| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@hotmail.com

 

 

 

الأحد 17/10/ 2010

 

من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي
(1913 – 1996)

محمد علي الشبيبي

مقدمة
ترك الوالد طيب الله ثراه مجموعة من المخطوطات النثرية والشعرية. و (ذكريات معلم) هي إحدى مخطوطاته التي يتناول فيها ذكرياته خلال عمله الوظيفي في التعليم. القسم الأول من هذه الذكريات (معلم في القرية) يروي فيه الوالد تجربته في العمل التعليمي في الريف منذ تعيينه معلما في تشرين الأول عام 1934، حيث يتناول بأسلوب شيق عادات وتقاليد الفلاحين، ويسجل بعض الأحداث التاريخية وتأثيراتها على حياة القرويين وكيف يتم التفاعل معها من قبل القرويين، ويتطرق إلى مواقف ودور الشخصيات الاجتماعية والسياسية الحاكمة وكيفية توزيع الأدوار بينهم.
و (معلم في القرية) تتناول بأسلوب نقدي الطائفية وتأثيراتها السلبية على الوحدة الوطنية، وكيف يستغلها السياسيون المتنفذون في الحكم من أجل مصالحهم الضيقة. كما يتحدث ويصف بؤس الفلاحين، واستغلال شيوخهم، وتدهور التعليم بسبب خضوعه للتيارات السياسية.
يتناول في ذكرياته بعض الشخصيات القريبة منه والبعيدة بسلبياتها وايجابياتها. ربما هذا التناول يزعج ويثر غضب البعض، لكنها تبقى انطباعات ووجهات نظر شخص عاش قريبا منهم وتعرف عليهم مباشرة أو سماعاً. لذلك يتجنب والدي ذكر بعض الأسماء الصريحة في سرد ذكرياته، وأحياناً يشير إلى الأسماء في الهوامش مع أعطاء نبذة مختصرة عن الشخص المذكور. وفي ملاحظاته عن مخطوطته أبدى تردد في تثبيت الأسماء الصريحة. وهو محق في ذلك، فقد مرّ على تلك الأحداث عقود، ولم يبق من هؤلاء إلا أبنائهم وأحفادهم، ونشر أسمائهم الصريحة وخاصة إذا ارتبطت بمواقف مسيئة ومعيبة أو منافية للأخلاق، تثير حفيظة أسرهم حتى وان كانوا متأكدين من صحة المعلومات المثارة. لذلك تجنبت أنا أيضاً ذكر بعض الأسماء الصريحة في بعض الأماكن وأشرت لها بالحروف الأولى من الاسم، فأرجو من القارئ العزيز معذرتي لذلك.
كانت للظروف السياسية التي عايشها الوالد سببا في انقطاعه أحيانا عن مواصلة كتابته لهذه الذكريات مما أدى هذا في بعض الأحيان إلى تكراره لروايته لبعض الأحداث والهوامش، لذلك حاولت أن أحذف المكرر منها إلا ما فاتني أو سهوت عنه. ويشير الوالد إلى ظروفه الخاصة التي كانت السبب لفقدان الكثير مما سجله أو أحتفظ به، من صور وكتابات وشواهد مهمة، من أجل هذه الذكريات.
في (معلم في القرية) يصف الوالد وصفا جميلا ودقيقا للمناطق الريفية التي عمل فيها أو زارها، كما يصف الناس وطباعهم. وهو لا ينسى أن يتحدث عن مناهج تدريس العربية وينتقدها نقداً علمياً نابع من تجربته وخبرته، ويشخص بدقة مكامن الخلل في هذه المناهج، حيث يكتب "أين وكيف يستطيع صبي في سن الحادية عشرة والثانية عشرة أن يهضم موضوعاً بقلم المنفلوطي، بأسلوبه المسجوع، وألفاظه المزوقة. وأية روح تنمو في الطفل وهو يقرأ الحلاق الثرثار وذمّه السياسة والسياسيين، ويلعن الناس أجمعين؟!"
كما لا ينسى أن يشخص الصعوبات التي واجهها في تدريس العربية أحيانا فيكتب: "أني كأي متعلم على الطريقة القديمة، لم أستطع التخلص تماماً من التعقيد، وصعوبة التفهيم في كثير من الأحيان" . وبناء على تجربته الشخصية يضع الحلول والمقترحات لتطوير المناهج وأصول تدريس العربية.
وبالرغم مما أصابه في مسيرته التعليمية من غبن وإجحاف ومعاناة قاسية، من فصل وسحب يد وتوقف لترقيته ومضايقاته من بعض زملائه والمفتشين وإدارات المعارف وإصدار أوامر نقله أو إعادة تعينه في مناطق نائية لا تتناسب وخدمته الطويلة في التعليم، نجده رغم كل هذا يؤكد وبدون جزع أو ندم عن حبه وإخلاصه اللامتناهي للتعليم واختياره لهذه المهنة السامية بوعي، مفضلها على وعد من عميد الأسرة (العلامة الجليل الشيخ محمد رضا الشبيبي) لتعيينه قاضياً. فهو يؤكد رسالة المعلم ويلتزم بها كما جاء في موضوعه المعنون "المعلم": (انه يدرك إن الجهل عدو، له حلفاء يسندونه، هما المرض والفقر. فلا مناص إذن لهذا المعلم من التنبيه خلال عملية التعليم إلى هاذين العدوين في حلفهم البغيض...... المعلم الذي ينشئ أحراراً، لا ليصيروا له عبيداً، المعلم الذي يجعل الحرف مضيئاً ينير السبيل للسارين، لا ليؤلف كلمة ميتة، أو جملة خاوية لا معنى لها ...). والمصيبة التي عايشها المعلمون في معظم العهود كما عايشها والدي، هي أن الطبقة المتحكمة وأعوانها من أقطاعيين وملاكين ومستبدين يتسترون بالدين والتعصب الطائفي والقومي، هؤلاء جميعهم ليس لهم مصلحة حقيقية في نشر الوعي ومكافحة الأمية والجهل والمرض لأن قوتهم وديمومتهم تعتمد أساساً على مدى انتشار الجهل والخرافات والفقر والمرض.
ويتحدث والدي عن معارفه، من أصدقاء محبين، أو حتى الكارهين والحاسدين، بروح ايجابية محاولاً أن يدخل أعماق تفكيرهم ويفهم دوافع مواقفهم وكأنه طبيب نفساني يضع أمامه معالجتهم وتوجيههم بعيداً عن الحقد والثأر.
وفي تسجيله لتداعيات الحرب العالمية الثانية وما تركته من بلبلة فكرية بين أبناء الشعب العراقي، نجده يستعرض وباختصار ما يدور بين مختلف أبناء الشعب من أفكار وتحليلات وتوقعات وآمال خرقاء وتكهنات متناقضة. فيسجل ما يدور على السن الناس البسطاء والمثقفين الوطنيين، والمعممين وعملاء الإنكليز والألمان ويصور كل هذه التناقضات في أحاديث وحوارات شيقة عايشها أو سمعها. وما ينقله من رأي عن أحد المعممين يعكس طريقة التفكير الأنانية والضيقة لبعض هؤلاء دون أن يفكروا بدمار الحرب والمأساة التي تخلفها، ولا يهم هذا المعمم من كل ما يجري سوى ما يصله من حقوق شرعية: ( .... أجاب معمم آخر وكأنه يلقي خطاباً: "شيخنا أنتظر، ريثما يتحرر القفقاس؟ سترى عند ذاك كم هي الحقوق الشرعية التي ستصل إلينا؟!")
وجدت أحياناً إمكانية إلحاق الهوامش والحواشي والتواريخ التي دونها والدي في أسفل صفحات مخطوطته وحصره بين  قوسين [ ] وتثبيته مع تسلسل روايته، وذلك لتجنب كثرة الهوامش إضافة إلى إني وجدتها مفيدة أكثر لمعنى روايته، وقد أشار والدي في إحدى الحواشي إلى رغبته هذه.
سأنشر من الآن جميع ما كتبه الوالد تحت عنوان (معلم في القرية) في حلقات متسلسلة، وأرجو من جميع الأصدقاء والقراء الكتابة لي في إبداء ملاحظاتهم إن وجدت وسأكون شاكرا.

ألناشر
محمد علي الشبيبي
السويد ‏5‏ آب‏ 2010
Alshibiby45@hotmail.com 
 

معلم في القرية
(19)

من آراء المربي الراحل: (ويل لأمة لا تعرف غير الفخر بالماضي، بينما حاضرها قد قطع صلته بكل ما يجلب الفخر والمنعة.)

مع الكوفيين
علاقتي مع الكوفيين لحد الآن، ما تزال محدودة جداً، ولا أفكر أبداً أن أوسعها. وعلى الرغم من أن الكثير منهم يعرفني، فأنا محدد اتصالي بهم بحيث لم يتجاوز السلام ولقاء المصافحة.
من الذين تعرفت عليهم حاج "صادق" هو كهل محدث لبق متأدب، يجنح إلى الساسة الوطنيين، لكن الكوفيين يدعونه "معاوية" يريدون بهذا إنه داهية، وله مطامحه ومطامعه. ويقولون: "إن أساس تجارته ما أختلسه من عمه". بعضهم يبرر فعلته تلك، التي وصل عمه بسببها إلى شفا جرف الموت. إلى أن ثروة عمه هي إرث لـ "صادق" من جده، والذي كان يعتمد على ولده أبو صادق، وإن الثروة كانت من جهود والده المرحوم الذي توفى قبل عمه، فعاش صادق يتيماً بعد جده، تحت رحمة عمه. لم يستطع أحد أن ينتزع منه اعترافا بالاختلاس، فطرده عمه.
ماذا لو إني وسعت علاقاتي مع مختلف الناس؟ أعتقد إني أخطئ خطأً كبيراً لو إني فعلت هذا، سلوكي الحالي يساعدني على الاحتفاظ برضا الناس، وأداء الواجب، خصوصاً وأنا أوثر فلسفة خاصة مع الناس بصورة عامة. هي أن أكون معهم حال الزيت والماء. وانحرافي عن هذا الحال يخلق لي متاعب، أنا في غنى عنها.
ولكن مهلاً إن هذا السلوك لم يمنعني من الاتصال بأناس هم في ركب المثقفين والأدباء والسياسيين أحياناً. قد أغشى اجتماعاتهم ولقاءاتهم، وهي على الأكثر واهية لا تستند على أساس، فكل هؤلاء الذين أشير إليهم لا يحملون أفكار خاصة في الأدب ولا في السياسة، وارتباطاتهم في السياسة قابلة لحمل أفكار متناقضة، بل هم أيضا قد يتحولون في علاقاتهم السياسية إلى زعماء آخرين يحتلون الحكم.
هنا نمط آخر من الشباب، لهم عواطف سامية نحو القضية الوطنية. لكنهم لا يملكون فكرة معينة من أجلها، وله اهتمامات أدبية، لكنهم مازالوا يفهمون الأدب على نحو ما شاع وأنتشر خلال الفترة المظلمة، ولبعضهم قدرة على النظم الرائع نؤاسي النزعة.
مدير المدرسة الذي أنا معجب بشخصيته، ومتأسف في ذات الوقت، إذ يهدر وقته ويضيع عمره، بين الكأس الذي لا يفارقه في أوقات فراغه وخلال سهره مع لفيف من أمثاله حول مائدة القمار. لا يملك غير ومضات وعي لا تتعدى ابسط المعلومات يأخذها سماعاً من أفواه بعض الشباب الوطني اللامعين حين يلتقي بهم، أو ما تتلقفه عيناه حين يصادف -وهذا نادر- كتاباً أو مجلة أو جريدة، وقد تكون بأقلام غير نزيهة تماماً، فهي تخلط بين الحقيقة والخيال.
ذات يوم أقترح علي أن نؤلف جمعية سماها"جمعية الحنادم" [الحنادم جمع حندم، يبدو من صيغة هذه الكلمة إنه أبتدعها ابتداعاً فلم أجد لها أثراً فيما بين يدي من قواميس. وقد أطلقها على الحمير!]. وبالطبع تكون هذه الجمعية أسماً بعيداً عن أجواء السياسة، وبعيدة أيضا أن يكون تكوينها حقيقة، فهي للهزل، والدعابة ليس إلا.
قال: كل منتم لهذه الجمعية عليه أن يحمل شعارها تحت ياقة سترته، وهو عبارة عن صورة حمار في حال ركلة لصاحبه الذي سقط أرضاً!. أما تحيتنا إذا التقى بعضنا بعضاً فأنها –النهيق- وأما واجباتنا فهي أن نسارع لإنقاذ أي حمار من عصا واعتداء أي إنسان، وإقامة الدعوى عليه، ومداواة الحمار المصاب بجروح أو قروح نتيجة المعاملة السيئة من مالكه ..... شاع أمر هذه الجمعية، ولكن لم نسمح لكل راغب بالدخول بها.
فاجأنا أحد الأعضاء، برواية شعرية ولم يسبق لعلمي إنه ممن يجيد نظم الشعر، ولكني أعرف إنه يحفظ الكثير من روائع الشعر على شكل مقتطفات لمختلف الشعراء وإن كان متميز بحفظ شعر أبي نؤاس في الخمرة والغلمان [هذا العضو هو الشاب المرحوم غني الشيخ علي، كان بزازاً وكان على جانب عظيم من الظرف، سريع النكتة، ولاذعة عند الحاجة. وقد كتبت إلى الصديق جعفر الشيخ علي علّه قد علم بأمر تلك الرواية بعد وفاته، أو له علم بوجودها؟ فأجابني بالنفي وسطر لي أبياتاً من قصيدة ماجنة منسوبة له، وهو يأسف أن نعطي أهمية لأديب من هذا النوع! ولو أن صديقي جعفر أطلع عليها لأكبر صديقنا المرحوم].
هذه المرة جاء برائعة من نظمه، على غرار رواية مجنون ليلى لأحمد شوقي. لقد أجاد في نظمها وأبدع، جعل بطل روايته تلك حندم عاشق متيم بأتان هي في عداد ممتلكات شخصية كبيرة. لكنه في ذات الوقت وصف رائع لمجتمعنا في قيوده وتقاليده، وتناقضاته الطبقية، وحلل الشذوذ الجنسي على لسان الحمار العاشق، إذ يعنفه حمار آخر يسخر من الحب وإنه بدعة بشرية، وحسبه أن يسري عن همه، ويحول حبه إلى صنف الذكور، فالاُتُن أمرهن عسير تماماً كالمخدرات من النساء في العصور الخوالي. إنهن دائماً بعيدات عنا، بين ممتلَكةٍ لشخصية محترمة أو محجوبة عن العيون، فلا ينالها إلا ذو حظ عظيم من الحنادم ذوي الأجساد القوية السليمة، ومن السلالات المعروفة لدى المتخصصين في شؤونها وتملكها من أجل الأحمال والأسفار. فثار الحندم العاشق وأعلن استنكاره بشدة، وقال: يكفي أن يكون هذا الذوق السيء من انحراف البشر عن الذوق السليم، وأنتقل إلى الحنادم عدوى من البشر، منذ أقدم الأزمنة لشدة ملازمة الحنادم لخدمتهم في أسفارهم وأعمالهم.
كان تبويب الرواية إلى فصول منتظماً ومتماسكاً. ومناظر الفصول تحوي المفاجآت والنكات المليحة. وكلماتها رائقة وخفيفة. وقد حاولت قدر المستطاع أن أستعيرها منه لأثبت ملاحظاتي حولها، إلا انه رفض بإصرار. وحين علمت بوفاته، اتصلت بأخيه الأصغر، فأفاد: إنه لا يعرف عن أمرها شيئاً.
ما أزال أبدي الأسف كلما تذكرت ذلك الصديق وروايته وانعدام وجودها بعد وفاته. إنها تحفة تدل على قابلية فذة فيه.
صديقي مدير المدرسة أيضاً له ملكة جيدة في كتابة المقالة، فقد أطلعني على بعض ما كتب، لكنه صار يهزأ في مسألة الأدب، ويحاول التدليل على صحة رأيه فيما يلاقيه الأديب في زماننا هذا من أعراض الناس ومسؤولي الدولة عنه، وطالما ردد هذا البيت:

سوّد الله أوجه البيض والصفر بخــط الذي يكــــون أديبــــــاً

كنت أجادله في مسألة الأدب والأديب رغم إنه يؤيدني في أن الأدب اليوم يجب أن يكون للحياة، وليس كما كان يفكر الأقدمون "الأدب للأدب". قلت له، مع بعد الشقة بين الناس وبين الاهتمام بالأدب، فإن الناس في عصرنا هذا اختلفت نظرتهم إلى الأدب عما كان عليه أسلافهم الذين جعلوا الأدب للمتعة، ولخدمة الفئات الأرستقراطية، فظهر وكأنه صفة أرستقراطية، مكانه قصور الملوك والنبلاء. ولكن الناس اليوم قد أدركوا أن للأديب رسالة لا تقل شأنا عن سائر الرسالات التي تستهدف خدمة الإنسانية، ومكافحة الظلم والاستعباد والاستغلال. بالطبع هذا المفهوم لا يجعل للأديب الذي يقسر أدبه على الغزل والتشبيب، ووصف الأزهار وجمال القمر والشكوى للليل مكانه المرموق سابقاً، لقد بدا نجم هؤلاء الأدباء يسير نحو الأفول.

ومات غازي
وفي صبيحة اليوم الرابع من نيسان 1939 فوجئ الناس بنعي الملك غازي، فساد جو البلد كآبة، وعلا الوجوه كدر، ووجوم.
أول الأمر عندما تولى الملك بعد والده فيصل الأول، تحدث كثير من الناس إنه غِرّ، يميل إلى اللهو، بعيداً عن متطلبات السياسة، وخدمة القضية الوطنية في ظل اعتى مستعمر شرس معروف بنكث العهود والغدر، وبين شعب يريد الأمن والاستقرار، والحرية والكرامة.
ثم تبدلت أفكار الناس حوله، وبالأخص الشباب، حين صارت تروج إشاعات -لو محّصت- ما الهت الناس عما يجب عليهم!
كان مفاد تلك الإشاعات: إن الملك الشاب مخالف لرغبات وإرادة الإنكليز على طول الخط، إنه يتهيأ ليوم يقف فيه علنا بوجه الإنكليز. وإنه هو مقترح نظام الفتوة، وهو مصدر قلق مشايخ الكويت. وهو صاحب محطة الإذاعة السرية التي سماها الناس محطة قصر الزهور. والناس يروون أيضاً عنه، يوم كان والده في سويسرا للتداوي، حين أنتفض الآثوريون وسيّر لهم الجيش ليسدد لهم الضربة بعنف، إن السفير البريطاني قد زار الملك لينصحه برأيه، فما كان من الملك إلاّ أن يثور بوجهه، ثم يقذف محبرة كانت أمامه بعنف، فلو أصابت رأس السفير لشجته، لكنها أخطأته، أو إنه أستطاع أن يميل وينجو من الضربة. ويزيدون -للتندر- إن وجه السفير نال ما فيه الكفاية من الحبر، لقد صار مرقطاً كحقيقته الأفعوانية. وتناهى للناس خبر إن الحكومة أبرقت إلى والده الملك تستعجله بالعودة، إذ اتسع الخرق على الواقع!.
إشاعات أخرى تدور بين الناس، لاشك إنها من خصومه، تشير لعلاقته بألمانيا النازية. وان تأسيس حركة الفتوة هو أحد وجوه تلك العلاقة. كل شيء ممكن. فالمستعمر من مصلحته أن يثير الغبار، وأن تتكاثف غيوم الشبهات، وأن تنشر الريب، وتنعدم الثقة بين الناس.
الإنكليز من جانب والنازية من جانب آخر. والناس -على براءة- يعتقدون عدو عدوهم يمكن أن يكون صديقاً لهم. خاصة وإن هتلر، صار يضطهد اليهود، ويطردهم من ألمانيا. والجمعيات الصهيونية تُهَجرهُم إلى فلسطين. أمر غير مستبعد إن هتلر يبعث جواسيسه إلى فلسطين ضمن الهجرة اليهودية. النازية لا يمكن أن تكون إنسانية مطلقاً، فما نرتجي منها؟
كثير من الشباب صار يعطفون عليها، ويبشرون بها، وبيوم الخلاص على يدي هتلر. أنا كنت واحداً من هؤلاء الشباب، لو لم يتدارك الأمر أخي حسين! فهو بحكم ولعه بمطالعة الأفكار الغربية من مصادرها، واقتنائه الكتب الإنكليزية التي تبحث وتناقش تلك الأفكار بأصول علمية. كان ملماً بحقيقة النازية، ولكنه أيضاً لم تتبلور لديه فكرة معينة تماماً.
والنازية حقيقتها ما تزال مجهولة لدى الكثير من الشباب وتحمسهم لها، ودوافعهم الحقيقية كرههم للإنكليز لا أكثر!
وينتشر بين الناس اعتقاد راسخ بأن عبد ألآله -وهو شقيق زوجة الملك- يحقد على غازي ويعمل لحساب الإنكليز. فهو الأمين الثاني على مصالح بريطانيا بعد نوري السعيد.
حين علم الناس بكيفية النهاية لحياة غازي، انتشرت إشاعات، وحكايات، واتهامات تستهدف عبد ألآله ونوري ومن ورائهم السفير البريطاني "بترسون".
ورغم تبدل أفكاري نوعا ما وتفهمي لنظام الملكية، فإني تأثرت كثيراً عند سماعي نبأ وفاته. ورحت أشارك الناس في تلقف الإشاعات.
والواقع إن ما ذكر من موجز الحادث، عن سيارة الملك وعمود الكهرباء، بعث كثيراً من التساؤل. ولم يقتنع أحد بصحة التأويلات التي أشار إليها المسؤولون في التحقيق. وغمز الناس ما نشر عن وصيته، عن أمر الوصاية على صغيره -فيصل الثاني- كيف تمت تلك الوصية؟ ومتى؟ ولماذا؟
أقيمت المآتم في كل أنحاء القطر. وأندفع الشعراء والكتاب لتصوير فداحة الحادث وعظم الكارثة. وجردت قلمي مع الأقلام فرثيته بقصيدة وكلمة ألقيتها في حفل التأبين الذي أقيم بمدرستي [نشرت القصيدة في مجلة الاعتدال النجفية بعنوان "ننعاك غازي"].
ذهب غازي، فهل سينعم العراق بالاستقرار. من يعلم ما وراء الحجب. وهتلر يهدد ويتوعد. وبريطانيا؟ هل ستبقى العظمى؟ أم ستكون المريض الثاني إن ثارت حرب عالمية ثانية.

مازلنا بخير
بيتي الصغير مؤلف من ثلاث غرف صغيرة في الطابق الأرضي، وغرفة أكبر من هذه في الطابق العلوي. زينته بزهر الرازقي ، وزهور أخرى جميلة، يتوسط فروع هذه الزهور قفص عندليب رائع في تغريده، ربيته صغيراً ونسجت قفصه بيدي. اقتناء الزهور، وتربية البلابل، ونسج أقفاصها على نحو يستهويني، كل هذا كان من هواياتي عند الفراغ.
لكن زوجتي جاءت باعتقاد أخذته من العجائز. لاشك إنه معتقد لا يؤيده العلم، لكنها كانت تصر عليه معددة أمثالاً له حدثت. إنها تقول: "حين يكون عندك أطفال سوف لن يعيش عندك أزهار ولا عنادل!". ومن الغريب إن ذوى زهر الرازقي، وماتت بقية الزهور، بعد ولادة ولدي البكر. يمكن تعليل هذا إني وليت القسط الأكبر من فراغي لطفلي، بينما كان أجمل لهو عندي مداراة الزهور.
ليس في البيت مصابيح كهرباء. فالكهرباء هنا مشروع أهلي. وعلى الرغم من سهولة الاشتراك، فإن غالبية الأهالي يستضيئون بمصابيح نفطية. أما الماء فيزودنا به رجل عجوز بأجر بسيط، مئة فلس شهرياً. وتكاليف المعيشة اليومية لا يكلفنا معدلها أكثر من ثلاثة دراهم.
رغيف الخبز الممتاز بفلسين، ربع كيلو من لحم الغنم بعشرة فلوس، الوزنة من الرز العنبر الممتاز لا يزيد ثمنها على الدينار، دجاجة توشك على البيض بثلاثين فلساً. ثمن البرتقالة المتوسطة الحجم أربعة فلوس، كل شيء من مواد المعيشة ميسور. ومرتبي الذي هو ثمانية دنانير، موزع بين الاستقطاعات التقاعدية، وما أستلفته للزواج من مديرية أموال القاصرين والتاجر الذي أمدني ببعض الأثاث البيتي، وأجور البيت، وما أقدمه للوالد وأخي محمد علي، ولا يبقى منه ما يكفي لمعيشة شهر لولا أجور التدريس المسائي. الذي لا يزيد على الدينار ونصف الدينار. وكثيراً ما نستعين بالقرض من الأصدقاء. أحياناً تطرأ مفاجئات لا تصمد الميزانية المرسومة أمامها فتربك الوضع، وقد تتعدد هذه الطوارئ -كما حدث- فتعقدت أمور المعيشة، وإذا لم تنفرج قبل حلول العطلة فإن مسألة تدبير المعيشة يصبح عسيراً.
مع كل هذا فأنا أعيش في جو مريح، بين عشي الهادئ، وزملائي المعلمين. فمدير المدرسة "البرمكي" يشيع البهجة والسرور بروحه المرح، ونكاته العذبة، وابتكاراته الدائبة للمتع واللذائذ، من برامجه أن نجتمع في بيت أحدنا أو في بستان لقضاء فترة، وأن تكون على نفقة أحدنا.
كانت الدورة تتم كل ثلاثة أسابيع علينا جميعاً عدا واحد منا، المعلم "سلمان الحمداني" كان يحضر الدورات لكنه يرفض أن يشارك ولو مرة واحدة من جيبه الخاص. مع كل الأسف إنه يصرح بقوله: "ما يركب عليّ قايش" [القايش هو الحزام الذي يركب فوق عجلة لينقل الحركة لأخرى في الماكنة. والمراد هنا إنه "واع" ولن يتحرك إلا بعقله لا من خارج أرادته. وهو في الحقيقة "بخيل" وتفسيره هذا ظن سيئ].
وحين كان آخر يوم من الامتحانات أسرّ المدير إلى كل واحد منا أن نُشغل سلمان، فلا ندعه يذهب إلى بيته. فمعلم الصف الأول عادته ينهي امتحاناته قبل الآخرين. وحين أنهينا أعمالنا جميعاً. أقترح المدير بمناسبة حلول العطلة عن قريب، وربما لم نلتقي ثانية في السنة القادمة، فلنجتمع اليوم. اقترحوا أين يكون هذا، في بيت أحدنا؟ في بستان؟ وتصادمت الآراء، وأخيراً التقت بالاجتماع حين قال سلمان: عندي شرط أن يأتي كل منكم بغدائه.
موافقون، قلنا جميعاً، وحاول أن يفترق عنا إلى بيته، فداعبناه، إنا لا نسمح لك بمغادرتنا كيلا تكلف الأهل بعمل شيء زيادة على ما عندكم، ومنعناه بإصرار. هكذا تشاغلنا حتى وافانا فراش المدرسة "عبد الحسين" فأخبرنا سراً إن أمه قالت إن كل شيء أنتهي على ما يرام!
صاح المدير، يا جماعة: إذا يسمح الأخ سلمان نروح الآن، ومن هناك نكلف عبد الحسين أن يجلب أغذيتنا.
وحين وصلنا البيت أنفتل صاحبنا بسرعة غير اعتيادية. إذ أبصر مالا عهد له به قبلاً. الباب مفتوح، وما يقابله من الشارع مكنوس مرشوش. وأسرعنا نحن أيضاً. وجدنا باب غرفة الاستقبال مفتوحاً أيضاً، وجلسنا متأهبين لملاقاته.
كان في ملاحات حادة مع أمه وخالته، يصيح بهن: أنتن أضحوكه! وتقدم إلينا ضاحكاً وهو يهتف: عوافي، على راسي، أخذتم حقكم بجدارة.
ومدت السفرة وانتظمت المائدة تحوي السبزي "السبانغ" والقيمة والدجاج والكباب وماء اللحم والحلوى وأصنافاً من الفواكه.
كل هذه لم تكن في تلك الأيام تكلف شيئاً. فحين وصل الأمر لي، أقترح الزملاء، وعددهم ستة عشر معلماً وفراشان، أن يكون غداؤهم سمك البني المشوي، وحلوى "أنكوش بيج" [الكلمة فارسية، وهي أسم لحلوى عبارة عن خليط من الطحين والسكر، وتتصف بتماسكها ولزوجتها بحيث إذا غمست أصبعك فيها لا تنفصل الحلوى بسهولة عما في الصحن، فهي كالعلكة]، وخبز الطابك والبرتقال. لم يكلفني كل هذا أكثر من 750 فلساً، ليت هذا الرخاء يدوم، فالحرب وشيكة الوقوع، ومصائبها ستكون أشد بلاءً من سابقتها الحرب العالمية الأولى.

ومات البرمكي
أنا ولوع ومعجب به كثيراً، رغم ما آخذه عليه من مساوئ لو كان بعيداً عنها لكان له مكان مرموق في صفوف الشباب الذين تصدروا الحركة الوطنية. فكفاءته ليست دونهم مطلقاً. إدمانه على الخمرة، والسهر على موائد القمار أبعداه عن مجاراتهم في ميدان الكفاح والجهاد. ومع ذلك فقد كانوا يحترمونه كل الاحترام.
كنت أعنفه كثيراً، أطالبه أن يخفف من معاقرة الخمرة. كان يعترف بخطئه. لكنه يعتذر: إنه لا يقوى على ردّ الأصدقاء الأعزة عليه حين يدعونه، إلا أن يتجنب صحبتهم تماماً.
قلت له: أبداً. فانا أشربها مع رفاق لي، وأعلم أن بعضهم يتناولها كثيراً ولكني لن أتناولها إلا مرة أو مرتين في الشهر، وبقدر محدود لا أتجاوزه إلا بدافع قهري -وقد حدث هذا مرتين في حياتي-، وما عرف عني غير أولئك الصحاب إني أشربها، وما رآني أحد قط غير هؤلاء.
وهو مقامر إلى حد تجاوز الإسراف، وقصر في حقوق زوجته الطيبة وأطفاله الأربعة. دعوته مرة للعشاء. فحضر ومعه قنينته. قال ملاطفاً: "عشاء فاخر، لا يليق بي أن أغفل أمرها من الحضور إلى جانبي!". وعلى العادة ذكرته بلطف: "قلل يا أخي، على الأقل، مرة في الأسبوع"
أخرج مفكرة من جيبه، وكتب فيها "بعد هذه المرة أتوب على يد علي، إلا عند الضرورة وما على المعرضات الترك؟! [هذا جواب أسمعه دائماً في اللهجة العامية عند الاعتذار، حين يرتكب ما يمتنع عنه لضرر يخشاه أو محرم] وقع وطلب أن أوقع!. قلت وأخرجت مفكرتي: هاك أكتب في مفكرتي ما كتبت بمفكرتك ثم وقع أيضاً.
في فندق الأعيان ببغداد، كنت مع صديق لي. لم أكن أعرف إنه مقامر ماهر. كان البرمكي حينئذ مع عدد من أصدقائه على طاولة يلعبون "البوكر"، فهمس الصديق بأذني طالباً أن أقدمه إليهم ليلعب معهم. هكذا تم الأمر، وبعد جولتين كسب منهم عشرين ديناراً. وحين عدنا ليلاً -أنا وهو- كان فاقد الوعي من شدة سكره. تهامس أولئك النفر، ودنا منه أحدهم، ودعاه إلى اللعب. فاستجاب لهم. وسرعان ما أعدوا ما يلزم، ولكنهم انتظروا البرمكي. حين قدم أهتاج كمن فقد صوابه. أنهال عليهم لوماً وتعنيفاً: "هذه دناءة، هذا لؤم. نلعب مع إنسان فاقد للوعي. جبناء إلى هذا الحد؟!". وبتذمر دعاني إلى أن نحمله -أنا وهو- إلى فراشه، بعد أن سلمنا ما لديه من نقود إلى صاحب الفندق. أليس هذا نبلاً وشهامة!؟
وبدعوة من صديق أن أزوره ليلاً، وجدت المائدة عامرة بأصناف من الخمرة ولوازمها من المأكولات والمشهيات، وصاحبي "البرمكي" يتصدرها.
- أين التوبة يا أبا سلمى؟
- اسكت يا أخي أنا تبت من التوبة ....
في نهاية حزيران، تأهبت للسفر، أقضي فترة من العطلة الصيفية تنقلاً بين بغداد وسامراء وكربلاء. يوم موعد استلام الراتب، التقيت به، وجدته قد ضاق ذرعاً، لمحت ذلك دون استفسار. بادرني: "خذ مرتبك من المدرسة، إني مريض. سأتوجه إلى بغداد. لا تخبر عني أحداً بشيء مطلقاً!"
في بغداد سألت عن أستاذي وصديقي "عبد الرزاق محي الدين" لأمر يعنيني، فوجئت بالجواب الذي صك سمعي كضربة حجر: "ذهب مع جنازة البرمكي إلى النجف!" واستمر: "هكذا فقده صغاره ضحية الخمرة التي مزقت كبده"
ويلي عليك يا صديقي. أتذكرك يوم وقفت ترثي الملك غازي مستهلاً كلمتك بهذا البيت بعد أن أبدلت "قيس بن عاصم" بـ "غازي بن فيصل":
عليك سلام الله غازي بن فيصل ورحمته ما شاء أن يترحما
وما كان غازي هلكه هلك واحد ولكنه بنيـــان قــوم تهــدما
أبداً يا صديقي. مكان غازي يشغله غيره. وأهداف غازي -إن كان وطنياً كما نعتقد- لن تتحقق إن لم يكن الشعب هو الساعي إليها. ولكن هلكك أنت ما يؤدي إلى هلاك من تركت من الصغار والكبار [ترك أثنين من البنين، واثنتين من البنات]. وقد خلفتهم دون أن تترك لهم من حطام الدنيا شيئاً. وحتى يصيروا كما يرجى لهم، سيرون ألوانا من الذلة والآلام.
سوف لن أنساك، فخطيئتك التي سببت حرمان صغارك من حنانك خير واعظ لي. وإني لآسف عليك.
ما هذا وما سرّه!؟
أعلنت ألمانيا الحرب على الحلفاء، ولابد أن يعلن الحلفاء الحرب على ألمانيا. ألمانيا بزعامة هتلر تريد أن تكتسح العالم، فمن يقف بوجهها؟ أول من يقف بوجهها الحلفاء. لا رحمة بالبشرية، إنما خوفاً على الممتلكات، هي المستعمرات وما في أراضي تلك المستعمرات من خيرات، على ظهرها، ومعادن في باطنها. [ذكر في الصحف نبأ إعلان ألمانيا الحرب على الحلفاء في 3/9/1939]
ولعل ألمانيا لا تخشى الحلفاء بقدر ما تخشى النظام الجديد الذي ولد في ألمانيا، ونما وترعرع في أراضي روسيا ثم شب مفتول الساعدين عملاق الجسم، ترتعد منه فرائص الدول العظمى التي حاولت أن تخنقه يوم أكتسح قيصرية بلاده، وامتلك زمام الأمور. فما حالفها الحظ في إقباره. فإلى أي سبيل سيلتجئ الحلفاء؟
ألمانيا النازية تعلن عليهم الحرب!. وهم يكرهون الشيوعية أكثر مما يكرهون النازية. هم والنازية أخوة. أليست النازية هي الرأسمالية في ذروة غرورها وجبروتها وجنونها؟. بينما هم جميعاً يخشون سطوة النظام الجديد الذي أثبت وجوده في روسيا. وراح يتعاظم يوماً بعد آخر. كانوا قد حاولوا إقباره، وهو وليد ضعيف فما أمكنهم ذلك، فكيف به اليوم. وقد كسب خبرات، ونظم شؤون بلاده، فأكتسح الفقر والجهل والمرض [قام تشرشل وزير الحربية في بريطانيا حين أعلنت وانتصرت ثورة أكتوبر في روسيا بتشكيل جبهة محاربة من 16 دولة ليدحر النظام الجديد فما افلح وانتصرت الاشتراكية بقيادة لينين].
وقطع العراق في 5/9/1939 علاقاته الدبلوماسية مع ألمانيا، شيء حسن -يقول بعض العارفين- كيلا تتسرب النازية إلى العراق. ولكننا نعلم إن جهل الشباب بحقيقة النازية من جهة، وكرههم للإنكليز -كمستعمرين- من جهة ثانية، هما الدافع لأولئك الشباب في توجه أنظارهم نحو ألمانيا، كمن يعتقد إن ألمانيا ستنتصر على الحلفاء، وستطرد كل المستعمرين من مستعمراتهم لوجه الله والإنسانية. وستقيم نظاماً عالمياً موحداً يجمع الشعوب كلها على المحبة والاحترام المتبادل.
قال لي أحد المتحمسين ضد النازية: "تذكر إن الحرية تؤخذ ولا تعطى". صدق. بينما قال أحد مناصريها، متبجحاً: "هتلر زعيم الشباب العالمي، ومنقذ الإنسانية!"
ألا يحق لنا أن نقول، إن قطع العلاقات مع ألمانيا عمل جيد. ولكنه في الواقع لم يكن يتوخى صالحنا أولاً وبالذات. إنه في الحقيقة لصالح بريطانيا ورغبتها. أي إننا تابع، وإن جدت الحرب بينها ستحشد بريطانيا ما شاءت من جيوشها في قواعدها الجاثمة على أرض العراق!
أمر آخر يزيد الدهشة، وسره خفي على الإفهام. فقد نشرت الصحافة في 10/9/1939، خبر وصول الحاج أمين الحسيني، زعيم حركة المقاومة ضد الغزو الصهيوني لأرض فلسطين، إلى بغداد. وتنوعت الإشاعات والتهم حوله. يقول بعضهم: إن الرجل ثعلب ماكر، يهابه الإنكليز فيدفعونه إلى العراق ليكبحوا جماح نشاطه!. ويقول آخرون: إن سرّه انكليزي!. ولكن أيضاً إن تهافت ثوار فلسطين على بغداد، بأنها الملجأ الوحيد، الذي يستعيدون فيه قواهم، ويعبئون حشودهم للنضال!.
إن هذا أمر محيّر. الإنكليز هم أصل البلاء، في محنة فلسطين والفلسطينيين، فكيف يتم هذا تحت سمعهم وعلمهم؟! لعل هذا درب جديد لزيادة محنة الفلسطينيين وتشريدهم!
كل الناس في هذه الأيام فلاسفة في السياسة العالمية. إنهم يتابعون الأخبار في الجرائد، وعند مواعيد نشرات الأخبار في الإذاعة ينصتون للمذيع، أحياناً يتجمعون قرب الراديو، قليل من يقتني الراديو في المقاهي والبيوت، وبدأت سوقه هذه الأيام بالحركة والنشاط خاصة إن وكلاء الشركات أفسحوا المجال بالبيع نسيئة.
كان أكثر الناس يتجنبون اقتناءه مثل أخيه -الحاكي- لكن بروق الحرب ستدفعهم إليه، وسيكون حظ الحاكي سعيداً أيضاً. فانتشار الراديو سيخفف وطأة التحامل عليه، وسيشغل أمر الحرب اهتمام الذين يحاربونها باعتبارهما آلتي طرب.
أعود فأتحدث عن فلسطين. من شرّد الفلسطينيين من ديارهم؟ تحت أية قوة غادروا أرضهم؟ أصحيح إنهم كانوا يبيعون بيوتهم وأراضيهم لليهود بالأثمان المغرية؟ إن الثمن الأضخم كان مدفوعاً للملوك والرؤساء -الصنائع-؟ الثمن الحقيقي كان تيجاناً للملوك، ورؤساء. هم وكلاء الدول الاستعمارية الكبرى، وإن تظاهروا: إنهم لن تهدأ لهم نأمة، ولن تغمض لهم عيون حتى يسترجعوا الحق المهضوم، والوطن السليب من يد الغاصب الأثيم!
ومن يكون هذا الغاصب؟ كيف أجتاز الحدود وبحار وعواصم تسلم عروشها ملوك ورؤساء عرب أقحاح، بالعدد والعُدد فيحتل أرضاً سكانها عرب وتحيط به دول وشعوب عربية، مازالوا ينشدون:
نحن أحفاد أمة سطرت معجزات التأريخ في الكتب
ويل لأمة لا تعرف غير الفخر بالماضي، بينما حاضرها قد قطع صلته بكل ما يجلب الفخر والمنعة.


 

يتبع

السويد 2010-10-17 ‏


من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (18)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (17)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (16)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (15)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (14)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (13)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (12)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (11)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (10)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (9)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (8)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (7)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (6)
من مذكرات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (5)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (4)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (3)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (2)
من كتابات المربي الراحل علي محمد الشبيبي - معلم في القرية (1)



 

free web counter