| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأثنين 9 / 9 / 2013

 

مازلت حية
من ذكرياتي عن انتفاضة كربلاء عام 1991
القسم الاول

لينا النهر

الوقت ظهرا،الاجوء غير طبيعيه منذ ايام. الكل ينتظر..ماذا ننتظر؟ لا احد يعرف.. سمعت شيئا ثم اخر.. وتلاه اخر. ركضت الى سطح الدار وتبعتني بنت خالي التي تصغرني بأربعة اعوام ، فتحت باب السطح المطل على اجمل بساتين كربلاء . انصت بكل شوق ، هل هذا هو؟ هل يمكن ان يكون هذا ما يحصل ؟ هل نعيش الحلم الذي طالما حلمنا به منذ سنين؟ انصتنا جميعا بتركيز عالي.. وسمعتها!! طلقات الرصاص !! طلقات الرصاص المنتظر منذ سنين طويلة ، طويله ، شاقة و سوداء . وكأنها زغاريد الفرح. فأسرعت متجهة الى باب (البيتونة) القديمة المبنية من الطابوق الاصفر اصرخ والفرحة لا تسعني . خالوووو خالووو ، يا امي ( يمة يمة ) اسرعوا اصوات طلقات كثيرة جدا حدثت الانتفاضة . خالي المعاق في الساق تسلق السلم وكأنه عداء رياضي ، وخلفه امي ام حامد (جدتي) الكبيرة بالسن وكأنها في عز الشباب . خلال لحظات كان اكثر من يعيش داخل هذا البيت على سطح الدار محاولين كل الجهد الاستماع لأي شيئ .... سمعنا أصوات عيارات نارية واقترب الصوت شيئا فشيئا لقرب البلدية من البستان . بين الفرح والقلق أنزلنا خالي الى داخل الدار مناديا بصوت عال على اخيه الصغير الهارب من العسكرية الذي كان يحرث البستان وقتها يأمره بالركض لداخل الدار . جمعنا جميعاً في غرفة واحدة ، وطلب من زوجته وامي جمع كل الخبز الموجود بالبيت والشاي .

ارتفع صوت الطلقات النارية وصمتنا . ( صمت انتظار وفرح وعجب ) ! هل يحدث هذا فعلاً ؟ انها الانتفاضه! الشعب ينتفض! سنين طويله والحلم اصبح حقيقة . مع تصاعد الاصوات بالخارج بدأ القلق يظهر على ملامح خالي . قلق لم افهم معناه وقتها . لربما الان بعد اكثر من عشرين عاماً فهمت . خالي معاق باحدى قدميه الذي حاول قطعها عن طريق اسقاط سيارة نقل كبيرة عليها بالاتفاق مع اخيه الاصغر خارج دارنا للتخلص من الحروب لانه الرجل الوحيد بالعائلة بعد رحيل الاخرين خارج العراق معارضين للطاغية ، تاركين جدتي العجوز وجدي ، واخاهم الصغير وانا معهم ، بنت اخته وهو وعائلته . كل من ذكرتهم كانوا داخل الغرفة ، خالي وعائلته المتكونة منه وزوجته واطفاله الاربعه ، ابنه الكبير في السادسه عشر من عمره وابنته اثني عشر عاما ، والثانية في الخامسه من العمر وطفل رضيع ، وامي ام حامد (جدتي) وابي ابو حامد (جدي) الملازم للفراش (بعد اصابته بجلطة في الدماغ قبل سنين) . يمكنني ان اقول انه بالشيئ الطبيعي ان يقلق ، فأي عقل يتحمل فقدان عائلة بأكملها وتفكيكها وقتل من افرادها شنقاً وتحمل جلاوزة الطاغية واعتداءاتهم عليه وعائلته؟! بالاضافة الى خالي الصغير الهارب من العسكرية وحياته مرتبطة بورقة اجازة عسكرية مزورة ، وانا بنت السادسه عشر عاما .

حل الليل وخفتت اصوات الرصاص . صعدنا الى سطح البيت مرة اخرى ولكن بحذر فتحنا الباب ورأينا شاحنات الجيش الصدامي تتجه هاربة الى خارج كربلاء. وسقطت كربلاء الصداميه بيد الشباب الابطال وسمعنا المآذن تعلو باصوات الفرح للخبر، وفرحنا.

انتظرنا بشوق قاتل اشراقة شمس الصباح لنعرف الاحداث بوضوح ولنتأكد من انه ليس حلما . حل الصباح والكل في تلك الغرفه متلهفا للخروج ، خرج خالي اولاً ، عاد بعد قليل بابتسامة كبيرة مرسومة على وجهه . صاح اخرجوا صارت بايدينا ، يقولون إن كل المحافظات انتفضت والشمال راح ينزل وكلها تتجمع في بغداد ونسقط النذل ( لطام )!! كانت هذه احلى اللحظات و اشجعها ، اول مرة في حياتي اسمع احدا يتجرأ ويسب صدام علناً!! اخذني وابنته في سيارته ودار بنا في المدينة ، وشاهدنا الفرح والرقص ونزلنا بالشارع ووجدنا امي ام حامد وجارة لنا ترقصان بالعباية مشجعات الشباب المسلحين . ورقصنا معهما حاملات سلاحا خاليا من العتاد . عدنا للبيت في وقت الغداء مسرعين للخروج مرة اخرى. وذهب خالي الاصغر وابن خالي الاخر لجلب السلاح . وحين وصولنا الشارع كان الحال قد تغير . فالرقص والغناء انقلب الى حسينيات ولطم والشوارع الى فوضى وسرقت المستشفيات والاماكن العامة والشباب انقلب الى سيطرات مسلحة تطالب الناس بكلمة السر لتركهم يمرون في الطريق ، كلمة السر المتكونة من كلمات او اسماء احداث دينية.. عادت وبسرعة علامات الهم على وجه خالي وعدنا الى البيت وكلنا اصبنا بخيبة امل.. دخلنا الغرفة وسمعنا صوت خيبة الامل عالياً من امي وزوجة خالي عندما سمعتا ، منعنا من الخروج وحل الظلام على انفسنا قبل ان يحل على السماء . اشعلنا ناراً صغيرة بداخل الغرفة في اناء الاسمنت الذي تعودنا عليه يزين وسط الغرفة من شهور عديدة بعد حرب غزو الكويت وانقطاع الحياة عنا ، نعم الحياة وليس الكهرباء فحسب . فتحت امي الراديو الصغير المربوط على بطارية قديمة للسيارات لنسمع ما يجري . وسمعنا الخبر، وذابت الابتسامة وحل الرعب بدل عنها.. جيش الحرس الجمهوري متوجها لقمع ما اسماهم بغوغاء كربلاء.. نحن.. نحن هم غوغاء كربلاء.. نحن ومن نعرف من الجيران والاقارب والاصدقاء.. نحن من هم في طريقهم الينا ليقتلونا .

بعد نقاش اتفق الكبار لنقلنا جميعاً لبيت احد اقاربنا ، بيت العم واهل زوجة خالي في حي سكني بمكان اخر . ركبنا جميعنا في نفس السيارة - تكسي صغيرة، من الطفل الرضيع للجد المريض والخبز الذي جمعناه معنا . اتعجب اليوم كيف فعلنا هذا وكيف سارت السيارة بنا جميعاً.. ولكن هذا ما حصل ، ربما الموت الموعود هو الدافع . سارت السيارة بلا انارة في الطرق المظلمة وشوارع يسودها الرعب والمسلحين ، المسلحون الذين مازال يملأ وجوههم الفرح والفخر والحماس للنصر . ووصلنا لبيت الاقارب وكأنه بيت اشباح فيه اجساد بلا ارواح . منهم من يبكي ومنهم من يدخن ومنهم من لا يستطيع الجلوس من شدة القلق وامهات تتطلع بوجوه الاطفال وتفرط بالبكاء . لم نبق سوى قليلا ليجمعنا خالي ثانيةً ذاهبين بتلك السيارة وبنفس الطريقة متوجهين لبيت اخر، بيته الصغير المكون من غرفتين صغيرتين ومطبخ في حي بعيد في اطراف المدينة لم تبنى بيوته كلها بذلك الحين . لم يمضي الكثير من الوقت حتى بدات اصوات الهليكوبترات والمدافع تعلو .

يتبع

 


 

free web counter

 

أرشيف المقالات