علوم العربية والأدب والفقه. لكني كنت أرمي إلى هدف آخر. كنت أنزع إلى أن أزج بنفسي في معترك الخدمة الأساسية، ضد الجهل الآفة المدمرة، التي تسبب العقم، وتحد من قابلية الأمة في مضمار التطور واللحاق بركب الأمم المتحررة من الجهل والمرض والفقر. وما أجد في وظيفة القضاء؟ غير أن أتورط في حكم باطل، في أمر طلاق! أو مسألة ميراث، أو مشاكل المتزوجين في حياتهم التي هي عمومها لم تبن على أساس الخيار، بل الاضطرار وأحياناً كثيرة الجبر والإكراه.
قرأت مرة رأياً لأحد رجالات العلم والأدب عن المعلم. أعتقد إنه حديث للأستاذ المصري "أحمد أمين" وقد استشاره رجل في أن يخرّج أبنه معلما. فذكر الأستاذ له رأيه في المعلم والتعليم!. المعلم في رأيه ضربان، ضرب يأتي إلى التعليم لضمان العيش من مرتب مضمون، ومن هذا الضرب من يؤدي الخدمة خليطاً من المناهج المقررة، وأساطير العجائز، وذهنية الطبقة المتحكمة، ومنهم من يجيد اللعب على الحبال، كبهلوان متمرس، متمثلاً بقول القائل "البس لكل حالة لبوسها".
أما الضرب الثاني فمعلم يحمل رسالة، يعرف إن أمامه العقبات الصعاب، والمخاطر التي قد تؤدي به الهلاك. إنه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض.
هذا هو المعلم الذي أعجبني أن أكونه، لا في المدرسة وعلى أسماع الصغار، بل في كل مجال تسمح به المناسبة. أحببت ذلك المعلم الذي قال فيه شوقي "كاد المعلم أن يكون رسولاً". ومن قصيدة لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري قالها عام افتتاح ثانوية الحي، مقطع عن المعلم والتعليم تجسيد رائع لرسالة المعلم منها هذا البيت الذي هو خلاصة المطلوب من المعلم:

هيئ لنا نشأ كما انصب الحيا لطفاً ونشأ كالزلزال راعدا
فلقد رأيت الله يخلـــق رحمةً مَلَكا ويخلــق للتمرد مارِدا

المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها.
إني أتحرق ألماً وأنا أرى الأكثرية من المعلمين هم من الضرب الأول. أنا لا أنكر إنهم لا يستطيعون أن يكونوا غير هذا. كما لا أنكر إنهم على أي حال يقدمون خدمة لا تخلو من فائدة.
في بداية السنة الدراسية هذه 1940/1941 نقل بعض المعلمين وجاء مكانهم معلمون جدد. اثنان منهم من مدينة كربلاء، وثالث من الحلة ورابع من العمارة، ومن النجف شاب جديد على التعليم، شديد الحياء، حتى إنه تهيب دخول الصف، وواحد فلسطيني.
أما مدير المدرسة فكاظمي، كان مديراً لإحدى مدارس كربلاء. وهو أنيق في ملبسه، وبيته، يحذق أمور الإدارة، ولكنه يرفض الاختلاط بالمحيط، ولعل مرد هذا إلى ما هو شائع عن الكوفيين.
بعد أيام من مباشرته، أقترح على المعلمين أن يكونوا كتلة موحدة داخل المدرسة وخارجها، وأوضح عبارته هذه. إنه يقترح علينا أن لا نختلط بالناس. فماذا يمنع أن نتآخى، فعند انتهاء الدوام الثاني جميل أن نتمشى في شارع النهر الجميل، أو مشية نخترق بها البساتين عصر الثلاثاء إلى مسجد سهيل، وفي يوم آخر إلى مسجد الكوفة، وسفرات ننظمها في أيام الجمع، أو في العطل القصيرة إلى الأمكنة القريبة، وأقترح أن نتناوب بإقامة ولائم خاصة في الغداء، يوم واحد من كل أسبوع على واحد منا أن يعد الوليمة حسب رغبة الآخرين. ولليالي منهاجها، جلسات تقتصر على الشاي والقهوة والفاكهة. ونفذنا المنهاج المقترح دون أن نلتزم أهم قصد منه –عدم الاختلاط بالمحيط- أما هو كما أراد لنفسه. انكماش تام حتى مع المعلمين، يتعامل دائماً بأسلوب مسؤول، يبدو فيه الترفع والتعالي جلياً، وحتى في مجال المداعبات، وتبادل النكات والطرف، يزجي النكتة بلهجة متكلفة، ولابد أن تكون ماسة لمن يوجهها إليه، كما يقول المثل الشعبي "بالشقة وغل أيدك" [المقصود من هذا إنه ليس الغرض مداعبة بريئة، وإنما بطيها الهزء والسخرية أو الانتقاص أو الإحراج والمضايقة لدوافع خاصة].
وكانت السفرة المقترحة بعد عطلة منتصف السنة، إلى قضاء الهندية، على ظهر سفينة "ماطور" يعود لتجارة والد أحد المعلمين الكوفيين. كانت حقاً سفرة ممتعة، كلنا في مشاغل، هذا يعد الشاي، وهذا يعد الرز للطبخ وهذا يعد القهوة، وآخر يدير الحاكي، بينما أحدنا يلتقط لنا الصور ونحن نقوم بالأعمال اللازمة، والسفينة وسط النهر تسير بسرعة. وحين جن الليل وبعد غفوة حلوة استيقظت على ضجيج صحبي. فوجدتهم جميعاً قد تخلوا عن معظم ملابسهم، تساءلت: "ماذا حدث لكم؟ أتنوون السباحة بهذا الليل، والجو مازال شديد البرد؟". فحدثوني بالمفاجأة التي كادت تكون كارثة. إن مروحة السفينة علق بها شجر وصفصاف تحت سطح الماء فعطلها عن الحركة، والسفينة في منتصف النهر. فردها التيار مع مجراه إلى الوراء بقوة فهيأنا أنفسنا للسباحة. وضحك أحدهم، وقال: "أشفقنا عليك أن تموت بعد صراع مع الأمواج فتركناك نائماً لتموت بهدوء!".
كان الملاحون قد أبدوا جهداً كبيراً. بعد عناء ورجوع إلى مسافة بعيدة خلال نصف ساعة. وعادت السفينة تواصل المسير. إلى هذا الحد ونحن على خير ما يرام من الإخاء والصفاء. لكن يبدو أن بعض الناس في سرائرهم كالماء في حالتي الصفاء والكدر. إنهم قد يخفون ما في نفوسهم لأمد حتى يجدوا مبرراً لإظهارها، وقد يعملون على خلق المبرر خلقاً وبدون حق.
فمدير المدرسة حين وزع دروس العربية، اختارني للخامس والسادس. هذا لم يكن أمراً جديداً. فحتى صاحبنا المعمم النجفي "الشيخ محمد رضا الذهب" في عهد المديرين السابقين لم يعهد له بتدريس العربية لهذين الصفين. ولم يعهد بها هذا المدير للفلسطيني لعدم تفهم التلاميذ للهجته. كنت أكثر كل زملائي احتراما له حسب شعوري اتجاه فلسطين والفلسطينيين، دعوته وزوجه إلى بيتي في بداية وصوله الكوفة. وحين شكا لي تجمع الصبية وراءهما حين يخرج هو وزوجه لأنها سافرة، منحتها عباءة من زوجتي، وتوسطت لهما لدى أحد البزازين فتزودوا بالقماش وعباءة. وألزمت زوجتي أن تصحبها دائماً فتعرفها ببيوت نساء المعلمين، في أيام القبول المتعارف عندهن.
كل هذا لم يَحلْ دون انفعاله ضدي، لأنه يرى نفسه أجدر بتدريس العربية. ليت أنا المسؤول عن توزيع الدروس. والمدير وأنا لم نطعن بجدارته، رغم إني لا أعرف مدى تلك الجدارة، ومبلغ علمه.
لست أدري أي مصيبة بدت مني عليهم، فجمعتهم والفت بينهم على محاربتي؟! الشيخ على شيبته كان يدّس، أما بقية رفاقه فقد أعلنوا الحرب بأسلوب صبياني. كنت كلما عدت لغرفة المعلمين بعد انتهاء الدرس أجد دفاتري وكتبي ومعطفي مبعثرة على أرض الغرفة! حسبتها للمرة الأولى صدفة. وتكررت فتساءلت أمام الجميع. من يا ترى عمل هذا؟
الابتسامات التي هي أقرب ما تكون إلى تكشيرة جبان كانت تشير إليهم بالتهمة! كان أحدهم يطرق بنظره وبصمت، وعيل صبري لتكرر هذا التحدي، وكشفته عن طريق مراقبة الفراش. ورفعت الأمر إلى المدير فاستدعاهم ونصحهم بعد ما استدرجهم لمعرفة الدافع. فأجيبَ بوقاحة: "إن فلان -المقصود أنا- سيطر على إرادتك وأستغلك ضدنا!".
هذا هو المعلم العادي، هذا شأنه. نوازع محدودة. تتسم بالطيش حتى لكأنه بسن مراهق. وتطور التحدي إلى قارص اللغو وبذيئ الشتائم. ولا أدري كيف فقدوا رشدهم، فأبرقوا إلى مديرية المعارف: "حياتنا في خطر من فلان؟!".
ومفاجأة جاء مدير المعارف. خلا بمدير المدرسة، ثم استدعاهم، ولم يستدعيني. علت أصواتهم، واختلطت. وحين انتهى الدرس وكفوا عن النقاش دخلت مع المعلمين. لم أفاتَح بشيء. لكني بعد أن غادر المدير المدرسة علمت بكل شيء. [مدير المعارف كان الأستاذ حسن الصباغ وهو شخصية لامعة في التربية. أما أولئك المعلمون فهم، جليل الأعرجي، ..... شربه الفلسطيني، الكربلائي حسن صفائي]
وما هي إلا ثلاثة أيام حتى جاءت أوامر نقلهم، عدا العماري فإنه نقل إلى المدرسة الثانية بنفس الناحية. لا بأس، فلأرَ ماذا بعد؟ المدير في الواقع ليس لي بصاحب. إن صاحبه المعتمد -المعلم الكربلائي- وهو من أسرة أرستقراطية. كان يعيش الأيام القليلة التي قضاها هنا باتصال وثيق معه، لم يفترقا إلا عند حلول وقت النوم. ثم أعيد إلى مدينته.
و وشوش الناس الكوفيون، إشاعات غامضة حول المدير، يلمحون بأسماء ثلاث معلمات، يسكن في شقة مجاورة لبيت المدير. اثنتان منهن فلسطينيات، والثالثة بغدادية. إنهم يمتدحون صلابتها وعدم انزلاقها، وسقوطها في شباك المدير، الذي عرف عنه أن أبعد زوجته منذ مدة إلى ذويها بحجة المرض.
كثر اللغط والحديث، لست أجزم بصحة ما يشاع، ولكن ذلك غير بعيد عن النفس الإنسانية، حين تضيق عليها المسالك، بفعل المخاوف التي تساورها، من مغبة الثقافة الصحيحة، التي ربما تعرضها لغضب الأسياد.
كن ما شئت، ماجناً، خليعاً -طبعاً باتزان- فارغاً كالطبل، قشرياً في حقيقتك، ولكنك تحرق البخور لأصنام المجتمع. هذا يكفي لرضاهم عنك، ويساعدونك عند الحاجة!. ولكن لا تنظر إلى بعيد، والى الأعماق، لتتعرف نوع السوس ووسائل مكافحته وطرق الوقاية!

السياسة والأدب
وهل ترى أنا مصيب أم مخطئ فيما أرى؟ إني ما أزال أميل في كثير من الأحيان إلى أن يبتعد الأدب عن السياسة. أحد أصدقائي حطم رأيي هذا بأسئلة مقتضبة ووجيزة.
قال: ما رأيك في أديب جعل شعره وقصصه وقفاً على جمال القمر، في سكون الليل، والزهور والفراشات تنتقل بينها بأجنحتها الجميلة. والحسناء، تتمايل بقدها الأهيف، وشعرها الفاحم يزيد جمال وجهها سحراً وبهاءً. وشاعر آخر، يتحدث عن الجياع وهم يؤلفون الكثرة الغالبة ومنهم الكادح، والعامل والفلاح ، ومنهم يُجَند المئات لينقذوا الوطن، ويدحروا الغزاة. هؤلاء جميعاً عليهم عماد الأمة والوطن. ولكن إذا كانوا جياعاً، هل تنتظر منهم تفانياً في الدفاع، وإخلاصا في العمل، ووعياً صحيحاً تجاه قضايا الأمة والوطن؟
ثم ماذا تفهم عن السياسة؟ ترى هل السياسة حزب له زعيم، يضع منهاجاً للفوز في الحكم، فيرتقي كراسي الحكم هو ونخبة من مؤيديه ومؤازريه!؟ وإذا كانت الأحزاب متعددة؟ وكل يدعي وصلاً بليلى، فمن يا ترى في رأيك الصائب والمخلص؟
وانتهى النقاش بيني وبينه. كنت أناقش نفسي وهو يتحدث ويلقي أسئلته. عدت إلى أيام سلفت، حين لا ندري ونحن "نهوس" في مواكب العزاء "من مهدي ورستم خَلّوهَ؟! ونذري الدموع أسفاً على فيصل وغازي، لاعنين الإنكليز. ناسين إن رستم ومهدي انتهت آراؤهما دائماً، وكثير غيرهم إلى جانب المعاهدات الجائرة. هكذا كنا نخوض السياسة بفهم خليط بين الطائفية والوطنية بل وحتى الإقليمية أحياناً. ونتعصب للملك وهو آلة أختارها الإنكليز، ووطنيته ليست أكثر من لافتة، يحافظ بواسطتها على تاجه، بين الذين جاؤا به لينفذ مطامعهم، وبين مطامح رعيته. هكذا كنا نعتقد أن مهدي المنتفكي ورستم حيدر شيعيان ووطنيان في آن واحد، ولا نفهم مركزهما الطبقي. ولم نفكر ما عوامل مجيئهما إلى الحكم وذهابهما عنه. وقد اغتيل رستم حيدر في 18/1/1940 وقيل إن هذا بتدبير من نوري السعيد، هذا الشائع مع إنه صديقه!
أما بعض الساسة الذين عرفنا فيهم النزاهة والإخلاص، فهم بين سلبي في مواقفه حين تتأزم الأمور، فهو يعتزل العمل، ويتجنب خوض المعارك. ربما كان محقاً فيما يفعل، ربما كان قد جرب الكثيرين ممن عمل معهم، ورأى كيف يتحولون، ثم يجيدون اللعب على الحبال. وكأن المبادئ السياسية أشبه ما تكون بالمنازل فهم يتحولون من منزل إلى منزل، حسب ما يتيسر في ذلك المنزل، من طمأنينة وراحة ومطمح. وآخر نزيه ولكنه يكتفي بالمعارضة الوديعة؟!
لقد زاد لهب الحرب في الميادين الأوربية، فقد تهاوت دول كثيرة كبيرة وصغيرة تحت رحمة الاحتلال النازي، بلجيكا، هولندا، ولكسمبورغ إذ غزيت من ألمانيا بدون إنذار. وتعقد الوضع وأمسى خطيراً مما أدى إلى استقالة رئيس وزراء بريطانيا "نيفيل تشامبرلن" فخلفه "تشرشل" الذي شكل حكومة ائتلافية من المحافظين والعمال والأحرار.
هكذا تهاوت أمام قطعان النازية دول كانت تتحكم بمصائر شعوبها. فرنسا الاستعمارية، خافت أن تمس القصور الأثرية، خافت على جمال باريس وليالي باريس فاستسلمت بأسرع ما يتوقع. وستتحمل عبئ الاحتلال ومقاومته الجبهة الشعبية. سلم المارشال "بيتان" رئيس وزراء فرنسا باريس للغزاة بدون مقاومة. وتم تشكيل المقاومة السرية داخل فرنسا، واتصلت بـ "ديغول" الذي جمع فلول جيوش فرنسا في الخارج وألف حكومة فرنسا الحرة.
يبدو إن للنازية دعاة ينفخون بالأبواق. والشعوب الضعيفة التي كانت ترزح تحت وطأة الاستعمار، صارت –لجهلها بواقع الأمور أو لكرهها الاستعمار- تصدق الدعاية النازية. بل وتنشرها على مدى أوسع، مضيفة إليها كلما ساعدها عليه الخيال. يقولون إن جحافل هتلر تندفع كالسيل وإن لدباباته ألسن لهب تمتد عدة أمتار، فتحرق ما أمامها، وتذيب الجليد والجدران.
حين يكون موعد أخبار إذاعة برلين، يتزاحم المستمعون خاصة الشباب حول المذياع. ينصتون صامتين، ويطفح البشر على وجوههم حين يهتف يونس بحري: "حيّ العرب!". إنهم يحسنون الظن، ويأملون الخير حين تتوعد هذه الإذاعة -الإنكليز- الذين وهبوا فلسطين للصهاينة. يبدو إن الحكمة القائلة "الحرية تؤخذ ولا تعطى" قد أصبحت باطلة. فلسطين أخذها الصهاينة، وسيعيدها لنا هتلر! فلسطين البقعة التي لا تزيد مساحتها على 27 ألف كلم² وهي محاطة من كل جانب بدول وممالك عربية، يغزوها غاز عاش دهراً طويلاً في التيه والذلة. بينما تكتفي حكوماتنا العربية أن تستعرض أمجاد السلف من أيام صلاح الدين، لا بل من عهد نبوخذ نصر. وتُلَقّن الأطفال هذه الأمجاد أناشيد وأغاني! إن بعض الشعراء أشار إلى عجزنا، ربما دون أن يدري. حين أستنجد:

أين صلاح الدين يا قوم كي يحميني

صلاح الدين وغيره، في حياتهم، أدّوا ما عليهم من واجب، فأين نحن منهم؟ الإنكليز كانوا محتلين لفلسطين ثم وهبوها للصهاينة، ولكن ما نزال أشد حرصاً على صداقتهم؟!
سيشتد أوار هذه الحرب أكثر وأكثر. وستكون بلادنا قواعد لطيرانهم، ومراكز لجيوشهم، وستصادر حرياتنا والتي هي في الواقع فقط مسطورة في الدستور. كل هذا سيتم بذريعة حماية الجيوش الحليفة مما سموه بالرتل الخامس. لسنا نعلم النهاية بالضبط، ولكنا نعلم إن الصراع يدور ويحتدم من أجل استعباد الشعوب لا من أجل حريتها كما يتوهم الذين يُصفقون لانتصار الجيوش النازية.

وشوشة بين الناس
حين تسمع الناس يوشوشون بأحاديث تتعلق برجال السياسة عندنا، فلأن تحول كتلة فلان إلى فلان، وفلان حين أنسحب رئيس حزبه من الوزارة، بقي هو فيها، مؤثراً كرسي الوزارة على المبدأ. وفلان أعتزل العمل السياسي، وفلان يستمد أفكاره من وكلاء النازية، ولو إنه لم يتظاهر بولائه لها. لا تستغرب ما سمعتَ أبداً. فكل هذه ليست أسراراً. وإن لم تكتب عنها الصحافة صراحة. إن وضعنا الحاضر كالبحر الهادئ في ظاهره، ولكن في داخله معارك حامية، الحيتان الكبيرة تهاجم الصغيرة، ومختلف الحيوانات من أجل العيش هناك في "كرّوفر"، بين الدفاع عن حياتها وبين المجازفة من أجل معيشتها. ففي لحظات قصيرة تنتهي حياة المئات من تلك الأحياء في جوف البحر، بينما نجد نحن أمتع اللحظات في منظر البحر، حين هدوئه وحين هياجه. يتأثر الإنسان بما يشاهده بعينه فقط، لذا أيضاً لا نشعر تماماً بما تفعله قنابل الحرب اليوم، من هدم منازل على رؤوس ساكنيها، وكيف تمزق أجسادهم شظاياها.
فمنذ عام 1937 كم وزارة سقطت، وكم وزارة ألفت. ما هي الأسباب وما هي النتائج؟ ما الذي يختفي وراء تلك الأسباب، مما لا تراه العيون، ولا تفصح عنه الألسن والأقلام. منذ قيام حركة بكر صدقي بانقلابه ومجيئ حكمت سليمان لرئاسة الوزارة في 29/11/1936 حتى تشكيل رشيد عالي الكيلاني لحكومته التي سماها حكومة الدفاع الوطني ثم هزيمته وعودة الوصي عبد الإله ونوري السعيد ثانية فإن عدد الوزارات يدل على عدم استقرار العراق وحكامه. إن عدد الوزارات سبع وزارات أو ثمان تكرر فيها استيزار نوري مرتين!.
زعماء السياسة الموجودون اليوم أجمع، الوطني المخلص حقاً والموالي للاستعمار يرون إن العمل السياسي من حقهم وحدهم! أما الطلبة، العمال، الكسبة والفلاحون فإنهم يتجاوزون حدودهم وأقدارهم. إن هم هبّوا بانتفاضة لإعلان آرائهم ومطالبهم!. ولكن السادة المعارضون –من أي لون- دائماً يستغلون تذمر الطلبة والعمال ليصولوا على خصومهم وليهزموهم من كراسي الحكم. فإذا ما انتصروا على الخصوم، صاحوا بوجوه المطالبين، الزموا الصمت ريثما يتسنى لأولي الأمر، النظر في القضايا والشؤون ؟! لا بل إن بعض أولئك حالما يملك زمام الحكم، يبدأ العمل أولاً بكيفية التخلص من بعض شركائه، بينما يغازل معارضيه، ويلوح لهم بغصن الزيتون فيما يخص مصالحهم الخاصة. حدث مثل هذا حين تم انقلاب بكر صدقي في 29/11/1936 بعد أتفاق تم بينه وبين حكمت سليمان، الذي كان إذ ذاك يعمل مع جماعة "جمعية الإصلاح الشعبي" فأستوزر بعضهم، وأدخل بعضهم البرلمان، فلما أحس بعدم رغبة بكر صدقي، تنكر لزملائه. وراح يغازل المعارضين من أقطاعيين وملاكين من السياسيين. وكانوا يتهمون الجمعية وأعضائها بالشيوعية، فأذعن لهذه الدعايات. وهكذا نزعت الجنسية من بعض وطردوا من العراق واستقال الآخرون. ثم انتهت حياة بكر صدقي بنفس الطريقة التي انتهت بها حياة جعفر العسكري. وعاد الحكم ثانية إلى نوري وزمرته.
نحن بني العصر الحديث. نعرف إن العالم اليوم في حربه وسلمه لا يشبه عالم الأمس. أيام كانت عدة الحرب، سيف ورمح ونبال، على الخيول والبغال. العالم اليوم أختصر مسافاته الشاسعة، وسائط النقل الآلية والبحرية والجوية، ذات السرعة الهائلة، تعززها وسائل الاستكشافات العجيبة، من برق ورادار، وما لا نعرف عنه شيئاً. ولعل ما يشاع على الألسن، من إن هناك لدى الأوربيين والأمريكان من وسائل التدمير والتخريب، ما هو أغرب من الغريب، مما لا تتصوره عقولنا. كحرب الجراثيم، والصواريخ ذات المدى البعيد، والقوة الخارقة.
من نكون إذن لو شبت حرب بيننا وبين المستعمرين؟ ومن نكون لو إن بلادنا صارت ساحة حرب بين الإنكليز والأمريكان؟ بالأمس استعنا بالإنكليز على العثمانيين. فكانت النتيجة إن أحتل الإنكليز بلادنا بعد ما طردوا العثمانيين. واليوم؟ اليوم يرى كثير من السادة الذين يتزعمون قضيتنا الوطنية ضرورة التزامنا بصداقة الإنكليز ليحمونا ممن هم أشد منهم بطشاً ونكالاً. من قصيدة للشيخ محمد علي اليعقوبي قوله في أعقاب هروب الوصي والهاشمي، وهو يشير إلى الإنجليز في إدعائهم هذا الذي آمن به الموالون لهم:

جاؤا ليحمونا على زعمهم ولنـدن ليس بهــا حــــاميه

حقاً إنهم مصيبون برأيهم هذا. طالما هم لم يدربوا شعبهم طيلة هذه المدة على استعمال حقه في الحرية. ذلك لأنهم يخافون منه على مصالحهم أكثر من خوفهم من المستعمر نفسه!
لست تسمع وأنت تجلس في مقهى أو ناد أو ديوان غير حديث الحرب، وهجوم جنود النازية الكاسح، ولابد إن التجار بدأوا يخفون أهم البضائع أو يكدسون ما يشترون في المخازن، ليوم يصعب فيه الاستيراد، فترتفع الأسعار، الواحد إلى عشرين ضعفاً!
لحد الآن لم يظهر مثل هذا للعيان. ولكن الحرب إذا اتسعت ودنت من مستعمرات الإنكليز، فإن كل شيء محتمل سيكون حقيقة. ليكن ما يكون. أنا واحد من هذا المجموع، فلا أغتم –على الأقل هذه الفترة- التي لا أعلم ستطول أم تقصر.

 

يتبع

السويد 2010-10-28 ‏


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter