|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  4 / 1 / 2017                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

من المسؤول عن زعزعة الأمن والاستقرار والموت بتركيا؟

كاظم حبيب
(موقع الناس)

بعد أن تسلّم حزب العدالة والتنمية السلطة بتركيا، بدا وكأن هذا الحزب الجديد، برئاسة رجب طيب اردوغان، قد تعلم واستفاد من تجربة ودروس رئيس التيار الإسلامي ورئيس حزب النهضة بتركيا نجم الدين أربكان، ومن تجربته الشخصية في التطرف الديني، حين رفع شعاراً متطرفاً يؤكد أن (مآذننا رماحنا والمصلون جنودنا!)، إذ قُدم بسبب نشره الكراهية الدينية إلى المحاكمة في العام 1998 وحكم عليه بالسجن. وفي العام ،2001 وبعد حظر حزب الفضيلة، أسس رجب طيب أردوغان وعبد الله غول "حزب العدالة والتنمية"، الذي فاز في الانتخابات العامة وتسلم السلطة في العام 2002.

في العام 2004 أدرك رجب طيب أردوغان بأن الحرب ضد الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني لن تجلب له وللشعب التركي والشعب الكردي، وأن النظم السابقة كلها فشلت في إيجاد حل للمسالة الكردية، وأن تكاليف الحرب ترهق بارتفاع مستمر ميزانية الدولة وتنهك الاقتصاد التركي، كما أرهقت قبل ذاك ميزانيات الحكومات التركية المتعاقبة وأنهكت اقتصادا، ورفعت من مديونية تركيا الخارجية. وتحت ثقل الأوضاع السياسية والاقتصادية وفشل معاركه العسكرية ضد الكرد، بادر بانتهاج سياسة انفتاح على الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني، فوافق على تقديم برامج تلفزيونية باللغة الكردية، وحدّ من تدخل الجيش في الحياة السياسية، وتوجه إلى تعزيز علاقاته بالاتحاد الأوروبي، ونشط الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية والخدمية بدلاً من توجيهها صوب اقتناء المزيد من الأسلحة أو إنتاجها بتركيا. وبدت سياساته في حينها وكأنها تميل إلى الوسطية و"الحداثة الإسلامية!"، ومواصلة نهج العلمانية الكمالية. وبادر حزب العمال الكردستاني عبر قائده عبد الله أوجلان، بطرح رؤية جديدة أكثر استعداداً للتفاوض والحل السلمي في إطار الدولة التركية، مما ساعد على فتح باب المفاوضات السلمية مع حزب العمال الكردستاني بصورة غير كباشرة.

ومنذ أن توقف القتال مع قوات الپيشمرگة الكردستانية المسلحة التابعة لحزب العمال الكردستاني، حقق أردوغان وحزبه نجاحات مهمة في مجالات السياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية، لاسيما تقليص البطالة وزيادة عدد العاملين، وتحسن مستوى معيشة فئات البرجوازية الصغيرة، بمن فيهم العائلات الفلاحية، والطبقة العاملة. كما إن البرجوازية الوطنية والكبيرة التركية حققت أرباحاً كثيرة وضاعفت من استثماراتها. وتطورت علاقا تركيا مع المجتمع الدولي بسبب بروز ظواهر للديمقراطية والمفاوضات مع الكرد بعد توقف القتال، حتى تصور بعض الكتاب المدنيين العلمانيين البارزين، ومنهم الدكتور صادق جلال العظم، بأن تركيا أصبحت تمثل الإسلام الحديث المدني والعلماني، وسيكون نموذجاً يحتذى به! وقد خالفت رأي الدكتور العظم في ندوة مشتركة عقدت في شهر نيسان من عام 2006 بمدينة كولون بمبادرة من الدويتشة فيلة للحديث عن أوضاع العراق والحرب الدولية وعواقبها. وقد شجعت دول الاتحاد الأوروبي هذا النهج الجديد في سياسة تركيا الرسمية، وبدا وكأن مسالة انضمام تركيا كعضو كامل بالاتحاد الأوروبي لم يعد بعيداً!

إلا إن هذه النجاحات المهمة قد استدعت جانب آخر في شخصية أردوغان، التي لم تكن واضحة تماماً، رغم تخرجه من مدرسة دينية وعضويته في الحزب الإسلامي منذ العام 1972، وهي تنظيمات تشكل جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين الدولية، وبرزت في تنامي شعور قاتل بالغرور ونرجسية مرضية واقتناع ذاتي لدى رجب طيب اردوغان بأن العالم الذي رحب به، سيقبل به أيضاً حين يمارس سياسات أخرى على الصعيدين الداخلي والخارجي، خاصة وأنه أصبح قوة كبيرة بمنطقة الشرق الأوسط. واقترن ذلك بالانهيار الموقت للربيع العربي واحتواء نتائجه من جانب الأنظمة والقوى الاستبدادية والعسكرية وقوى الاسلام السياسي بمنطقة الشرق الأوسط. وشعر بأنه قادر على ممارسة دور جديد بمنطقة الشرق الأوسط وخلق تحالفات جديدة له، فبادر إلى انتهاج سياسة تدخل مباشر وفظ بشؤون مصر وتونس وليبيا بالارتباط مع انتمائه لتنظيم الاخوان المسلمين الدولي. واقام تحالفاً جديداً مع المملكة العربية السعودية ودولة قطر، وأحتوى أجزاء من المعارضة السورية ودفع بها صوب استخدام السلاح ضد النظام الدكتاتوري البعثي وبشار الأسد، إضافة إلى بدء دعمه المباشر والمكشوف للقوى التي تركت القاعدة وأسست التنظيم الذي أطلق على نفسه "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وفتح الحدود له للولوج إلى سوريا والعراق مستثمرا الصراعات الدموية والسياسات الطائفية والشوفينية التي مارسها الدكتاتور الصغير رئيس وزراء العراق السابق نوري المالكي. ولم يكتف بذلك بل خلق الذرائع وقطع المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني وبدأ حربه العدوانية ضد الشعب الكردي مجدداً.

إلا إن تحالفه مع السعودية وقطر وسياساته ضد الشعب الكردي بكردستان تركيا، وتعاونه الشديد مع عصابات داعش، التي وفرت له النفط الخام بأسعار خيالية منخفضة، لم تجلب لتركيا وشعوب المنطقة سوى المزيد من الموت والخراب والدمار والبؤس. وأصبح التنظيم التكفيري الذي ساهم بتكوينه وإطلاقه، يهدد تركيا ذاتها، خاصة بعد أن وقفت الولايات المتحدة، التي سكتت قبل ذاك عن دور هذه الدول الثلاث في تشكيل ودعم داعش، ضد تنظيم داعش، بسبب المخاطر التي بدأ يشكلها التنظيم على دول المنطقة وأوروبا، بل وكذلك الأمن القومي الأمريكي. فمنحت الولايات المتحدة حق استخدام القاعدة الجوية انجرلك بتركيا لقصف مواقع داعش بالعراق وسوريا، وأعلنت دخولها في التحالف الدولي ضد الإرهاب. لقد استفز هذا القرار تنظيم داعش الذي كان يحتمي بأردوغان ويحصل على دعم لوجستي كبير وحقق له عمقاً استراتيجياً في الحرب ضد العراق وسوريا. وتدهورت العلاقات مع قادة داعش، وأغلبهم من قادة البعث الصدامي ممن كانوا في القوات المسلحة والمخابرات والأمن بالعراق، فتحركوا إلى تنفيذ عقاب صارخ ضد ردوغان والدولة التركية، بأرسال انتحاريين وتنفيذ عمليات انتحارية.

لقد أدى ارتداد أردوغان عن بعض مظاهر الديمقراطية والعلمانية وعودته إلى ممارسة نهج الإسلام السياسي المتطرف إلى نشوء حرب فعلية بين القوات التركية وقوات الشعب الكردي المسلحة بقيادة حزب العمال الكردستاني أولاً، وإلى حرب أخرى مع عصابات داعش بسبب "خيانته!" لها. ولم يكتف بذلك بل مارس سياسات اضطهاد وغوص في الاستبداد ومحاربة القوى السياسية الإسلامية المنافسة له على السلطة والمال والنفوذ بتركيا، جماعة فتح الله كولن، مما تسبب في بروز محاولة انقلاب عسكري ضد حكومته وضد أردوغان ذاته، رغم إن البعض يعتقد بأن القضية كلها كانت بتدبير منه، وكان بالإمكان إيقافها قبل وقوعها، إلا إنه كان يريد استخدامها كذريعة لتصفية خصومه من اليمين واليسار في آن واحد. وقاد الأمر إلى اعتقال عشرات الآلاف من القوات المسلحة ومن أجهزة الدولة المدنية والقضاء ووزارات التعليم والداخلية والخارجية، وطرد عشرات الآلاف من وظائفهم ورميهم على قارعة الطريق. وخلق هذا الوضع انقساماً في الشارع التركي وعداءً لأردوغان وأتباعه بتركيا.

إن طموح أردوغان لا نهاية له، فهو قد وجه ضربات قاسية لحزب الشعوب الديمقراطي بتركيا وأدخل الكثير من نوابه في السجون بتهم التعاون مع حزب العمال الكردستاني. مما أدى إلى تعميق الشوفينية التركية ضد الكرد والذي يبرز بوضوح في تصريحات المسؤولين الترك. كما أدى إلى الإخلال بميزان القوى في مجلس النواب لصالحه بهدف إجراء تغيير دستوري يتم بموجبه إقامة نظام رئاسي وبصلاحيات مطلقة تقريباً وشكل دور وصلاحيات مجلس النواب التركي. لقد فقد الرجل وعي الواقع القائم والعواقب التي تسبب بها نهجه الشوفيني والديني والطائفي بتركيا وبدول مجاورة. لقد بدأ يشعر بأن الوريث الفعلي لسلاطين الدولة العثمانية وعليه أن يتصرف مثلهم، فبئس الخلف والسلف!

من هنا يمكن أن نعرف بأن هناك أكثر من طرف لم يعد قادراً على تحمل سياسات أردوغان المستبدة، وهو يسع صلاحياته وحكمه المطلق ويقضي على كل ما بدأ به في العام 2004 من إصلاحات ملموسة وإيجابية.

إن الاستقرار الذي نعمت به تركيا قد غادرها، وحل محله عدم الاستقرار وغياب الأمن والمزيد من التفجيرات والمزيد من القتل والدمار باسطنبول وفي غيرها من المدن التركية. وأدى ذلك إلى موت وجرح الكثير من المواطنين والمواطنات الأبرياء وخسائر مادية كبيرة، وإلى تراجع شديد في السياحة التركية وفي سعر صرف العملة التركية وفي ضعف معدلات النمو، إلى تزايد في عدد العاطلين عن العمل والراغبين في الهجرة من تركيا وطالبي اللجوء السياسي بالخارج. والجواب عن السؤال الذي احتل عنوان المقال يشير بما لا يقبل الشك بأن أردوغان هو المسؤول الأول عن تدهور الأمن وتراجع الاستقرار بتركيا، وزيادة عدد القتلى والجرحى الناتجة عن جرائم العميات الانتحارية والتفجيرات الإرهابية بسبب نهجه الإسلامي السياسي المتطرف وتخليه كلية عن حتى مظاهر الديمقراطية والعلمانية وتحالفه التدمير ولفترة غير قصيرة مع عصابات داعش الإرهابية وقوى القاعدة وتدخلة الفظ في شؤون الدول المجاورة. وهو بذلك يقدم الدليل الجديد بأن قوى الإسلام السياسي ليست قادرة، بحكم ذهنية التمييز والاستبداد والرغبة في احتكار السلطة وفرض حاكمية الله على المجتمع، على قيادة البلاد وعلى ممارسة الديمقراطية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإنها ليست ظالمة ومتعفنة حسب، بل وفاسدة ومفسدة وليست من هذا العصر، وهو ما يؤكده مجرى الأحداث بالعراق في ظل النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية المذلة للوطن والمواطن.

 

 



 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter