|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  20  / 9 / 2016                                 لطيف نعمان سياوش                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

 سري للغاية و شخصي و على الفور
(من دفاتر مذكراتي)

لطيف نعمان سياوش
(موقع الناس)

قبل ايام كنت أتفقد أرشيف العائلة ، وصورها القديمة ، ووثائقها التي أصفَرت أوراقها لمرور عشرات السنين عليها ..عثرت على دفتر الخدمة العسكرية الذي يحمل في ثناياه فهرست سنين طويلة من الشقاء، والعذاب في آتون ساحات العرضات ، وجبهات المعارك ، وسوح القتال..
بدأت أتصفح أوراقه ورقة ورقة وعادت الى ذاكرتي بانوراما الايام الحالكة ، حيث بين الخوذة ، والبسطال ، والنطاق دفنت خيرة سنين شبابي ، وأمضيت أحلك أيام عمري.. كنت وكما هو المتعارف في الجيش العراقي وقتئذ شأني شأن أي جندي آخر ابان القادسية المشؤومة فريسة سهلة المنال لضابط أوغل في قسوته، وصرامته، وخشونته . أو حتى عريف أمي جاء من خلف الابقار والاغنام ليتحكم بأولئك الشباب الحلوين ، المثقفين ، والمتعلمين ، خريجي الجامعات والمعاهد ..
أيام وسنين طوال حرمنا فيها من أبسط حقوق الانسان وأسماها وهي الحرية.. وأقتدنا كالقطعان الى آتون حرب سخيفة سقيمة مستعرة لم نؤمن بها .. حرب كانت نتيجة حماقات نظامين (ايران، والعراق) موغلين في الجهالة ، والعنجهية، والتكابر، والتعنت ، والغباء..و..و..حرب لازالت آثارها قائمة على الانسان ، والشجر ، والارض برغم أنطفاء نيرانها منذ أكثر من عقدين ونصف من السنين..
طويت دفتر الخدمة العسكرية ، وتنفست الصعداء ، ورميت به جانبا .. لكن لم تبارحني ذكرى تلكم الايام التي عجنت بها .. تذكرت الكثير من المواقف، والمشاهد التي جمعت بين سهر الليالي ، والخوف، والجوع ، والبرد، والحر، لا بل حتى الاساءات الى كرامة الانسان وشخصيته ..

في الايام الاعتيادية كنت كلما أعود الى البيت أقفز ساقية الماء القريبة من بيتنا في كركوك / عرفه بخفة الى الضفة الاخرى .. اليوم تم تزويدنا بكافة التجهيزات العسكرية ..أرتديت بسطالا ثقيلا لاول مرة ، مع معطف هو الآخر ثقيل ، ورحت أقفز ساقية الماء كبقية المرات ناسيا حملي ووزني ، وسقطت وسط الساقية وأصطبغت يداي ووجهي وثيابي العسكرية بالطين !! كان ذلك اليوم الاول من سوقي الى الخدمة العسكرية ..على الفور سادني شعور بالشؤم ينبؤني أن قادم الايام ستكون محفوفة بالآلآم ، والقهر ، والعذاب!! لا بل ربما بفاجعة قد لا تكون لي طاقة بتحملها..

كنت محظوظا لان صنفي في الجيش كان (كاتب) وتم أختياري للعمل في مكتب التشكيل وهو موقع حساس في السياقات العسكرية لما يحتويه من أسرار خطيرة .. برغم اني لم أكن حزبيا.. تعرفت من خلال عملي هناك على عدد من الضباط بضمنهم النقيب المجند حفظي عبد الله يوسف الذي كان يشغل منصب آمر سرية المغاوير .. كان شابا وسيما ، وعازفا بارعا لآلة الناي .. عندما عرف بأني درست المسرح ، وأحمل معي هوية نقابة الفنانين توثقت علاقته بي ، وصار فيما بعد صديقا حميما يبوح لي بأسراره الشخصية .. كان هذا الشاب ينتهز الفرص مع نهاية كل أسبوع ليشرب الخمر خلسة ، ويلعن الساعة التي جاءت به الى هذا المكان .. لم يكن يشبه بقية الضباط بشىء .. تمكنت في أكثر من مرة أن أقدم أجازته الدورية لمدة أسبوع ،أو اسبوعين من خلال عملي في المكتب..
قال لي ذات مرة : أريد أن أهرب من الجيش .هل توافقني بذلك ؟! قلت له ليس الآن لو دخلت سريتك المعركة ، وقتها بأمكانك فعل ذلك ..ولكن كن حذرا جدا في الاختفاء ، لانك تعلم جيدا أن ما يسمى بجريمة الهروب وقت الحرب في قانون العقوبات العسكري تعني الاعدام..كان جادا بنيته ، ثم طلب مني أن أحاول اجهاض ارسال كتاب ، أو برقية القاء القبض عليه في حال هروبه.. أوعدته خيرا ..

كانت خلفيات التشكيل بما فيها مكتبنا في قضاء (قلعة دزه). أما وحداته كانت في (المتقدم) في منطقة (حلبجه) على الحدود العراقيه الايرانية .. كنت في العمل المكتبي متفوقا على أقراني من خلال الخبرة والممارسة ، لذا أختارني الآمر من بين الجميع أن اقدم له البريد، لاسيما عندما يتطلب ذلك بعض التوضيحات ، والشروحات على مخاطبات المراجع العليا..

كان السياق المتبع في الجيش أن البريد (السري والشخصي) لا يفتح الا من قبل الآمر شخصيا ، أما بقية البريد فيفتح من قبل منتسبي المكتب ..

يوم 1983/5/22 قدمت البريد الى آمر التشكيل ، وكان يحتوي على مظروف مغلق مكتوب عليه (سري للغاية وشخصي وعلى الفور) .. ولما كان الآمر منشغلا بالحديث في الهاتف على ما يبدو مع زوجته ، أومأ بأشارة بأن أتركه لوحده .. عدت أدراجي الى مكتب التشكيل دون أن أعرف محتوى ذلك الكتاب السري والشخصي..

لم تمضي أكثر من ساعتين على تقديم البريد جاءني مراسل الآمر يخبرني أن أرزم فراشي وأستعد للنقل الى سرية المغاوير في المتقدم!!

لم أكن أعرف السر بعد الى أن رافقني كاتب سرية المغاوير وبيده كتاب نقلي مكتوب على غلافه (سري للغايه وشخصي وعلى الفور)!! طبعا في حالة كهذه لا يحق لاحد أن يفتح غلاف المظروف الا آمر سرية المغاوير نفسه ، وهو صديقي النقيب حفظي عبد الله يوسف .. تيقنت بما لا يقبل الشك أن مظروف (السري للغاية وشخصي وعلى الفور) الذي ذهبت به بنفسي الى آمر التشكيل كان يخصني ، لكني لم أعرف تفاصيله بعد..

أخيرا وصلت سرية المغاوير ، وأنا أتساءل في سري اي مهزلة هذه ؟ الفنان ذلك الانسان الرقيق ومرهف الحس كيف سيتأقلم مع سرية المغاوير ، وهي المعروف عنها سرية المهمات الصعبة والشرسة ؟ كنت مرهقا ، وتعبا جدا ، وجائعا ، ومكتئبا لما رآني النقيب حفظي جن جنونه ، كاد يبكي لفرط تألمه وهو يتساءل بألم : ماذا جرى لك؟ لماذا أنت هنا يا لطيف؟ الله أكبر .. ضحكت وقلت له جئتكم بزيارة !! وسلمه كاتب السرية أمر نقلي .. وعلى الفور أمر النقيب حفظي بأنصراف الكاتب ، وأجلسني في غرفته وهو يقرأ كتاب نقلي الذي نص على ما يلي: وردتنا معلومات من دائرة أمن منطقة الجندي المكلف الكاتب لطيف نعمان توما تفيد بأن لديه أخوين (ف) و (م) من عناصر الحزب (......) سابقا ، وحاليا مستقلين. سمعته وسمعة عائلته في المنطقة جيدة ، لذا ينقل الموما اليه فورا الى سرية المغاوير ، ويمنع أستخدامه في المكاتب منعا باتا.. وأعلامنا التحاقه اليكم خلال 24 ساعه..
بعد أن أطلعت على فحوى الكتاب بقيت أندب حظي . اذ كيف أخذتني الغفلة ودفعتني حماقتي بأن أقدم كتاب الوشاية بي بنفسي الى آمر التشكيل؟!! أية صدفة سخيفة هذه ؟ ثم تساءلت في سري كل هذا السري للغاية وشخصي وعلى الفور من أجلي أنا ؟ .. من أنا ؟.. وماذا عساي أفعل ؟.. ما هو موقعي ؟..ما هو منصبي؟..ضحكت ملىء شدقيَ ف (شر البلية ما يضحك) ..ولكن أدركت أن نبؤتي قد تحققت يوم سقطت في الطين !!..

أوعز صديقي النقيب حفظي الى مراسله بأن يأتي بوجبة غداء لي وله بعد أن طمأنني وقال لي: سأكتب كتاب التحاقك ، ولكن غدا ستذهب بأجازة لمدة عشرة أيام ..وعندما تلتحق سأرسلك بأجازة أخرى لمدة عشرة أيام أخرى ، وسلمني عدة نماذج اجازات فارغة ومختومة وقال لي : يمكنك الاستعانة بها لو أقتضى الامر ..

لم أخبر أحدا من الاهل بما جرى اثناء اجازتي.. وعندما هممت بالعودة الى وحدتي الجديدة قامت الوالدة كعادتها في المرات السابقة (تشحنني) بالكليجة ، وطبق من الكيك ، والدجاج المشوي ، مع الفستق ، والجوز، واللوز ، والزيتون ..
قبلتني وهي تنتحب بمرارة قائلة : قلبي ينبأني بأن مكانك خطر يا ولدي برغم تكتمك ، وأحتضنتني بشدة . قبلت يديها .. كنت أتصنع الضحك ، واللامبالاة وبداخلي شعور بالالم. لا أعلم أتألم لحزن أمي ؟ أم أرثي لحالي ؟.. وضعت يديَ أمي على رأسي وأنا أطمأنها : صدقيني نحن بأمان.. صادفتنا جارتنا بربارة أم الشهيد يوبرت تضامنت مع أمي في البكاء ليكتمل المشهد الدرامي حلاوة في الوجع.. ثم جاءت أختي بطاسة ماء سلمتها للوالدة التي رشتها خلفي وهي تمطر الدنيا بالدعوات ، وترجو مريم العذراء أن تحرسني وتعيدني اليها سالما معافى مرة أخرى..

وصلت (حلبجه) ثم سرية المغاوير ، أستقبلني النقيب حفظي وتعانقنا ، ثم دعاني الى غرفته.. نادى مراسله ، قلت له ان كنت تريد ارسال الغداء فلا داعي لاني أحمل ما لذ وطاب ، وأتيت بالدجاج المشوي مع المقبلات .. لما رأى كل ذلك ضحك وقال : والله الليلة لازم نسكر سوية ، وأنعل أبو العسكرية . عندي قنينة ويسكي بلاك ليبل وباجر جمعة .. ثم أردف : غدا نذهب بأجازة معا لعشرة أيام أخرى ، وتجلس بجانبي في السيارة (واز) الى الخلفيات ..

في الخلفيات أخبرني زملائي في المكتب أن أمورهم الكتابية متدهورة جدا ، وتراكم البريد عليهم وسط تأكيدات المراجع على سرعة أرسال معاملات ترقية الضباط لمناسبة تموز القادم (حيث أن ترقية الضباط تكون حسب الاستحقاق في مناسبتي ذكرى عيد الجيش 6 كانون ، و17 تموز من كل عام)

عند عودتي من آخر اجازة لي أوعز آمر التشكيل الى أعادتي الى مكتب التشكيل .عدت وأنا أحسب الف حساب لكل مظروف مغلق سخيف يحمل عبارة (سري للغاية وشخصي وعلى الفور)، ولكي لا أقع في الشرك مرة أخرى قررت كلما يردنا كتاب من هذا القبيل أفتحه وأطلع على محتواه ثم أعيد المظروف كما هو بعناية وبطريقة متقنة ، متنصلا من مبدأ حفظ الامانة لاناس لا يحفظون ، ولا يفون بالوعود..



عنكاوا

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter