|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  28  / 11 / 2019                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

     

قراءة في مسرحية "غرافيليا" للكاتب المسرحي والإعلامي ماجد الخطيب

د. كاظم حبيب
(موقع الناس)

اسم الكتاب: غرافيليا، مسرحية
اسم الكاتب: ماجد الخطيب
دار النشر: مطبعة صناعة الإشهار
سنة النشر 2019
اللوحات التشكيلية: الفنان طه سبع

خلال العقدين المنصرمين اتحفنا الإعلامي والكاتب المسرحي العراقي ماجد الخطيب بعدد مهم من المسرحيات الجادة والمسؤولة والملتزمة بالدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية وحقوق الإنسانوكشف عورات مجتمعاتنا في الدول العربية او في الدول ذات الأكثرية المسلمة، ونضاله ضد الأمية وعمليات التجهيل واستخدام الدين لأغراض غير إنسانية. إنها مسرحيات مطبوعة ومنشورة تعالج موضوعات ذات أبعاد سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية، تواجه شعوب البلدان النامية عموماً، لاسيما الدول العربية ذات الأكثرية المسلمة. وأكثرها يمس واقع العراق وما مرّ به خلال العقود الأخيرة. ومسرحياته تقدم للقراء والقارئات رؤى واضحة ودقيقة عن واقع شعوب هذه البلدان والأجواء التي تحيط بها وإشكالياتها الثقافية وموروثها الاجتماعي، إضافة إلى ملامسة ذكية للاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية الفاعلة والمؤثرة فيها. تتسم بعض مسرحيات الخطيب بالمباشرة، وبعضها الآخر يعمد إلى معالجات رمزية تساعد القراء والقارئات على التصور والتفكير والتحليل والتفسير. تتميز مسرحياته بأسلوبها المكثف والسلس، الرشيق والشيق، إضافة إلى روح السخرية. بعض مسرحياته تم مسرحتها من بعض المخرجين العرب والعراقيين في الشتات العراقي والعربي.
وبين مسرحية وأخرى كان الخطيب يتحفنا بترجمة مسرحيات عالمية ذات أهمية فائقة للمبادئ والقيم التي يؤمن بها ويعمل لتكريسها والتي تصب في المجرى العام للفكر الديمقراطي التقدمي ونقد موضوعي للواقع القائم والتقاليد البالية التي لا تزال عالقة وفاعلة ومؤثرة بقوة في المجتمعات ذات الأكثرية المسلمة. تلك الأوضاع التي يعاد إنتاجها دون انقطاع بسبب استمرار وجود ذات العلاقات الإنتاجية والاجتماعية القديمة دون تغيير جوهري ملموس في مجمل العملية الاقتصادية والوعي الاجتماعي.
تسنى لي أن أكتب وأنشر عن العديد من مسرحيات الخطيب الأصيلة والمترجمة التي صدرت خلال السنوات الأخيرة، ويسعدني أن اكتب اليوم عن آخر مسرحياته التي صدرت خريف هذا العام 2019، مسرحية "غرافيليا"، عن بعض جوانبها السياسية والاجتماعية والثقافية وأبعاد المشكلات الي تتعرض لها شعوب البلدان العربية بشكل خاص، لاسيما الأكثرية المسلمة، ومنها الدول المغاربية حيث تدور أحداث هذه المسرحية، والتي يمكن أن نجد ذات الأحداث في كل الدول العربية الأخرى، ومنها العراق.
تتكون المسرحية من سبعة مشاهد مكثفة تدور بين الفنان التشكيلي، معلم الرسم، أميرو، من جهة، وبين الشخصية النموذجية التي تتبنى زوراً وبهتانا، على وفق مصالحها، التقاليد الدينية والاجتماعية البالية والمشوهة والمزيفة، إنه المعلم في مدرسة المعوقين المسماة "طيور الجنة"، حيث يفرض على مديرة المدرسة المسنة ثلاث شروط لاستمرار تمويل المدرسة غربياً وأغلاقها من جانب الحكومة، أن تفصل البنات عن الولد، وهم أطفال، أو تلغي دروس الفنون لاسيما الرسم والموسيقى، أن تنهي عقد معلم الرسم في هذه المدرسة، رغم الأهمية الفاقة لدرسي الرسم والموسيقى للأطفال المقعدين. ويتحقق ذلك فعلاً في بلد يعيش تحت وطأة وتأثير قوى الإسلام السياسي والتكفيري في حياة هذه المجتمعات.
ثم يصطدم الفنان التشكيلي في مجرى حياته اليومية بمنغصات كثيرة، منها ما تبرّزه المسرحية، تلك العلاقة المختلة بين الفنان التشكيلي وحبه للموسيقى وصاحب الدار حيث يسكن في شقة لديه، والذي يدعي بوقاحة أن سماع الموسيقى من جاره يفسد عليه صلاته، كما تظهر الشياطين أمام زوجته عند سماعها الموسيقى فتصاب بالغثيان. حتى أنه جلب الشرطة لمنعه من الاستماع للموسيقى أثناء رسمه للوحاته.
المسرحية تعرض في مشاهدها السبعة صراعات تدور في المجتمع وبمضامين ومستويات مختلفة منها صراع بين الفنان الشاب ومديرة المدرسة ذات السبعين عاماً، وأخر بين الفنان ومجموعة من الدجالين وباعة اللوحات الفنية، الذين لا يفقهون من الفن شيئاً، إنهم غرباء عن كل الفنون، وربما أعداء لها لولا ارتباطها لرزقهم اليومي، وثالث بين مالك الدار الذي يسكن في إحدى الشقق الفنان التشكيلي المستأجر والمحب للموسيقى في الموقف من الاستماع للموسيقى، ثم تبرز المسرحية واقع التمايز بين هواة وباعة اللوحات الأوروبيين، الذين لا ينسون الربح، ولكنهم يفهمون في الفن التشكيلي ويقدرون الأعمال الفنية ويحققون ربحاً مجزياً لهم وللفنانين، وبين المهرجين من باعة اللوحات التشيلية في بلداننا.
المسرحية تقدم لنا حوارات متنوعة خيالية تقترب من واقع الحياة، وواقعية أقرب إلى الخيال. الفنان في الدول العربية يواجه اضطهاد الدولة وشيوخ الدين وتقاليد المجتمع، وغالباً ما يعاني من الفقر والحرمان. فحوارات الفنان التشكيلي العربي في خلوته أو في أحلامه مع فنانين كبار غادروا هذا العالم وتركوا للعالم أثاراً رائعة، إلا أنهم في الوقت ذاته مرَّوا بتجارب مريرة ومتنوعة يحاول الكاتب تصويرها لنا، إضافة إلى الشكوى المرة التي يتحدث بها الفنان إلى جمهوره في المسرح، إنها هموم قاسية ومريرة يعاني منها كل الفنانين والفنانات في مجتمعاتنا العربية. فحواره مع فان كوخ وبيكاسوا، أو مع ميكائيل أنجلو، أو حوارهما النفسي مع الشاعرة وكاتبة القصة والرواية الأمريكية سلفيا بلات المكتئبة دوماً وماتت منتحرة. إنها مناجاة الفنان التشكيلي أميرو مع هؤلاء الفنانين الكبار وشكواه المرَّة التي تجسد معاناته ووضعه النفسي والعصبي، وهي معاناة كل المبدعين الحقيقيين للفنون في بلداننا المكتئبة والحزينة أو الباكية كثيراً لما تعاني منه في حياتها اليومية.
تعالج هذه المسرحية مشكلة أساسية هامة ونموذجية تعاني منها شعوب الدول العربية، مشكلة الموقف من الفنون عموماً، ومنها الفن التشكيلي والنحت، أي موقف القوى الإسلامية السياسية المتطرفة في ادعائها بأن الإسلام يرفض الفنون جملة وتفصيلا. فهذه القوى تحارب في مجتمعاتنا كل الفنون الإبداعية المحركة لقدرات التصور والخيال وآفاق الإنسان، والمنمية فيه روح التحري والتحليل والتدقيق والتمتع بالجمال والحب، روح المعرفة، ومنها فن الرسم والنحت والموسيقى، فهما متهمان بأنها يجسدان روح الشياطين ويعبران عن عبادة الأصنام التي لا يجوز وجودها على سطح الأرض.
تنسى هذه المخلوقات المكارهة للفنون، أن الفنون التي رافقت وجود الإنسان على الأرض وتطوره، فتريد حرمانه منها ومنعه من الإبداع والتنوير والتثقيف الفكري والروحي. ينسى هؤلاء بأن الطبيعة، التي يشكل البشر جزءاً منها، هي أم الفنون، هي المنتجة الطبيعية للفنون بقوانينها وآليات حركة المواسم. فالنظر إلى تكوين الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، يشكل فناً بحد ذاته أو لوحة فنية رائعة، بل كل فرد في هذه المجتمعات هو لوحة فنية بحد ذاتها فكيف يمكن تحريم الفنون ومنع ظهورها. لنستمع إلى هدير البحر وتلاطم أمواجه وصاخبها، لنصغي إلى خرير مياه النهر والنسائم وفعلها في الأشجار وأغصانها، لنشنف أسماعنا بزقزقة العصافير وتغريد البلابل وهديل الحمام أو زئير الأسود، أو صت العواصف والرياح العاتية والرعود، أنها الموسيقى التي رافقت وترافق الإنسان منذ الأزل.. صوت الإنسان وصفيره، إنها الغناء والموسيقى الطبيعية التي تنعش الإنسان وتبعث فيه النشوة والفرح أو الكآبة والحزن. إنها أصوات ومنتجات الطبيعة التي استوحى واستقى منها كبار الموسيقيين العالميين من أمثال بيتهوفن وموزارت وشوبان وشوبرت وهايدن وبرامز وليست وكورساكوف وتشايكوفسكي...الخ.
هذه هي موضوعات المسرحية الجديدة للصديق الكاتب المبدع ماجد الخطيب. والجميل في هذا الكتيب الصغير إن ترافق مشاهده السبعة مجموعة قيمة من اللوحات التشكيلية للفنان المراكشي – البغدادي طه سبع، والتي تعبر بصدق عن جملة من إشكاليات الإنسان في الدول العربية، إشكاليات شعوبنا المبتلات بعلاقات اجتماعية تعيد إنتاج نفسها، لأن علاقات الإنتاج فيها لم تتغير منذ مئات السنين، ولم تتغير في ضوء ذلك العلاقات العشائرية وأحياناً البدوية المضنية للإنسان المدني والحضارة الحديثة ومفاهيم العصر التي لم تعد مفاهيم القرون الوسطى البالية، والتي ما تزال تعشش في عقول الكثير من البشر في دولنا العربية وذات الأكثرية المسلمة. إنها مسرحية تسحق القراءة والتمعن ووعي الأساس المادي لبروز حاجة ماسة لمثل هذه المسرحيات التي تكشف لنا عورات مجتمعاتنا بلا رحمة وبحق.
و"غرافيليا" عبارة عن مسرحية وكاتالوج في كتاب واحد يعبر عن تعاشق الرسم والكتابة. أنجز الفنان طه سبع، في مرافقته لمشاهد المسرحية، لوحات تعبر عن هذا الحب"فيليا" للرسم والقراءة. إذ تحمل اللوحات عناوين روايات وكتب عالمية مشهورة تبدأ بـ"يوميات عبقري" لسلفادور دالي في الغلاف، و"أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وتنتهي بـ" الخبز الحافي" لمحمد شكري و"الشيخ والبحر" لايرنست همنغواي.


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter