|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  4 / 6 / 2018                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

     

الحركة القرمطية

د. كاظم حبيب
(موقع الناس)

نشر الكاتب السيد الدكتور رضا العطار بتاريخ 29/05/2018 مقالاً في موقع (صوت العراق) تحت عنوان " دولة القرامطة تماهت بالشريعة الاسلامية وطبقت الاشتراكية البدائية وتغزلت بالمجوسية من بعيد! ح 7"، تحامل فيه بقسوة على الحركة القرمطية مستنداً في ذلك إلى بعض الكتاب العرب الذين اتخذوا أساساً موقف العداء من كل الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية المادية في التاريخ والفكر العربي والإسلامي، ومنها الحركة القرمطية وحركة الزنج مثلاً، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر علي أحمد باكثير، في كتابه الموسوم "الثائر الأحمر. أنشر هنا ما ورد في كتابي الموسوم "لمحات من عراق القرن العشرين في المجلد الأول منه (11 مجلداً) الصادر بتاريخ 2013 عن دار أراس - أربيل - كردستان العراق - العراق، وتحت عنوان "الحركة القرمطية" النص الآتي. وبعد الانتهاء من نشر هذا النص، سأبدأ بمناقشة ما نشره الدكتور رضا العطار بهذا الصدد. كاظم حبيب

كانت الحركة القرمطية واحدة من بين مجموعة مهمة من الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية المعارضة التي ظهرت في العهد العباسي في العراق وفي مناطق أخرى من الدولة العباسية، مثل البحرين واليمن والأحساء والشام (1)، التي عبرت في اتجاهاتها الأساسية عن حيوية فكرية وثقافية متميزة وعن تطلع مشروع نحو العدالة الاجتماعية وعن استعداد كبير لمقاومة الطغيان والظلم. واستندت أكثر هذه الحركات الفكرية والسياسية إلى أرضية الدين الإسلامي في بلورة افكارها وصياغة مهماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. إلا أن هذه الحركة كانت متميزة، بالقياس إلى بقية الحركات الفكرية والسياسية في العراق، بسبب اتخاذها أبعاداً اجتماعية أكثر شمولية وعمقا وأكثر التصاقاً بحياة الغالبية الواسعة من كادحي الريف والمدن العراقية في الوسط والجنوب، وأكثرها تأثرا بالفكر الفلسفي اليوناني المتحرر، وأكثرها استفادة من الحضارات التي مرَّ بها أو عاشها العراق القديم، أو الثقافات المجاورة التي تأثر بها المجتمع العراقي حينذاك، وخاصة الثقافة الفارسية. وعند متابعة أفكار هذه الحركة ونشاطاتها السياسية والاجتماعية وما قامت به وما كانت تنوي تحقيقه، أو بتعبير آخر برنامجها البديل للمجتمع والدولة العباسية، سواء كان ذلك في العراق، أم كانت امتداداتها في البحرين، على وجه الخصوص، وفي بلاد الشام واليمن والأحساء، يجد الباحث من الأدلة ما يؤكد أنها كانت قد تجاوزت عصرها، من الناحيتين الفكرية والسياسية، وكذلك في الجوانب التنظيمية، بقرون عديدة. ويمكن أن يلاحظ ذلك بوضوح فيما طرحته حركة القرامطة من أفكار واتجاهات وآفاق سياسية واقتصادية واجتماعية ذات مضامين إنسانية استطاعت في ضوئها على تعبئة كثرة كاثرة من الأنصار والأتباع حولها، كما تسنى لها ممارسة تلك الاتجاهات على أرض الواقع الفعلي، في البحرين ولعقود كثيرة. والحركة القرمطية تلتقي في بعض أبرز أهدافها مع الحركة البابكية في إيران وحركة الزنج في العراق مثلا، رغم وجود ما يميزها عنهما أيضا.

إن دراسة الفكر القرمطي وأفكار الكثير من الحركات الفكرية في ذلك العصر تشير إلى أن أغلبها انطلق من بانوراما فكري-سياسي شيعي واسع ومن مواقع سياسية ودينية معارضة للنظام السياسي وللدين الرسمي اللذين كانا قائمين حينذاك. فقادة الحركة القرمطية انحدروا من صفوف الحركة الإسماعيلية أو تبنوا أفكارها ثم اختلفوا معها (2). كما أن أرضيتهم الشيعية لم تجعلهم متطابقين مع الشيعة في العديد من وجهات النظر. اختلفوا عنهم في الموقف الثوري المتحرر واتسامهم بروح التسامح إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، كما أنهم بنوا موقفهم الفكري والسياسي على أرضية الواقع الاجتماعي وانطلاقا من مصالح الفئات الأكثر كدحا وحرمانا في المجتمع، كأبناء العشائر العربية الفقيرة والفلاحين الأنباط والزنوج الكادحين في المناطق الواقعة بين الكوفة والبصرة، أي على فلاحي الريف وسكان البادية وحرفيي المدن الأكثر تعرضا للاستغلال والاضطهاد والحرمان. وتميزت حركة وأفكار القرامطة لا برؤية واقعية للمجتمع فحسب، بل وبنزعة مادية عقلانية لا تهدف إلى شرح الواقع السيئ القائم ورفضه والتبشير ضده فحسب، بل كانت تسعى أيضا إلى تغييره وإقامة بديل عنه. وإذا كان هذا الاتجاه الاجتماعي والسياسي المغلف بمواقف دينية ذات اتجاهات معتزلية وإسماعيلية أو شيعية عامة غير واضح في بداية الدعوة للحركة وأفكارها، مما ساعد على إهمال مكافحتها من جانب الدولة العباسية والولاة في مناطق نشاطها، فأنها واجهت فيما بعد حملات واسعة من جانب أعدائها لتشويه طبيعتها واتجاهاتها الفكرية والسياسية ومضامينها الاجتماعية والاقتصادية والدينية في محاولة من هؤلاء الأعداء للإساءة البالغة لسمعة ونشاط الحركة وقيادتها والعاملين فيها، إلى جانب ممارسة الإرهاب الدموي المتواصل ضد دعاتها والملتزمين بأهدافها والمدافعين عن أفكارها. ويستشف من مصادر كثيرة تبحث في وتتحدث عن الحركة القرمطية بأنها كانت من أكثر الحركات الفكرية في الإسلام تحررا وثورية ودعوة لإقامة العدالة الاجتماعية بين الناس وإرساء الحكم على تلك الأسس. وكان القرامطة مقتنعين بأن الحكام العباسيين الذين يتحدثون باسم الإسلام كانوا أبعد الناس عن المبادئ التي بشر بها الإسلام.

لم تكن الدولة العباسية وحدها تحارب القرامطة وتحاول القضاء على حركتهم السياسية، بل شاركت معها جماعات وشخصيات دينية بارزة سعت إلى استخدام الأساليب المعروفة في مكافحة مثل هذه الحركات، باعتبارها حركة خارجة عن الدين الإسلامي وتقف ضده، وهي في نظرهم ذات أهداف الحادية ومزدكية أو مجوسية أو مانوية أو حركة زنادقة. وكان أبو حامد الغزالي من أكثر المتطرفين في مناهضتهم ورفض توبتهم (3) ، والذي كان لا يعني سوى حل سفك دمهم، في حين تشير بعض المصادر إلى أن أبا حنيفة قد أفتى بالقتال إلى جانبهم حينذاك، وأن أخرين رفضوا اعتبارهم خارجين عن الإسلام. ويمكن فيما يلي ايراد نماذج من أساليب الإساءة للقرامطة :

أورد ميكال يان دي خويه في كتابه عن القرامطة، نقلا عن المقريزي، ما يلي: "وأقام الدعاة في كل قرية رجلا مختارا من ثقاتها يكلف بجمع كل ما يملكه أهل القرية من ماشية وحلي ومتاع وما إليها... لم يعد أحد منهم يملك شيئا سوى سيفه وسلاحه. فلما ترسخت هذه المؤسسة، أمر قرمط دعاته بجمع جميع النساء ذات ليلة ليختلطن بجميع الرجال من غير تمييز. كان ذلك في نظره منتهى الصداقة والاتحاد الأخوي. وإذ آنس من نفسه السيطرة التامة على نفوسهم وتيقن من طاعتهم له، أباح لهم النهب وكل ما شابهه من التجاوزات، وعلمهم ان يخلعوا نير الصلاة والصوم وسواهما من تعاليم الإسلام، قائلا لهم إن معرفة المعلم والحقيقة التي أطلعهم عليها تكفيهم مؤونة كل ذلك. وأنهم إن ثبتوا في الأيمان فلا خوف عليهم من المعصية والعقاب" (4). ويؤكد الكاتب نفسه إلى أنه ليست هناك أية دلائل تؤكد مثل هذه السلوكية إزاء النساء عند القرامطة، وهي تهم وردت في كتابات أعداء القرامطة، إذ أن كل الدلائل تشير إلى أنهم كانوا يشكلون فرقة من الفرق الإسلامية الأكثر وعياً وتقدماً واجتهاداً والتي كانت قد تصدت بحماس ومسؤولية ضد حكم الظلم والفساد. ومن الممكن أن تكون للقرامطة اجتهادات معينة إزاء الصوم والصلاة أو إزاء الحجر الأسود في الكعبة وغيرها من القضايا الدينية، ولكن من غير المعقول والصعب حقا اتهامهم في ظروف المجتمع العراقي او البحريني أو الإسلامي حينذاك وبشكل عام بإشاعة أو إباحة المرأة بين الرجال وبالطريقة التي تحدث عنها أعداء الحركة القرمطية. ولكن هذا لا يعني أن المرأة لم تتمتع بالحرية في عهد القرامطة والتي كانت تشارك في الإنتاج وفي تقديم الدعم المالي والعيني للحركة. جاء في كتاب محمد بن مالك بن أبي الفضائل الحمادي الموسوم "كتاب كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة" حول سلوك القرامطة ما لا يعقل في ظروف العراق حينذاك، إذ كتب حول طريقة الدعوة وكسب المريدين الجدد، إذ بعد أن يبلغ "المخدوع الجديد" الدرجات الأربعة، أي التخلص من الصلاة، ثم السماح بشرب الخمر ولعب الميسر، ثم التحرر من الصوم، ثم التخلص من الطهارة، ولم يبق له سوى درجة واحدة ليصل إلى مبتغاه فيقول: "يا مولانا إن عبدك فلان قد صحت سريرته، وصفت خبرته، وهو يريد أن تدخله الجنة، وتبلغه حد الأحكام وتزوجه الحور العين، فيقول له: قد وثقته وأمنته؟ فيقول يا مولانا قد وثقته وأمنته وخبرته فوجدته على الحق صابراً ولأنعمك شاكراً، فيقول علمنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا نبي مرسل، أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه بالإيمان فإذا صح عندك حاله، فاذهب به إلى زوجتك، فاجمع بينه وبينها، فيقول سمعا وطاعة لله ولمولانا، فيمضي به إلى بيته، فيبيت مع زوجته، حتى إذا كان الصباح، قرع عليهما الباب، وقال: قوما قبل أن يعلم بنا هذا الخلق المنكوس، فيشكر ذلك المخدوع، ويدعو له، فيقول له: ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا، فإذا خرج من عنده تسامع به أهل هذه الدعوة الملعونة، فلا يبقى أحد إلا بات مع زوجته، كما فعل ذلك الداعي الملعون ثم يقول له: لا بد لك أن تشهد المشهد الأعظم عند مولانا، فادفع قربانك، فيدفع اثنى عشر دينارا (5)، ويصل به ويقول يا مولانا، إن عبدك فلان يريد أن يشهد المشهد الأعظم، وهذا قربانه، حتى إذا جن الليل ودارت الكؤوس، وحميت الرؤوس وطابت النفوس، أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم، فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفأوا السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه في يده، ثم يأمر المقتدي زوجته أن تفعل مفعل الداعي الملعون، وجميع المستجيبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل له فيقول: ليس هذا من فضلي، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين فاشكروه ولا تكفروه، على ما أطلق من وثاقكم ووضع من أوزاركم، وحط عنكم آصاركم ووضع عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم جهالكم (وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم)" (6). من قراءة هذا النص الطويل الذي أوردته يدرك الإنسان مدى الكراهية التي كانت تتحرك في صدور جمهرة من المسلمين المتزمتين المرتبطين بالسلطة حينذاك إزاء هذه الحركات التي استطاعت أن تكسب تأييد جمهرة الكادحين وأن هؤلاء عجزوا عن محاربة الحركة فكريا وسياسيا فتوجهوا صوب الدس الرخيص عليها بطريقة تعبر عن مرض نفسي يعاني منه هؤلاء الكتاب أو رجال الدين المتزمتين (7). اتُهم القرامطة بالإباحية والكفر والارتداد عن الإسلام. واتفق أكثر الكتاب المسلمين حينذاك على توجيه هذه التهم إليهم لا لأنها صحيحة أو اختبروها بأنفسهم، بل كانت ترديدا لما قاله عنهم بعض رجال الدين من أصحاب السلطة حينذاك والمدافعين عن الخلافة العباسية بغض النظر عن مظالمها وعن عدالة القضية التي كانت هذه الحركة تدافع عنها. لقد كان البعض منهم يأخذ عن البعض الآخر ما ورد في كتاباته دون تمحيص أو تدقيق. وليست هناك حركة معارضة جادة ظهرت في تلك الفترات إلا واتهمت بمروقها عن الإسلام والإباحية والكفر وتوجهت نيران الإسلام الرسمي ضدها. إنها الأداة التي تستخدمها القوى الظلامية والمحافظة لمهاجمة حركات التحرر الفكري والتنويري في كل مكان وزمان، وهي ما تزال تواجه قوى التغيير في المجتمعات المختلفة حتى الوقت الحاضر، وخاصة في المجتمعات التي ينتسب أكثر أفرادها إلى الإسلام.

يورد هادي العلوي عن اغتيال أبو سعيد الجنابي منشئ الحكم القرمطي في البحرين ما يلي:
"منشئ الحكم القرمطي في شرق الجزيرة العربية. قتله خادمه في الحمام. ولم يذكر سبب مباشر لقتله لكن أبن العماد يقول إنه راود الخادم في الحمام فاضطره إلى قتله. وهذا أتهام مندرج في عداد التشنيعات التي روجها الإعلام السني ضد الباطنية ولم يعرف زعماء القرامطة مجون أو فجور يجيز الشك في سلوكهم. إذا استثنينا الحسن الأعصم حفيد أبو سعيد الذي حكم بعده بستين عاما وكان سيء السلوك والسياسة معا وبسببه اضطر القرامطة إلى إبعاد أسرة الجنابي عن الحكم" (8). وتشير الكثير من المصادر إلى أن مؤامرة كانت قد حيكت لقتل زعماء القرامطة، إذ أن الخادم قد استدعى آخرين بحجة دعوتهم من قائدهم أبو سعيد الجنابي ثم اغتالهم حتى انتبه إلى ذلك أحدهم وقام بمساعدة آخرين بالقبض على الخادم (8). ويعتبر الكاتب علي أحمد باكثير أكثر الكتاب العرب المعاصرين حقدا وكرها وتشنيعا بالقرامطة. ويمكن للإنسان أن يطلع على تشنيعاته المبتذلة وغير المعقولة والمسيئة للحركة القرمطية في كتابه الموسوم ب "الثائر الأحمر" الصادر في القاهرة. ولعب الحنابلة، والغزالي على نحو خاص، دورا كبيرا في السعي من اجل تشويه سمعة القرامطة والإساءة لهم. كما كانوا أشد خصوم المعتزلة، باعتبارهم جماعة كافرة، وساهموا مساهمة كبيرة في اضطهادهم (10).
كانت تجربة القرامطة في العراق غنية جدا وذات قيمة تاريخية من جوانب ثلاثة، هي: الجانب الفكري والجانب الاجتماعي والسياسي -الإعلامي والجانب التنظيمي.

ظهرت الحركة القرمطية في نهاية النصف الأول من القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي)، أي في فترة نمت فيها ونشطت الاتجاهات الشيعية وحركة المعتزلة والمتصوفة وإخوان الصفا وخلان الوفا. واتسع نشاط هذه الحركة وتعززت مواقعها وبدأت أولى فعالياتها ضد الدولة العباسية في فترة كانت الحركة البابكية قد سبقتها، ثم تزامنت مع حركة الزنج بقيادة على بن محمد في العقدين السادس والسابع من القرن الثالث الهجري. وكان ظهورها الأول في الكوفة وفي المنطقة الممتدة حتى البصرة وبين أوساط النبط والزنج من الفلاحين وبين أفراد العشائر العربية في المنطقة التي كانت تعاني من الحرمان ومن استغلال بشع. كما انتشرت أفكار الحركة في أوساط الحرفيين في الكوفة والبصرة. وكانت هذه المناطق بشكل عام مواقع تعرفت قبل ذاك على أفكار ونشاطات الحركات الشيعية والمعتزلة والإسماعيلية والمتصوفة. وكان لهذا الواقع تأثيره البارز على الجانب الفكري لحركة القرامطة، إذ كان فكرا متفردا جمع بين بعض أبرز مقولات المعتزلة مثل خلق القرآن واعتماد التأويل في تفسير القرآن والسنة، إضافة إلى الأخذ بمبدأ العدالة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلا. كما أنها أخذت عن الشيعة، وبحرية نسبية، مفهوم الإمامة، وكذلك القول بالمهدي المنتظر. ومن الجدير بالإشارة إلى أن "المنتظر" الذي يتحدث عنه الشيعة لا يبرز عند المسلمين الشيعة بمختلف فرقهم فحسب، بل يبرز عند أديان اخرى وتحت أسماء أخرى، تحدثت وآمنت بعودة "منتظر" ما، وإن كان رؤيتها له والمهمات التي يعود من أجلها متباينة نسبيا، كما هو الحال مع "الديانات السماوية اليهودية والمسيحية والإسلامية.“ فالقول بالمنتظر جاء ليعبر عند المسلمين الشيعة، على نحو خاص، رفضهم للواقع الفاسد القائم وسعيهم من خلال "المنتظر القادم" إلى تغيير ذلك الواقع، إنها صرخة المستقبل عند العاجزين عن تغيير الواقع الذي يعيشون فيه والمرفوض منهم، إضافة إلى أنه يفتح باب رزق أمام تلك الحركات لتأمين موارد مالية للحركة. ويبدو أن قادة الحركة كانوا يدركون الطابع الرمزي والشعبي لفكرة المنتظر والتي تجلت فيما أوصى به أبو سعيد أتباعه في البحرين للتعرف على شخصية المنتظر القادم من أجل إبعادهم عن محاولات الذين يدّعون النبوة والإمامة ويقدمون أنفسهم على أنهم المنتظر الذي طال انتظاره.

اعتمد الفكر القرمطي على الموقف العقلي المشحون بنزعة مادية، سواء عن وعي فلسفي من جانب قادة الحركة أم عن تعامل عفوي لا يخلو من وعي نسبي في كل الأحوال. وهذه النزعة العقلانية والمادية من جهة، وتحدر قادة الحركة من أوساط شعبية كادحة من جهة أخرى، هي التي ساعدت الحركة في أن تكون قريبة من الواقع ومن الناس ومن معاناتهم اليومية، وبالتالي في تبني برنامج ثوري طموح ومتقدم. ويبرز فهمهم للواقع الاجتماعي والديني والسياسي حينذاك من الاسم الذي أطلقوه على حركتهم وليس الاسم الذي اطلق عليهم والذي عرفوا به حتى الآن، واعني به "القرامطة" (10) نسبة إلى حمدان القرمطي، إذ كانوا يسمون أنفسهم، كما يشير إلى ذلك حسين مروة عن عليان في (القرامطة في العراق)، "المؤمنون المنصورون بالله والناصرون لدينه والمصلحون في الأرض.“

وكانت الحركة في منهجها العقلي - التأويلي تسعى لا إلى فهم الواقع ونقده، بل إلى تغييره، أي إلى إقامة سلطتها السياسية وإلى تنفيذ برنامجها الاجتماعي والاقتصادي. ومع أن قرامطة العراق عجزوا عن تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، فأن أكثر من ظاهرة وممارسة تشير إلى وجهتهم الاجتماعية، سواء في طريقة تعاملهم مع بعضهم في المناطق المحيطة بالكوفة وفي "دار الهجرة" وفي المناطق الأخرى التي وجدوا فيها، أم في طبيعة الدولة التي أقامها قرامطة البحرين. من هنا يمكن الإشارة إلى أن الحركة القرمطية لم تكن مجرد حركة فكرية تنويرية مجددة فحسب، بل كانت حركة سياسية اجتماعية ثورية أو انقلابية تطمح إلى إقامة العدل والمساواة بين الناس وترفض الظلم والطغيان وتتصدى لهما. ويبدو للباحث أن عوامل خمسة ساعدت على انتشار أفكارهم بين الكوفة والبصرة حينذاك، ومن ثم في مناطق أخرى من الدولة العباسية وهي:

انتشار الظلم والفساد على نطاق واسع وغياب العدالة الاجتماعية في مجتمع الدولة العباسية، إضافة إلى ابتعاد الخليفة العباسي والولاة عن الحكم وفق ما أمر به الدين.

• تعرض النبط والزنج والموالي وكذلك بعض العشائر العربية إلى استغلال بشع من جانب المستحوذين على الأراضي الزراعية في هذه المناطق وفي عموم العراق وبقية مناطق الدولة العباسية، إضافة إلى التمييز بين الناس في غير صالح الكادحين والفقراء والموالي.

التزام قادة الحركة القرمطية بمبادئ اجتماعية وأخلاقية سامية، واستنادهم إلى أرضية دينية واقعية يفهمها الكادحون المعرضون للاستغلال والظلم على نحو خاص. يقول الدكتور عبد العزيز الدوري، نقلا عن ابن الأثير، بأن الدعوة القرمطية انتشرت "بين الفلاحين الجهلة الذين كانوا يئنون من جشع الجباة واستغلال الملاكين"، كما "انتشرت الحركة بين اهل الحرف وعوام المدن، وقد كان مستوى معيشتهم واطئا،..." (12). ومنه يتبين للإنسان بأن هذه الفئات الكادحة لم تكن فقيرة ومستغلة فحسب، بل وكانت محرومة من كل خدمات الدولة العباسية، وكانت تئن تحت وطأة الجهل والتخلف. إلا أن هذا لم يمنعها من وعي أوضاعها المزرية ورفضها ومقاومتها بقوة السلاح لتلك الأوضاع. فالقرامطة لم يرفضوا الوضع القائم فحسب، بل قدموا للناس بديلا فكريا وسياسيا معقولاً يقوم على مبدأ التعاون والألفة فيما بينهم. وقد كان أبو حامد الغزالي يستخف بهذه الفئات الاجتماعية الكادحة التي كانت تلتحق بهذه الحركات السياسية والاجتماعية نتيجة إدراكها لواقعها التعس والحيف النازل بها، وكان يعتبرهم جهلة لا يفقهون حيث يقول عنهم "والعامي الجاهل يظن أن التلبيس بالأديان والعقائد مثل المواصلات والمعاقدات الاختيارية، فيصلها مرة بحكم المصلحة ويقطعها أخرى" (13). وهو في هذا يدل عن ابتعاده عن حياة الناس وسكناه في برجه العاجي حينذاك.

استعدادهم الكامل لخوض النضال ضد الظلم والطغيان والبرهنة عليه من خلال خوض المعارك المسلحة ضد الدولة العباسية والولاة بشجاعة فائقة وحفظهم لأسرار العاملين معهم نتيجة إيمانهم بالقضايا التي كانوا يناضلون في سبيلها، واستعدادهم الثابت على الموت في سبيلها.

التسامح الديني الذي تميزوا به. فهم من جانب كانوا مؤمنين بقضايا ورافضين لقضايا أخرى تبعدهم عن بعض الفرق الإسلامية الشيعية أو عن اهل الحديث، ولكنها في الوقت نفسه كانت لا ترفض أداء اولئك الناس لطقوسهم الدينية وفي الجوامع. وهي في هذا أيضا تقدم ظاهرة جديدة ومهمة في الحركات الفكرية الإسلامية في العصر العباسي لم تظهر بالضرورة لدى الكثير من تلك الحركات السابقة لها أو التي تلتها. وترد أكثر من إشارة في المصادر التاريخية إلى أن القرامطة قاموا بهدم المساجد، إذ يؤخذ ذلك عليهم باعتباره الدليل على كفرهم وبعدهم عن الإسلام. يشير الكاتب عارف تامر في كتابه الموسوم "القرامطة: أصلهم-نشأتهم-تاريخهم- حروبهم"، وانسجاما مع رأي الدكتور حسن إبراهيم وطه أحمد شرف، إلى ما يلي: " وأما عن تهديم المساجد فقد نرى أنه من الجدير تكرار القول: بأنه لم يكن ذلك إلا بعد أن يسمع القرامطة في هذه المساجد إقامة الخطبة باسم العباسيين على ما هم عليه من الفسق والفجور. هذا بالإضافة إلى مسبة أهل البيت الفاطميين" (14). وهو في هذا لا يقدم الحجة على سلامة مثل هذه الأعمال. إذ إنها تبقى مرفوضة في كل الأحوال.

ويؤكد عدد من الباحثين تأثير القرامطة الملموس على مشاعر الناس ووعيهم وتنامي عدد أتباع الحركة واتساع رقعة نشاطهم الدعائي وتشكيلهم خطرا على سلطة الدولة العباسية. ويشير حسين مروة في كتابه النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية إلى هذا التأثير فيقول: “.. ويدلنا على مدى هذا الخطر عمقا واتساعا ما ذكره أبن الاثير من أن أحد قواد جيش المعتضد فاجأ القرامطة في أحد مراكزهم من منطقة الكوفة عام 287 هجرية، فقتل رؤساءهم وأسر الآخرين ولكنه اضطر إلى تسريحهم جميعا لأنهم كانوا من الفلاحين، ولأن قتلهم أو إبقاءهم في الأسر يومئذ يعني تعطيل الأرض هناك من الزراعة. ففي هذه الواقعة دلالة على الجانب الطبقي من القضية أولا، وعلى كثرة الفلاحين الداخلين في الدعوة القرمطية ثانيا، إلى حد أن غيابهم عن الأرض كان يؤدي إلى شلل حركة الزراعة في المنطقة" (15). إن اتساع القاعدة الشعبية للحركة وتعزز مواقعها بين الفلاحين في ريف الفرات الأوسط والجنوب من جهة، وعدالة القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي طرحتها الحركة في حينها من جهة ثانية، وشدة الظلم الذي ساد المجتمع ونزل على نحو خاص بالكادحين من الفلاحين والكسبة والحرفيين في العصر العباسي من جهة ثالثة، والأساليب الهمجية الشرسة التي مارسها الحكم العباسي ضد القرامطة، وضد الأسرى منهم على نحو خاص، من جهة رابعة، دفعت بأبي حنيفة، كما يشير إلى ذلك اللاذقاني نقلا عن تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، إلى أن يصدر فتواه التي دعا فيها إلى القتال إلى جانب القرامطة. (16) كما رفض القاضي، أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول، طلب تخطئة الوزير علي بن عيسى الذي لم يحكم بتكفير القرامطة حين قال: "إذا لم يصح عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على النبي محمد (ص) وانتسبوا إلى أنهم مسلمون وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر" (17). إذ أن الدولة العباسية كانت تريد اتهامهم بالكفر لتستطيع تعبئة الناس حولها في القضاء عليهم. ويبدو لي أن السيد اللاذقاني كان مصيبا في تقديره للعوامل التي دفعت العباسيين إلى تشديد الخناق ضد القرامطة، حين التقط ملاحظة الغزالي وأوردها كما يلي: "إن الخلافة العباسية لم تحاربهم لتشيعهم لآل علي بل لظهورهم بالطعن على سلاطين الزمان كما يقول الغزالي.“ (18). وكان الغزالي يضمر الكراهية للإسماعيلية ولكل من كانوا يدعون أنهم من الباطنيين، وكذلك لكل من كان يكافح الخليفة، منطلقا في ذلك من القاعدة التي تقبل بالإمام الفاسق بدلا عن الفتنة في المجتمع الإسلامي.

امتلكت حركة القرامطة حسا رفيعا في تحديد المهمات النضالية الصائبة للمرحلة التي كانت تمر بها، كما تميزت بالقدرة على اختيار أسلوب التنظيم المناسب وطريقة توجيه الدعاية للدعوة وقوة الاقناع، إضافة إلى الابداع في قيادة الأتباع والمريدين. فالمعلومات التي وصلتنا تشير إلى أن قرامطة العراق بقيادة حمدان القرمطي قد التزموا في نشاطهم السياسي والاجتماعي والدعائي بعدد من الأسس المهمة لتنمية الحركة وتوسيع قاعدتها وضمان سرية أعضائها نشير إلى بعضها فيما يلي:

الأخذ بمبدأ القيادة الجماعية للحركة وليس الاعتماد على قائد واحد بمفرده. وشاركتهم في ذلك الحركة الإسماعيلية وحركة الزنج أيضا، إذ اعتمد علي بن محمد، صاحب الزنج، على مجموعة العقداء ووزع عليهم المهمات بين أعضاء القيادة وفق الاختصاصات التي تميز بها العقداء. فمثلاً اختار حمدان القرمطي اثنا عشر نقيبا من بين أتباع الحركة شكل منهم مجموعته القيادية؛

بادر حمدان إلى إرسال أفضل دعاة الحركة إلى بعض مناطق الدولة العباسية من أجل نشر أفكار الحركة وتأمين الدعم السياسي والمادي لها، حيث وصل دعاته إلى البحرين والشام واليمن وغيرها وكسبوا الكثير من الأتباع والأعوان؛

ضمان الدعم المالي للحركة وأتباعها من خلال إلزام الأتباع بدفع ضريبة معينة من جهة، والقيام بتوزيع تلك الأموال على شؤون الحركة ولمصلحتها بين الأتباع وعلى مختلف النشاطات من جهة أخرى، والذي أطلق عليه نظام (الألفة) (19). حتى أن بعض الأتباع كان يتنازل عن بعض الأموال الإضافية والممتلكات التي في حوزته لصالح الحركة. ويشير حسين مروة نقلا عن الطبري إلى أن القرامطة استطاعوا بتلك الأموال بناء قلعة حصينة لهم قرب الكوفة سميت "دار الهجرة"، وبتسليح الأتباع (20). ويشير عبد العزيز الدوري إلى علاقات العمل والتوزيع الممتاز والمنصف بين القرامطة فيقول: " وأخذ كل فرد يشتغل بجد وإخلاص لخير المجموع، وذلك ليحتل المركز الذي يليق بخدماته. فالنساء يأتين بما يحصلن عليه من الغزل، وحتى الأطفال يقدمون الجعل الذي يحصلون عليه من نظارة الحقول، وليس لأحد ملك عدا سيفه وسلاحه. وقد قال حمدان لأتباعه أنهم في غنى عن المال لأن الأرض لهم" (21). ويتابع الدوري قوله في مكان آخر منوها عن علاقة الثقة المتبادلة بين القائد والأتباع والحماسة التي استقبلوا بها تعليمات حمدان القرمطي مشيرا إلى ما يلي: "وقد قبل أتباع حمدان تدابيره بكل حماس، ولا سيما وأنه جعل ما يعطى للفرد يتناسب وحاجاته، بينما جعل مركزه الاجتماعي يتناسب وقابلياته لخدمة المجموع" (22). اذ كان حمدان يعتقد، كما يرى الدوري، ب "أن سبب التذمر هو الشقاء المادي والحطة الاجتماعية، وأنه لا يمكن تحقيق المساواة الاجتماعية دون المساواة المادية. ولذلك كان لا بد من قطع دابر الفقر..." (23).

قدّم قرامطة البحرين نموذجا متميزا وغير معهود في ذلك الزمان حين أقاموا جمهوريتهم أو دولتهم المستندة إلى بنية اجتماعية جديدة وتنظيم جديد للعمل وعلاقات إنتاج غير معهودة، وخاصة في موقفهم من الأرض كوسيلة إنتاج أساسية وكذلك من الإنتاج وتوزيعه بين افراد المجتمع القرمطي، وكذلك في موقفهم من تربية الأطفال ورعاية الشيوخ أو العجزة والمعوقين.

وساهمت حركة القرامطة في البحرين في توضيح بعض القضايا الفكرية والاجتماعية التي لم تستطع حركة القرامطة في العراق تحقيقها بسبب عجزها عن الوصول إلى السلطة في الكوفة او في البصرة او في بغداد، ولكنها كانت تقف معها على ارضية واحدة. فالرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار البحرين في فترة وجود هذه الدولة القرمطية يشير إلى الدور الذي لعبته الدولة الجديدة في تنظيم الاقتصاد وحياة الناس. كتب ناصر خسرو الذي زار الأحساء سنة 445 هجرية / 1052 م، كما جاء في كتاب تاريخ الفلسفة العربية للكاتبين حنا الفاخوري وخليل الجر، يقول: "إنّ في الأحساء طواحين تخصُّ الحكومة وهي تطحن للناس مجانا لأن الحكومة نفسها تنقد الفعلة اجورهم وتقوم بجميع نفقات الطواحين" (24). ويورد السيد عارف تامر مؤلف كتاب القرامطة نصا مقتبسا من كتاب سفر نامة أيضا للرحالة الفارسي ناصر خسرو علوي حول تنظيم الإنتاج وزيادة إيرادات الدولة حينذاك بقوله: "كان في الأحساء أكثر من عشرين ألف محارب، ولما توفي أبو سعيد الجنابي انتقلت الحكومة إلى مجلس شورى مؤلف من ستة من الدعاة كانوا يحكمون بالعدل والانصاف، وكان لهذه الحكومة ثلاثون ألف عبد زنجي يشتغلون بالزراعة وفلاحة البساتين، وليس عندهم ضرائب ولا أعشار، وإذا افتقر أحدهم أو استدان، أعانه الآخرون ليستعيد وضعه، فليس للدائن غير رأسماله، وكل غريب ينزل المدينة وله صناعة، يعطى ما يكفيه من المال ليشتري ما يلزم صناعته من عدد وآلات، وهناك بيوت معدة لسكنى الفقراء على حساب المجموع، وقد شاهد في الأحساء أيضا طواحين تملكها الدولة وتدير شؤونها، وهذه الطواحين مهمتها طحن الحبوب للرعية مجانا" (25). جاء في كتاب سفر نامة لصاحبه ناصر خسرو بهذا الصدد النص التالي: "وفي الحسا مطاحن مملوكة للسلطان تطحن الحبوب للرعية مجاناً، ويدفع فيها السلطان نفقات إصلاحها وأجور الطحانين، وهؤلاء السلاطين الستة يسمون السادات، ويسمى وزراؤهم الشائرة، وليس في مدينة الحسا مسجد جمعة، ولا تقام بها صلاة أو خطبة، إلا أن رجلا فارسيا اسمه علي بن أحمد بنى مسجداً، وهو مسلم حاج غني كان يتعهد الحجاج الذين يبلغون الحسا، والبيع والشراء والعطايا، والأخذ يتم هناك بواسطة رصاص في زنبيل بزن لك منها ستة ألاف درهم، فيدفع الثمن عدداً من الزنابيل، وهذه العملة لا تسري في الخارج، وينسجون هناك فوطا جميلة، ويصدرونها للبصرة وغيرها" (26).

إن لجوء القرامطة في تنظيم اتباعهم في الحركة إلى السرية في العمل انطلق من الرغبة في حماية أتباع الحركة من الإرهاب الذي كانت تتعرض له الحركات الفكرية والسياسية المعارضة حينذاك، خاصة وأن المسؤولين العباسيين كانوا قساة على معارضيهم وخصومهم ومن كان يعمل ضدهم لا تعرف الرحمة طريقها إلى قلوبهم ولا يتورعون عن ممارسة التعذيب والتمثيل بضحاياهم ودفنهم وهم أحياء. وفي هذا الموقف تجلي نسبي لمفهوم التقية عند المسلمين عموما والشيعة منهم بوجه خاص، ولكنهم كانوا يدافعون عن مبادئ حركتهم عند الأسر بثقة عالية بالنفس والمعتقد، رغم أنهم كانوا يتعرضون للتعذيب والموت على أيدي أتباع الخلافة العباسية. والتقية أو سرية العمل التي التزموا بها هي التي دفعت أبو حامد الغزالي إلى رفض توبة قادتهم بشكل خاص باعتبارهم لا يظهرون ما يبطنون. كما تطرف بفتواه إلى حد "القول بعدم جواز الزواج منهم وعدم ائتمانهم على وظائف الدولة" (27). كتب الغزالي يقول: "وأما إبضاع نسائهم فإنها محرّمة، فكما لا يحلّ نكاح مرتدة لا يحلّ نكاح باطنية معتقدة لما حكمنا بالتكفير بسببه من المقالات الشنيعة التي فصلناه. ولو كانت متدينة ثم تلقفت مذهبهم انفسخ النكاح في الحال إن كان قبل المسيس، ويوقف على انقضاء العدة بعد المسيس…" (28). كما حرم الغزالي أن يرث بعضهم بعضا واعتبر جميع الباطنيين كفرة أو مرتدين (29).

ويبدو أن القسوة البالغة التي تعرض لها قرامطة العراق من جانب الخلافة العباسية والمحاربة الفكرية من جانب الفكر الديني الرجعي والمحافظ والرسمي، وعلى رأسهم الإمام الغزالي، قد دفع بهم إلى مواجهة العنف بالعنف، أو السن بالسن والعين بالعين، مما دفع المؤرخين إلى اتهامهم بالقسوة أيضا. الا أن قسوة الخلافة ومحاربتهم المستمرة قد شملت قرامطة البحرين والشام وغيرهم. مما دفع بقرامطة البحرين إلى ممارسة أعمال عنف وقتل غير مبررة ضد الحجاج إلى مكة والتي أضرت بالحركة وسمعتها وتأثيرها. كما أن نقل الحجر الأسود من مكة إلى البحرين واستمرار وجوده هناك 22 عاما يعبر في جوهره عن عدة مسائل مهمة هي:

أن الحركة القرمطية في البحرين كانت كما يبدو لا تعتقد بسلامة العبادة لله عبر الحجر الأسود، فهو في وعيها لا يعدو كونه صنما من الأصنام التي كانت تقوم بعبادته الأعراب في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام؛
الجانب التجاري الذي كانت تهتم به دولة القرامطة أذ كانت تريد "تحويل مكاسب الحج إلى حكام هجر" كما يشير إلى ذلك اللأذقاني (30).
رفض الخليفة العباسي المقتدر منح أبو سعيد الجنابي شؤون الولاية على البصرة والأهواز (31).
للتدليل على عجز الدولة العباسية عن حماية رعاياها، وبالتالي يمكن أن يتعرض كل إنسان فيها لمخاطر غير معروفة العواقب، إذ أن الدولة ضعيفة ومشتتة.

تشير المصادر التي تحت تصرف البحث إلى أن حركة القرامطة خاضت في العراق معارك دامية وتلقت ضربات قاسية من قوات الخلافة العباسية، إلا أنها حملت قوات الخلافة العباسية خسائر كبيرة أيضا، كما إنها كانت بعد كل ضربة تبرز مرة أخرى قوية وقادرة على المنازلة. وهكذا استمرت حركة القرامطة في كفاحها وعملياتها العسكرية والإعلامية ضد الدولة العباسية حتى قيامها بالثورة في عام 316 هجرية/928 م، حيث خاضت قوات القرامطة في سواد واسط وفي مناطق عين تمر معارك قاسية لم تستطع الصمود في وجه قوات الخلافة وانتهت إلى اندحارها في تلك المعارك، وإلى تراجع نشاط الدعوة في العراق. وتحتل أهمية بالغة تلك الرايات التي رفعتها الحركة في ثورتها حيث كتب عليها، كما يشير إلى ذلك الدكتور عبد العزيز الدوري نقلا عن أبن الأثير: "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين" (32).

إن الدراسة المتأنية للحركات الفكرية الثورية في العراق تؤكد جملة من الاستنتاجات المهمة التي نحن بحاجة إليها لا لفهم الماضي فحسب، بل ومعرفة مدققة للواقع الراهن وسبل التعامل مع المستقبل ايضا. فالحركات الفكرية التي شهدها العراق في العهدين الأموي والعباسي أكدت على أن الأرضية التي استندت إليها المعارضة كان الإسلام ذاته، ولكنه لم يكن الإسلام الرسمي الذي التزم به الخلفاء ودافع عنه، بل انطلق من مواقع المعارضة السياسية التي رفضت الطريقة التي تعامل بها الخلفاء والولاة أو رجال الدين الذين ارتبطوا بالحكم وأخضعوا فتواهم لمصلحة السلطة السياسية منطلقين من كون ما هو قائم يستند إلى إرادة الله التي لا يمكن تبديلها، إنها قدر الحكام والرعية في آن واحد. وبرهن الإنسان العراقي على ممارسة عقلية حيوية قادرة على التفاعل مع الواقع القائم ومع حاجات الناس، وترفض الانصياع للقاعدة القائلة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، أو لا يمكن تغيير القدر. ولهذا كانت برامج بعض تلك الحركات ينطوي على فهم للواقع ورغبة في تغييره وسعي لذلك في آن واحد. وبرهنت قوى المعارضة الفكرية والسياسية على قدرتها على فهم سبل الدعاية والتنظيم ودور الدعاة في نشر الدعوات بين الناس وأهمية تقديم النموذج الصالح لما يسعون إليه. وهذا لا يعني بأن الحركات الفكرية كانت متكاملة ولم تبتلى بنواقص وأخطاء أو إساءات. فهذه الحقيقة تشمل ثورة الزنج، كما تشمل حركة القرامطة أو غيرها من الحركات الفكرية التي كان عليها أن تحارب دولة كبيرة ذات إمكانيات مالية وبشرية وعسكرية غير قليلة. فعلى سبيل المثال لا الحصر وعد صاحب الزنج علي بن محمد أتباعه الثوار في أن يكون لهم عبيدا حالما تنتهي الثورة بالانتصار، في حين أنهم كانوا يناضلون ضد عبوديتهم. وهذا يدلل على أن قائد الثورة المؤمن بالإسلام لم يكن قد تخلى عن النص القرآني الذي لا يحرم وجود واقتناء العبيد، وبالتالي يسمح بوجوده أيضا لدى العبيد الذين سيحررهم. ولا يعرف ما إذا كانت هذه النقطة من بين العوامل التي منعت حصول اتفاق بين قائد ثورة الزنج وقائد الحركة القرمطية. ويمكن أن يورد الإنسان أخطاء أخرى لثورة الزنج ومنها تعذيب الأسرى أو القسوة في التعامل، وهكذا بالنسبة إلى حركة القرامطة. ولكن لا يمكن تصور أن حركة من هذا النوع وفي تلك الظروف وفي مستوى الوعي الذي كان عليه القادة والأتباع والمعين الذي استقوا منه أفكارهم ما كان في مقدورهم تجنب مثل تلك الأخطاء أو غيرها، ولكن لا يجوز القبول بها أو تبريرها.

يضاف إلى كل ذلك حقيقة أن الدولة العباسية كانت تمارس سياسات الاستبداد الفكري والسياسي على نطاق واسع وفي مختلف العهود التي مرت بها، وكانت سببا آخر في وقوع الثورات ضد العباسيين. كما جوبهت تلك الحركات الفكرية بالعنت ومحاولة تصفيتها بدلا من التفكير في الأسباب التي قادت إلى وقوعها وسبل تجاوزها ومعالجة آثارها.

ولا شك في أن الطبيعة الاستبدادية للحكم وسياسات الإرهاب ضد المثقفين والمتنورين والمفكرين وغياب العدالة الاجتماعية وتحكم فئة صغيرة بمصائر الناس قد ساعدت كلها على بروز مناورات ومؤامرات ليست داخلية فحسب، بل وخارجية أيضاً. بمعنى آخر كانت العوامل الداخلية سببا في تزايد الأطماع الخارجية بالدولة العباسية والتي كانت في المحصلة النهائية سبباً إضافياً في قبرها، إذ كانت الجبهة الداخلية مهورة من الداخل وغير قادرة على المقاومة ومواجهة العدوان الخارجي.

المصادر والهوامش

(1) أنظر: زكار، سهيل د، أخبار القرامطة في الأحساء واليمن والشام والعراق، دار حسان للطباعة والنشر، دمشق، سوريا، 1982، المدخل ص 5-77.
(2) ملاحظة : تُنسب الحركة الإسماعيلية إلى إسماعيل، الأبن البكر لجعفر بن محمد الصادق، الأمام السادس عند الشيعة، وتوفي إسماعيل ووالده كان ما يزال على قيد الحياة، واعتبر بعض أتباع جعفر الصادق بأن إسماعيل، رغم وفاته المبكرة وفي أثناء وجود أبيه على قيد الحياة، أنه الوارث للإمامة، وليس الهادي الأبن الثاني لجعفر الصادق، والذي يعتبر عند الشيعة الإمامية الإمام السابع، نشأت هذه الحركة من أتباع له بعد وفاته وفي إطار الفكر والمذهب الشيعي الذي بناه وقوّمه وكرسه جعفر الصادق على نحو خاص، ولكن الأتباع اجتهدوا ونمو عددياً، ثم اختلفوا ونشأت منهم وعنهم حركات كثيرة، كلها اقترنت باسم الإسماعيلية، وأطلق أتباع المذهب السني على هذه الحركة بالباطنية بسبب اعتمادهم على التفسير والتحليل المعمق لبواطن الأمور بدلا من الاستدلال عليها من ظاهرها فقط، وأطلق عليهم بالسبعية ايضا، باعتبار إسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق هو الإمام السابع بعد والده، أشار أبو حامد الغزالي إلى السبعية بما يلي: " وأما "السبعية" فإنما لقبوا بها لأمرين: أحدهما: اعتقادهم أن أدوار الإمامة سبعة، وأن الانتهاء إلى السابع هو آخر الدور، وهو المراد بالقيامة؛ وأن تعاقب هذه الأدوار لا آخر لها قط، والثاني: قولهم إن تدابير العالم السفلي، أعني ما يحويه مقعر فلك القمر منوطة بالكواكب السبعة التي أعلاها زُحل، ثم المشتري، ثم المرّيخ، ثم الشمس، ثم الزهرة، ثم عطارد، ثم القمر، وهذا المذهب مسترق من ملحدة المنجمين وملتفت إلى مذاهب الثنوية في أن النور يدبر أجزاؤه الممتزجة بالظلمة بهذه الكواكب السبعة، فهذا سبب التلقيب،،“ راجع في هذا الصدد: فضائح الباطنية مصدر سابق، ص 12، واعتبر الغزالي الإسماعيلية من الباطنية التي تسري عليها أحكامه على بقية الجماعات التي سميت بالباطنية، ومنها الحركة القرمطية والبابكية والعديد غيرها من الحركات الفكرية في ا لإسلام حينذاك أو فيما بعد أيضاً.
(3) أنظر: اللاذقاني، محي الدين، ثلاثية الحلم القرمطي، ص62.
(4) أنظر: يان دي خويه، ميكال، القرامطة، ترجمة حسني زينة، دار أبن خلدون، القاهرة، 1960، ص 36.
(5) ملاحظة: جاء في هذا الكتاب (كشف أسرار الباطنية وأخبار القرامطة) أن الداعية كان يطلب من المريد الجديد أن يدفع له بعد نهاية كل درجة وقبل بلوغها مبلغا قدره اثنى عشر دينارا، وهكذا يكون عند بلوغه نهاية الدرجات قد دفع 72 دينارا للداعية، ص 205-210.
(6) أنظر: زكار، سهيل د، أخبار القرامطة في الأحساء والشام واليمن والعراق، مصدر سابق، ص 27-210.
(7) ملاحظة : إن من يقرأ هذه الكتابات والدس الرخيص على تلك الحركات ويتذكر الدس الرخيص الذي ملأ أكداسا من الكتب التي صدرت في عقود القرن العشرين لتشويه سمعة الأحزاب الشيوعية والاشتراكية من خلال الادعاء بأنها ذات اتجاهات وأفكار إباحية، وهي محاولة خائبة استهدفت أبعاد الناس عن تلك الأحزاب التي استقطبت جمهرة واسعة جدا من الكادحين والمثقفين باعتبارها ضمن حركات ثورية مدافعة عن حقوق وحريات العمال والفلاحين وسائر الكادحين وضد أشكال الاستغلال والقمع التي كانوا وما زالوا يتعرضون لها في المجتمعات العربية والإسلامية وفي غيرها أيضا.
(8) أنظر: العلوي، هادي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي، الكتاب الثاني، الاغتيال السياسي في الإسلام، ط 1، مركز الابحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، نيقوسيا-قبرص، 1995، ص 249.
(9) المصدر السابق نفسه، ص 249.
(10) أنظر: يشير د، سهيل زكار، صاحب كتاب "أخبار القرامطة في الأحساء والشام واليمن والعراق"، إلى ما يلي بشأن أصل كلمة القرامطة:
"في المصادر المبكرة والمعاجم اللغوية نجد معنى القرمطة: اللون الأحمر أو مقاربة الخطوة، أو دقة الكتابة وتداني الحروف والسطور أو النقص، هذا ومن أفضل ما قيل في تعريفها ما أورده أبن العديم في كتابه بغية الطلب حيث قال: "وإنما سموا القرامطة: زعموا أنهم يدعون إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر بن علي، ونسبوا إلى قرمط، وهو حمدان بن الأشعث، ما كان بسواد الكوفة، وإنما سمي قرمطاً لأنه كان رجلا قصير، وكان رجلاه قصيرتين، وكان خطوه متقارباً، فسمي بهذا السبب قرمطاً… وذكر بعض العلماء أن لفظة قرامطة، إنما هي نسبة إلى مذهب يقال له القرمطة خارج عن مذاهب الإسلام، فيكون على هذه المقالة عزوه إلى مذهب باطل لا إلى رجل"، وذكر بعض آخر إنما هو نسبة إلى "بني قرمطي بن جعفر بن عمرو بن المهيأ … بن عامر بن صعصعة،“ ثم يقول: "… بأن كلمة "قرمطة" هي كلمة آرامية تعني "العلم السري،“" ص 44-45.
(11) أنظر: الدوري، عبد العزيز د، تاريخ الاقتصاد العراقي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 96.
(12)  أنظر: الدوري، عبد العزيز د،
(13) المصدر السابق نفسه، ص 96.
(14) أنظر: تامر، عارف، القرامطة أصلهم-نشأتهم-تاريخهم-حروبهم، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت.
(15) أنظر: مروة، حسين، النزعات المادية في الإسلام، الجزء الثاني، مصدر سابق، ص 19.
(16) أنظر: اللاذقاني، محي الدين د، ثلاثية الحلم القرمطي، مصدر سابق، ص 82.
(17) المصدر السابق نفسه، ص 71.
(18) المصدر السابق نفسه، ص 63.
(19) أنظر: الدوري، عبد العزيز د، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 98.
(20) أنظر: مروة، حسين، النزعات المادية في الإسلام، مصدر سابق 19.
(21) أنظر: الدوري، عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 98.
(22) المصدر السابق نفسه، ص 98.
(23) المصدر السابق نفسه، ص 98.
(24) أنظر: فاخوري، حنا والجر، خليل، تاريخ الفلسفة العربية، في جزئين، ط 3، دار الجيل، بيروت، 1993، الجزء الأول، ص 219.
(25) أنظر: عارف، تامر، القرامطة- أصلهم - نشأتهم،، ، مصدر سابق، ص 99/100.
(26) أنظر: خسرو، ناصر، سفر نامة، في كتاب زكار، سهيل د، أخبار القرامطة… ، مصدر سابق، ص 196.
(27) أنظر: اللاذقاني، محي الدين، ثلاثية الحلم القرمطي، مصدر سابق، ص 62.
(28) أنظر: الغزالي، أبو حامد، فضائح الباطنية، مصدر سابق، ص 96.
(29) المصدر السابق نفسه، ص 96.
(30) المصدر السابق نفسه، ص 72/73.
(31) المصدر السابق نفسه، ص.
(32) أنظر: الدوري، عبد العزيز، تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، مصدر سابق، ص 99,


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter