|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  16  / 3 / 2020                                 محمد علي العامري                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

اليسار العراقي ، من مهمة التغيير الى فلسفة التبرير

محمد علي العامري
(موقع الناس)

قال أبن رشد : إذا كان لم يتقدم أحد قبلنا ، فيجب علينا أن نبتدئ ، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم حتى تكمل المعرفة به .

وقال نيلسون مانديلا : لا يدافع عن الفاسد إلا فاسد ، ولا يدافع عن الساقط إلا ساقط ، ولا يدافع عن الحرية إلا الأحرار ، ولا يدافع عن الثورة إلا الأبطال ، وكل شخص فينا يعلم عن ماذا يدافع

ما الذي أدى باليسار العراقي الى هذا المنحدر الذي جعله يعيش في أزمة مستعصية لازمته منذ عقود ، ليتراجع الى الدرك الأخير ، بعد إن كان يوماً ما هو الطليعة في قيادة الحركات الوطنية الجماهيرية الثورية ، إذ تكيف اليوم على الحالات السلبية والإتكالية ، ولم يكترث لما يدور حوله من تطورات ومتغيرات سريعة وأحداث جسام تشهدها الساحة السياسية العراقية ، فبات دوره مقتصراً على ردود الأفعال السريعة والمؤتمرات التي تلوك وتجتر خطابات ومواقف لم تك نافعة اليوم ، ولم يستطع كسر حواجز هذا الإطار " ليرتقي الى درجة الفعل الثوري القادر على التعامل مع الواقع " (1)

وبدلاً من أن يتجدد ويتطور ، نراه عكس ذلك ، يتمسك بشعارات ومفردات بل وتحليلات كانت قبل خمسين أو ستين سنة صحيحة ، غير أنها لم تعد كذلك اليوم ، الأمر الذي جعل حالة العجز تمتد به لسنوات طويلة ، إنعكست سلباً على مجمل العملية الثورية في العراق والمنطقة أيضاً .

وعندما نحاول تفكيك اليسار العراقي ونضعه على طاولة التشريح ، يتضح لنا دون أدنى شك أنه يعاني اليوم من حالات مرضية تفاقمت خلال العقود الأربعة الأخيرة التي آلت به الى الحالة المأزومة التي يعيشها اليوم ، لنجده في تخبط وعدم توازن ، مما جعله " يسجل الأهداف الخطأ في مرماه ويجيد الأهداف العكسية بطريقة احترافية " (2)

فالمشهد العام لليسار العراقي يوحي بفشله في التحول الى قـوى وقـوّة جماهيرية فاعلة يحسب لها حساب ، ليكتفى بلعب دور النخب الساخطة حيناً والمتحالف على أسس هشّـة وعدم الثقة فيما بين مكوناته حيناً آخر ، فأصبح عاجزاً عن تطوير ممارساته السياسية نحو مزيداً من التجذر في المجتمع ، بل إنتكس نحو مزيداً من الإنغلاق والنخبوية المفرطة ، ليقع في أزمة ثقة متعاظمة فيما بينه من جهة وبين الجماهير من جهة أخرى ، مما أضعفه الى الحد الذي أبعده كثيراً عن مهام التغيير الثوري المنشود ، ليقتنع بفلسفة التبرير .

وفلسفة التبرير هذه باتت ملازمة لنهج غالبية قوى اليسار العراقي المتشضية أصلاً، ودليل على فشلها في عملية التغيير المرجوة التي تعتمد على الحراك الجماهيري الواسع ، هذه الجماهيرالتي كانت ومازالت تتطلع الى قوى اليسار لقيادة عملية تغيير عميق في المجتمع العراقي ، لتحرير الوطن من مظاهر الإحتلال والتبعية السياسية والإقتصادية ، ويقود الى بناء حضاري يقضي على كل مظاهر الفساد والبطالة والفقر والجهل والتخلف ، إلا إنها بقيت تراوح في مكانها دون أي تقدم يذكر ، لترمي بكل ثقل فشلها على الظروف الموضوعية .

نعم ، لا يمكننا هنا أن نقلل من دور الظروف الموضوعية التي كانت ومازالت معرقلاً ، نتيجة القمع والإضطهاد والتهميش التي اعتادت أن تسلكها كل الأنظمة المتعاقبة على حكم العراق ، لكن قوى اليسار العراقي أيضاً فشلت في لملمة صفوفها ورصها في كتلة موحدة ومؤثرة ، بل إنشغلت فيما بينها ، وعمّـقت الخلافات بدلاً من وضع حلول ملموسة وناجحة لتوحيدها ، أو على الأقل للتقارب فيما بينها لتذليل تأثيرات الظروف الموضوعية ، وبهذا يكون المستفيد الأول من تشرذم وضعف اليسار هو اليمين المتنفذ .

وهنا لابد من القول بأن الظرف الموضوعي بالرغم من تأثيره السلبي على مسيرة قوى اليسار العراقي ونضاله ، إلاّ إنه لم يكن العامل الرئيس في أزمته المستفحلة التي يعيشها اليوم ، فأزمة اليسار العراقي هي أزمة ذاتية بالدرجة الأولى ، ومن أهم مسبباتها :

1- عدم تطوير الرؤية السياسية لمعظم هذه القوى ، وبإمكاننا أن نستثني منها الحزب الشيوعي – لأسباب ممكن مناقشتها في موضوع أخر .

2- لم تكن هناك مساهمة جادة لدراسة معمقة للواقع العراقي من الناحية السياسية والإجتماعية وحتى الإقتصادية .

3- ضعف إستجابة الأدوات الفكرية والسياسية والنضالية في خلق مناخ لتغيير الواقع المعاش (3)

4- عدم إستيعاب حدود الإلتقاء والتباين بين الفكر السياسي اليساري وخاصة الشيوعي وبين الفكر الليبرالي وبالذات الليبرالية الجديدة - نيوليبرالي . (4)

5- ضعف قدرتها للتحرك جماهيرياً ، مما أدى الى عدم إلتفاف الجماهير حولها وحول أطروحاتها لعدم وضوح معالمها .
6- الحساسية المفرطة من الحزب الشيوعي - والتي لا مبرر لها - بحيث لا هي قادرة على التحرك بمفردها نحو التغيير ولا هي مستفيدة من الخبرة النضالية والجماهيري للحزب الشيوعي .

7- عدم الإستفادة من تجارب الشعوب في مجال العلاقات بين الحركات الجماهيرية والشعبية والقوى السياسية .

وجوهر أزمة اليسار العراقي تتمثل في :
أولاً - عدم توفر أو بالأحرى عدم خلق (ظرف ذاتي لقوى التغيير) عن طريق إيجاد قوى سياسية راغبة في التغيير وقادرة عليه ، على شكل تكتل أو تحالف أو جبهة أحزاب وطنية فاعلة ومؤثرة، تشمل كل اليسار العراقي .

ثانياً - "لا يوجد برنامج وطني أو ثوري واضح يحوز القبول العام ، ويشكل أساساً لتكتل إجتماعي وسياسي واسع النطاق " (5) ممكن أن نختصرها بـ ( أزمة الفكر السياسي لليسار العراقي ) التي تمنع البحث عن مشروع سياسي في قراءة التحولات والمتغيرات الجيوسياسية في العراق والمنطقة .

ثالثاً - بقي اليسار العراقي محصوراً في صفوف الشرائح المثقفة والنخب التي إستهوتها لغته وخطابه السياسي ، ولم يستوعب روح المجتمع العراقي الذي كان ومازال محتاجاً الى لغة صريحة تعكس مصالحه وعواطفه وأحلامه .

ولا أريد أن أبتعد كثيراً عن واقع الساحة السياسية العراقية ، للتأكيد على أن الحزب الشيوعي العراقي قد طرح رؤاه بوضوح ضمن مؤتمراته وبرامجه السياسية حول كيفية خلق مناخ ملائم لتذليل العقبات التي تعرقل عملية التقارب فيما بين قوى اليسار العراقي ، وكسر حاجز عدم الثقة فيما بينها ، لكن هذا المسعى إصطدم بمعوقات حالت دون تحقيق الهدف المنشود ، لأن معظم هذه القوى ما زالت تعشعش في عقولها الحساسية المفرطة من الحزب الشيوعي كما وضحنا قبل قليل ، ومازالت تعتبر مسعى الحزب الشيوعي لتوحيد قوى اليسار هو مسعى بنوايا الهيمنة عليها والتحكم بها ، مما أدى بها الى التفكك وشبه الإنهيار .

ربما يستشف المتابع من هذا البحث ، بأن هناك حالة ميؤوس منها ، أو أن اليسار العراقي قد أصابه العجز عن إيجاد الحلول الناجعة ، أو أن حبل اليأس والإحباط قد التف على الرقبة .

لسنا بهذا القدر من التشاؤم ، لأن اليسار العراقي بإستطاعته تجاوز هذه المحنة والأزمات التي جاء بها وخلقها بنفسه . ولكن كيف لنا أن نأتي بالحلول ونحن مازلنا نتهرب من الإعتراف بأمراضنا ونخجل من تشخيصها ؟ وكيف لنا تجاوز هكذا محن وأزمات مزمنة إذا لم نقر بأن هناك قصور في الوعي ، وهناك أوهام ناجمة عن الجمود العقائدي الشبيه بالصنمية ، وهناك خلل كبير وخطير وإنحرافات تميزت بمظاهر وظواهر أثرت بطابعها السلبي على مجمل مسيرة وحركة اليسار العراقي .

"لكن بناء الذات اليساري على أرض العمل الجماهيري الواسع والمؤطر والمنظم ، ذو الإمتدادات الوطنية ، وإمتلاك إرادة صلبه فولاذية للتغيير ، وبآفاق رحبة ، كل ذلك سيعكس نفسه ليس فقط على تخطي الأزمة التي يعيشها ، بل سنبدأ في رؤية وتلمس تباشير عملية التغيير على أرض الواقع" (6) والشعب العراقي أنتج الكثير من المفكرين والمنظرين اليساريين المرموقين الذين من الممكن أن يسترشد اليسار العراقي بإنجازاتهم الفكرية والفلسفية ، ناهيك عن التراث النضالي الهائل للشعب العراقي الذي يجب أن نضعة كبوصلة للإتجاه الصحيح نحو التغيير الثوري والتجديد .

جدلية الداخل والخارج :
يحتار المرء فيما آل اليه الوضع العراقي المتردي منذ زمن طويل ، ليضع البلاد اليوم على شفا جرف مخيف ، ولا ندري ماذا تخبئ لنا الأيام المقبلة من رياح يمكن أن تحمله وتقذفه الى الهاوية . وبالرغم من هشاشة الوضع السياسي والإجتماعي ، وخطورة التحركات الأقليمية والدولية وتدخلاتها في الشأن العراقي ، إلا أننا نرى النخب السياسية والثقافية منشغلة بفلسفة (عراقيي الداخل وعراقيي الخارح) وساهمت هذه النخب بشكل عفوي أو خبثاً ببث الشكوك حول وطنية عراقيي الخارج ، وأُلصقت بهم تهمة (المتاجرة بالقضية الوطنية) وعززت هذا التوجه فضائيات وصحف الأحزاب الإسلامية الطائفية المتسلطة والمسيطرة على كراسي الحكم ، لما فيه منفعة كبيرة لها من ناحية وتشتيت شمل اليسار العراقي من جهة أخرى ، مما أفضى ذلك الى تيه قوى اليسار وتخبطها وعدم إستقرارها على أي خط تسير .

فقوى اليسار العراقي خلقت المتاعب لنفسها ، وأخذ كل كيان منه يعمل بشكل فردي ، بالرغم من تفكيره الجمعي عن طريق طرح شعارات شبه موحدة وطروحات متقاربة ، إلا أن تحركاته الفردية ساهمت بإضعافه ، بل تراكمت عليه المشاكل بدل أن تتراكم عليه التجارب " وبدلاً من التشافي والتعافي ، ذهب الى التشفي والتشظي ، كإنه يثأر من أعدائه وينتقم منهم " .

وعليه لابد من مراجعة حقيقية لهذه الأزمة ، ولابد من أن تطوّر قوى اليسار العراقي من إدواتها ، "وفي مقدمة هذه الأدوات هي الرؤية الفكرية النظرية التي تقرأ بعمق كل تعقيدات الواقع ، وتعقيدات الواقع لدينا لا يمكن أن نقرأها وفقاً لصيغ وقوالب جاهزة تأتينا دون أن نُعمل العقل والتفكير ، ودون أن نقرأ غنىً وتنوع الخاص لدينا" (7) ودون أن ندرس بعمق مسببات التراجع ، ومتطلبات النهوض . فقوى اليسار عليها أن تقر بأن نضالاتها لابد وإن تنطلق من أنها ليست بديلاُ عن الجماهير في النضال ، فالجماهير هي الصانع الحقيقي للتاريخ .

حيث قال الأولون : إذا كانت عِلّـتك في بطنك ، فمن أين تأتيك العافية !



13 آذار 2020


المصادر :
(1) أزمة اليسار العربي ، الى أين ( جورج حبش )
(2) اليسار .. ما بين تحدي الوجود ، ومتطلبات النهوض – فايز الشريف
(3) صحيفة الراكوب السودانية
(4) في أزمة اليسار العربي ، بحثاً عن مشروع سياسي -- قاسم عزالدين
(5) نفس المصدر
(6) ما بين تحدي الوجود ، ومتطلبات النهوض -- فايز الشريف – اليسار
(8) فايز الشريف – نفس المصدر



















 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter