|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  12  / 9 / 2013                          لينا النهر                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

مازلت حية
من ذكرياتي عن انتفاضة كربلاء عام 1991
القسم الثاني

لينا محمد كاظم النهر
(موقع الناس)

بعد ليلة طويلة لم يذق النوم فيها احد سوى صغار الدار، بان لون النهار . اكل البعض منا من خبز التنور المخبوز على يد امي ام حامد وزوجة خالي وبدون اي شيئ ثاني معه .

ركبنا السيارة الصغيرة ثانية مغادرين الى مكان بعيد باطراف كربلاء في البساتين الواقعة على طريق بغداد حيث لدينا هناك كثير من الاقارب والمعارف من الفلاحين وهم من اهل الغيرة والكرامة والطيبة ، ناس حقيقيون يقاسمونك كل ما يملكون كضيف حتى قلوبهم .

عند تركنا باب الدار اقتربت اولى الطائرات العراقية ونشرت اطنان من الاوراق تأمر الناس بترك بيوتهم والخروج من المحافظة ، واعدين الناس بانهم لن يأذوا احدا بل هم جاءوا لانقاذ الناس . أذهلنا ما حدث ، كان الحظر الجوي ما زال على العراق ، ومازالت دوريات الطائرات الامريكية مستمرة كل يوم وساعه بعد اخرى . فماذا يحصل ؟! لماذا تملأ الجو طائرات الهليكوبتر العراقيه ؟ هل أملنا بالحظر الجوي الامريكي ومنع الهليكوبترات عنا مزحة ؟؟ كل شيء يمر بسرعة و ذعر ، الناس وتفاجؤهم بما يحصل كل ساعة يترك العقل مشلولاً عن التفكير السليم . هليكوبترات صدامية تطير فوقها طائرات الحرب الامريكية !! وكأنها لا تراها ، كأنها مخفية عنها . سارت السيارة بنا مرة اخرى . الطريق طويل ، لا احد يتكلم ، الكثير من الناس بدأوا بالرحيل.

في منتصف الطريق كانت هناك احدى مفارز الثوار . طلبوا منا كلمة السر . بدأ خالي بالكلام طالبا منهم تركنا لعبور المنطقة للوصول الى اهالينا ولكن دون جدوى أمرونا بالرجوع من حيث جئنا . استمر خالي بالكلام معهم شارحا لهم ما حصل ... المناشير والطائرات . انزلوه من السيارة ، اصابنا الخوف الشديد خلال هذه اللحظات القليلة التي تمر وكأنها ساعات .

جاء رجل مسلح أكبرهم سنا ليتكلم معنا . وما هي الا عدة لحظات حتى بدأ هذا الانسان بالصراخ: اتركوهم هؤلاء بيت ابو ام لينا اشرف الناس . بين نظرات التعجب بمعرفته سارعت امي بالحديث معه من مقعدها الخلفي نعم (يمه) نحن : أزح لثامك كي أرى من أنت ؟ أزاح الرجل لثامه واذا بامي تصرخ : ابو تحرير يا ( يمه ) ابو تحرير ونزل الجميع متبادلين بالسلام الحار وانا اكثر من تحدثً معهم : كبرت عمو! انا صديق ماما وبابا ودموعه على خده. ابو تحرير انسان شيوعي طيب شهم كان مختفيا عن عائلته سنين طويلة ولا احد يعرف عنه شيئا . وها هو اليوم بعد سنين طويلة يقف مسلحا ليأخذ بثأره وثأر عائلته ما اروعه من انسان.

ومررنا ووصلنا الدار التي نقصدها ، وشاهدنا ثقبا كبيرا في واجهة الحائط اثر قصف الهاون. عند دخولنا البيت وجدنا بدل العائلة عدة عوائل . المكان يغص بالناس الهاربة ولا مكان فيه لاكثر منهم . ولكن كرم اهل البيت لا يدعهم اغلاق الباب بوجه قريب او غريب . هذا يبكي وذاك جائع ، هذا ساكت والسيجارة لا تفارق يده وذاك لا يسكت عن سرد ما مر به وعن خوفه مما سيحدث وكيف سيقتلونا ، بدأ صوت هجوم الجيش يعلو ويقترب وعندها عرفنا انه ليس لنا مكان هنا . تجمعنا مرة ثانية لنتجه لمكان اخر . واذا بامي ام حامد تقول لخالي : اذهبوا (يمه) واتركوني انا ووالدك . والدك (ميتحمل الشيل والحط هالكد) . ووافقها خالي الرأي بعد محاولات عديدة فاشلة باقناعها ، على ان نرجع اليوم الثاني لهم . واتفقوا ان يبقى خالي الصغير مع امي وابي وأذهب أنا مع بيت خالي . ودعناهم وامي تقول : لا تخافوا علينا لن يصيبنا سوءا نحن كبار في السن وهنا نحن بين اهلنا وناسنا ، نراكم غدا انتبهوا لانفسكم .

وسارت السيارة بنا الى الطرف الثاني من المدينة متجهين هذه المرة الى طريق النجف . توقفنا لاستراحة قصيرة مع الكثيرين مثلنا بجانب حقل قديم زراعي فارغ . الجوع قد حط بنا . مازلنا صغار واصغرنا الرضيع الذي اصيب باسهال وجفاف حاد حينها . قسموا بيننا قطع الخبز على كبر حجم اليد لكل واحد منا. في الطرف الثاني من الطريق كانت هناك منطقة صحراوية بيننا والمدينة وكانت هذه المنطقة مليئة بالناس الهاربة من بيوتها مشياً على الاقدام. صغار وكبار نساء واطفال اغلب اهل المدينة.. لم نبدأ بالاكل بعد حتى نرى الهليكوبرات محلقة بالقرب منا وفوق رؤس المئات من الناس السائرة على الاقدام . وبدأت بالضرب العشوائي على هؤلاء الناس... علا الصراخ ، وركض الناس بكل الاتجاهات، تاركين من وقع واصيب منهم من الاهل والامهات والاباء وراءهم . اسرعنا ونحن نصرخ الى السيارة واسرع خالي هارباً بنا من المكان باسرع سرعة ممكنة للسيارة . واذا بالسيارات السريعة تلفت نظر الطائرات اكثر ، ظنا منهم انهم معارضين لهم.. وبدأ احدهم باطلاق العيارات النارية من ناحيتنا . خالي يسوق السيارة شاحب اللون ولكنه صلب الاعصاب ويتكلم معنا ويهدئ الوضع . وخالتي تبكي بصوت عالي ، ونحن نصرخ ، وعيوننا لا تفارق الطائرات ونحن نرى الناس تقتل الواحد بعد الاخر وجثث على مد البصر وناس تركض هنا وهناك من دون ايجاد اي شي يختبأوا خلفه . صراخنا يعلو: وصلونه , وصلونه, وصلونه.. لكن الطائرات اتجهت نحو المدينة مرة اخرى تاركة المكان الذي نحن فيه . لربما امر احدهم بقتل اهالي اخرين باطراف اخرى للمدينة ، لعل هذا السبب هو وراء وجودنا أحياء اليوم. اتجهنا والكثيرون الى طريق النجف. ولكن الطريق طويل ، على الطريق التقينا بناس اخرين نعرفهم . راكبين سيارة شحن للرمل يجلس فيها عشرات النساء الخائفات الصارخات خوفاً ويتوسطهن رجل العائلة المعاق بالعين وهو نفسه سائق الشاحنة، يبكي لاطماً : يا خالي ماذا افعل لكن يا خالي ( شبديه عليجن ). يا خالي الى اين اذهب بكن . اخذ خالي العم يدا بيد وذهبا للتحدث . بعد دقائق عادا واتجها بنا جميعاً وعوائل اخرى لاحقة بنا مشياً لداخل الصحراء . لنأخذ من حقول دجاج متروكة مأوى لنا . بيوت كبيرة مبنية من الحديد الخفيف (الجينكو). والتحق بنا فيما بعد الكثير من أهالي كربلاء. وسكنا هناك كالدواجن ، نفتقد الاكل و الملابس و الفرش خائفين مرعوبين ، مشتتي الذهن ، منا من قتل ، ومنا من لا نعرف مصيره، حائرين بما سيحدث. تعاون الاهالي لستر من لم يكن لهن ملابس كاملة ، ولمساعدة الجرحى من الاهالي ومقاسمة من لديه اكل . اما الشرب فكانت هناك ابار ماء الدواجن . ونامت الناس على الارض وعلى ما وجد . كان لنا الحظ بان لدينا سيارة فاغمضنا اعيننا تعباً، فلا احد يستطيع النوم.. بعد ليلتين من القصف على المدينه ، اتجهت القوات بدباباتها وطائراتها نحونا. وفي وقت الغروب بدأ ضرب الرشاش العشوائي ، وبدأ الناس بقراءة سورة الفاتحة وقرأت الامهات الشهادة نيابة عن اطفالهن.

هذه هي نهاية الحلم.. حتى سمعنا صوت امرأة تصرخ بأعلى صوتها ، متجهة نحو الجيش وقد نزعت الشال عن رأسها ، عاملة منه علما ابيضا رفعته نحوهم . تنادي طوال الطريق: لا تضربوا، لا تضربوا، كلنا عوائل فقط عوائل لا تضربوا... لو لم تفعل هذه المرأة الشجاعة ما فعلت لما كنت انا اليوم هنا اكتب عنها . أنقذتنا والمئات من الاخرين غيرنا..

سمحوا لنا بالعودة الى المدينة، وعدنا ومعنا ما يقارب 30 شخص لبيت خالي الصغير. الناس اخذت من بيوت غيرها مأوى لها بسبب منعهم من الدخول الى وسط المدينة .

مياه الشرب اصبحت مياه المجاري الراكدة . و بعد الكثير من العراك مع بقية الناس يمكن لاحدنا ان يحصل على قدر صغير من هذه المياه.. نغليها ونستخدمها بالتقسيط وكأنه ذهب.. اما الاكل فالشكر للجنود الذين حن قلبهم علينا رامين لنا من ما عندهم من علب ارزاق ونحن واقفين بالمئات على طريق عرباتهم متسولين متوسلين بهم ، ممنونين لما يرمى لنا منهم ولما نحصل عليه بعدها بعد عراك طويل مع من بجانبنا على الطريق .

لم نعرف عن امي ام حامد وابي وخالي الصغير وبقية الاقارب شيئا . ذهبنا للبحث عنهم فلم نجد غير بيوت فارغة وبقايا عتاد فارغ بها.. أذكر عند عودتي مع خالي في الطريق وبكائي على اهلي وهو يحاول ان يهون عليّ قائلا: هربوا خالو، لو لم يهربوا لكنا وجدناهم مقتولين بالبيت، لا يوجد أحد يدفنهم.. لمن يسمع اليوم لربما يتساءل ما هذه الطريقه للتهدئه.. لكنها كانت فعالة لانها كانت الحقيقة ، فطرق كربلاء كانت لا يستطيع المرء أن يرى ارضها لكثرة جثث االقتلى فيها ، جثث لا يمكن لاحد ان يجرؤ على دفنها . انهم الغوغاء.. كيف لاحد منا ان يدفنهم امام جيش الحرس الجمهوري.. انهم مندسون بيننا.... توحشت الكلاب من كثر نهشها بجثثهم أمام أعين الناس . بقيت الجثث في الشوارع على حالها أياما طويلة الى أن أنهتها كلاب الشوارع . لهذا اليوم اذكر وجه ذاك الرجل القريب عن بيتنا وكيف تغيرت ملامح وجهه يوماً بعد يوم حيث لم يكن هناك مجالا للعبور من شارع الى آخر دون المرور بهذا المكان .

بقيت الامور على حالها الى عدة ايام وفي منتصف احدى الليالي ذهب خالي ومن معه سراً لرمي بعض التراب عليها .

عادت الحياه الى المدينة يوما بعد يوم بعد أن تهدمت بيوت كربلاء بيت بعد اخر في وسط المحافظه.. وقطعت اشجار النخيل ، وحرقت البساتين.. وعلقت صور صدام الجديدة . وفتحت خانات في صحني الامامين مكان الالاف ممن قتلوا من عوائل واثار دماءهم على الحيطان معلقة صور ما حدث وما فعله الغوغاء بكربلاء ، والجميع اطفالاً وكبار كانوا مجبرين على ان يشاهدوا ويشكروا في المدارس والاماكن الحكومية على انقاذنا....

اليوم وبعد سنين طويله ما زالت الدموع تسيل والقلب يحترق بذكراها وكأنها احداث يوم امس... ويوماً بعد يوم اعجب على الانسان وقوته .

وها انا اليوم موجوده هنا اكتب عن ما مررنا به لتعريف الاخرين به كتاريخ عشته . لم يكن عندنا موبيل ، او فيس بوك او حتى اتصال هاتفي بالعالم ، ليت العالم عرف بما جرى.. وليت من يعتقد ان امريكا تدافع عن الانسانية وتهتم بالناس يفهم ما حصل لنا ويذكر طائراتها التي حلقت فوق رؤس الكثيرين من الذين قتلوا ورموا بالقبور الجماعية معصوبي الأعين من اجل مصالحها . هي نفسها امريكا التي فتحت تلك المقابر حين ارادت اغتصاب العراق واعلان وحشية صدام...

 

مازلت حية - من ذكرياتي عن انتفاضة كربلاء عام 1991 (1)

 


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter