|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  1 / 1 / 2017                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

هل النظام الطائفي ومحاصصاته صالح للعراق؟

كاظم حبيب
(موقع الناس)

"الطائفية لعبة الأذكياء للسيطرة على الأغبياء" .... محمد الماغوظ (1934-1006م)

حين يدرس الإنسان الديانات والمذاهب الدينية أو الفلسفات والاتجاهات الفكرية سيجد أمامه مدارس فكرية واجتهادات مذهبية كثيرة في كل دين أو مذهب من الأديان والمذاهب في هذا العالم، وهكذا الحال في الفلسفات، سواء أكانت مثالية أم مادية، إذ غالباً ما تتفرع عنها مدارس واتجاهات عديدة باختلافات كثيرة أو قليلة. وهذا الواقع الذي عمره ألاف السنين يؤكد حالة صحية لدى البشر، إنها القدرة على التفكير وإعمال العقل والاجتهاد من جهة، والتعبير عن وجود اختلاف في الزمان والمكان لهذا المجتمع أو ذاك من جهة ثانية، ولوجود التباين في مستويات الفكر والوعي الفردي والجمعي في هذا المجتمع أو ذاك من جهة ثالثة. ولكن هذا التنوع والتباين في الاجتهاد والتفسير في الأديان والمذاهب والفلسفات أو الإيديولوجيات تكمن وراءه مصالح وأهداف متباينة للقوى السياسية والاجتماعية ولدى شيوخ هذا الدين أو المذهب الديني أو هذا الاتجاه الفلسفي أو الفكري أو السياسي أيضاً. ويمكن أن تكون تلك الاجتهادات والتفسيرات نابعة عن مصالح تنسجم مع مصالح المجتمع، كما يمكن أن تكون ذاتية وضد مصالح المجتمع وتقدمه. وإذا كان الأمر الأول إغناء لفكر الإنسان وحياته، فأن الثاني يدفع إلى الجمود والصراع والنزاع والعواقب الوخيمة. إن الاختلاف في الفكر والمماسة والاجتهاد أمر طبيعي في المجتمع البشري، لأنه يعبر عن رؤية اجتهادية مرنة وقدرة على التفكير بشكل مستقل، وكذلك القبول بالاختلاف وبالآخر. وليس في هذا أي عيب أو ضرر، بل إن الاختلاف ظاهرة طبيعية وبشرية، وكذا التخلي عن هذا الدين أو ذاك وهذه الفلسفة أو تلك أمر ممكن. إلا إن العيب يبرز حين يكون التغيير ناتج عن مصالح أنانية وعن أهداف شريرة. ويكون الضرر كبيراً في المجتمع الواحد المتعدد الديانات والمذاهب، لاسيما حين يصبح هذا التنوع في الآراء، أو ما يصطلح عليه بالمدارس أو فروع الديانات والمذاهب أداة بيد عناصر وجماعات طائفية وطوائف متنافسة ومتصارعة ومتقاتلة في ما بينها. عندها يختفي الغنى المنشود في مثل هذا التنوع وتسيطر الفاقة الفكرية ويهيمن الجمود والتعصب والازدراء للآخر. ولهذا كان الكاتب والروائي المغربي الطيب الذكر محمد الماغوط (1934 - 2006م) على صواب حين قال إن "الطائفية لعبة الأذكياء للسيطرة على الأغبياء"، وهو لا يقصد هنا المذهب، بل يؤكد الطائفية السياسية، إذ أن الجهالة في المجتمع تسمح للطائفيين في السيطرة على جمهرة كبيرة من الناس والتحكم بهم كما يشاؤون. علماً بأن هؤلاء الأذكياء لا شك أنهم دجالون وانتهازيون ويجسدون حثالة المجتمع، رغم ذكائهم! ويزداد الأمر سوءاً حين يقرر شيوخ الدين نبذ أو قتل من يتخلى عن دينه، أو من يتحول إلى دين آخر برغبته الخالصة، إذ تبرز هنا بشكل صارخ ذهنية الاستبداد والهيمنة لأيديولوجية واحدة ووحيدة!!

حين يحاول الباحث في المذاهب، وفي جميع الديانات التي برزت بالعراق خلال آلاف السنين، سيجد أمامه الكثر من المذاهب المتفرعة عن تلك الديانات، سواء أكان هذا التنوع والتشظي في الديانات اليهودية أم المسيحية أم الإسلام أم غيرها، إذ كانت في عمومها ظاهرة صحية تجسد الحراك الفكري والاختلاف في الرؤية والاجتهاد في تفسير النصوص. ولكن الكثير من الحكام وشيوخ الدين قد استخدموا تلك المذاهب أو المدارس المتفرعة عنها طائفياً، بمعنى ممارسة سياسات طائفية من الناحية الفعلية، أي التمييز بين اتباع الديانات والمذاهب في التعامل، فهم يفضلون ويحمون ويدافعون عن أتباع هذا الدين أو المذهب، ويهاجمون في الوقت ذاته أتباع دين أو مذهب آخر، أو يمارسون التهميش والإقصاء والتشريد، بل والقتل. وحين يتم البحث في الواقع العراقي على امتداد قرون طويلة، ستتجلى ظاهرة التمييز الديني والطائفي التي سادت في أغلب النظم السياسية التي قامت بالعراق، وهي ترتبط عضوياً لا بالدين أو المذهب فحسب، بل وترتبط بشكل خاص وعضوياً بمصالح القوى الفاعلة والمؤثرة والسياسية المتبنية لهذا الدين أو المذهب، وليس عامة اتباع هذا الدين أو المذهب. وقبل أن يجدها المتتبع بين أتباع الدين الإسلامي، وجدت لدى أتباع الدين اليهودي واتباع الدين المسيحي بالعراق في أوائل دخول اليهودية والمسيحية لبلاد ما بين النهرين. ويمكن أن متابعة هذه الظاهرة في تاريخ العراق الأموي والعباسي والعثماني والفارسي.

أما إذا تابع الباحث الوضع في العهد الملكي، لوجد بأن الحكام قد أكدوا، بوعي أو دون وعي، بأن الإسلام هو دين الدولة، وكرسوا المذهب السني عملياً، ومارسوا سياسة التمييز على أساسين قومي وديني ومذهبي، وتشددوا في فترات ومارسوا العنف، كما حصل مع الكرد، ومع الآشوريين والإيزيديين أو مع الشيعة، ولكنهم عموماً قد مارسوا حالة من اللبرالية إزاء أتباع الديانات والمذاهب. كما تشددوا عل القبول في مجالات معينة، لاسيما في القوات المسلحة أو السلك الدبلوماسي. وإذ ابتعد النظام الجمهوري الأول عن جميع أشكال التعصب القومي والديني والمذهبي في بداية نشوء الثورة في العام 1958، فأن قوى فيه ساعدت فيما بعد على الاندفاع باتجاه التشدد القومي إزاء الكرد، ولكنه بقي منفتحاً على جميع الديانات والمذاهب ولم يفرق بينها. أما النظام البعثي الأول الذي جاء على أثر انقلاب شباط 1963 فقد ولد مشوهاً قومياً ودينياً وطائفياً، رغم إن أغلب قادة حزب البعث ومجلس قيادة الثورة في انقلاب وحكم 1963 كانوا من الشيعية، ولكن دور القوى القومية الطائفية، التي تجلت بشكل خاص في رئيس الدولة عبد السلام محمد عارف والكادر المحيط به، كان بارزاً ومؤذياً، إذ أنهم مارسوا التمييز الديني والتعصب الطائفي بشكل صارخ ومجنون، لاسيما بعد الانقلاب القومي الناصري في تشرين الثاني 1963. وحين حصل انقلاب 17/30 تموز 1968، كان أعضاء القيادة البعثية ومجلس قيادة الثورة بالعراق كلهم تقريباً من البعثيين من أبناء الطائفة السنية. وكان لهذا دوره وتأثيره في واقع الحياة السياسية والاجتماعية العراقية. ونظام البعث لم يهاجم الشيعة باعتبارهم شيعة في البداية، بل كان ضد كل من يقف ضد نظام البعث، ومن ثم ضد صدام حسين، وبالتالي شمل ليس جميع من يعارض النظام السياسي البعثي وحكم صدام حسين، بل وكل من لا يتفق مع هذا النظام، إذ أصبحت القاعدة السارية تؤكد: "من هو ليس معي، فهو ضدي!!!". وكل هذه النظم حصدت بالمحصلة النهائية بهذا الشكل أو ذاك نهايتها الطبيعية.

لم تغب الطائفية بصورة من الصور عن واقع العراق الدامي. ولكن لم يكن الشعب هو المسؤول عن ذلك، بل الحكام هم الذين لعبوا دورهم في إذكاء الطائفية السياسية والتمييز الديني ضد أتباع الديانات الأخرى، إضافة إلى كتب التعليم لا بالعراق فحسب، بل وفي كل دول منطقة الشرق الأوسط. وهو الأمر الذي قاد وما يزال يقود إلى عواقب مريعة في كل دول المنطقة دون استثناء.

وحين كانت القوى السياسية المعارضة لنظام صدام حسين تعمل في الخارج، قامت بعض أبرز تحالفاتها على أساس قومي وديني وطائفي، ولم تنفع احتجاجات القوى السياسية الرافضة للتمييز القومي والديني والطائفي. فالتحالفات التي بدأت بمدينة فيينا وتواصلت بلندن وصلاح الدين قبل إسقاط الدكتاتورية استندت إلى ثلاث ثوابت بائسة:
1.القبول بالحرب لإسقاط الدكتاتورية الغاشمة؛
2.التخلي التدريجي عن التحالفات السياسية القائمة على التباين في المناهج، قومي، بعثي سوري، شيوعي، اشتراكي، محافظ، مستقل؛
3.القبول بتحالف قائم على ثلاث جماعات قومية ودينية ومذهبية: الكرد، العرب الشيعة، والعرب السنة، ووزعت عضوية لجان هذه التحالفات على أساس أكثرية شيعية وأقلية سنية وكرد، ودخل القوميون والبعثيون السابقون كسنة في هذا التحالف عملياً.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه برز في أعقاب مؤتمر بيروت للمعارضة العراقية في ربيع العام 1991، وتبلور وفرض نفسه وأصبح سائداً بعد تشكيل المؤتمر الوطني العراقي وتعاظم دور الولايات المتحدة في التأثير على القوى السياسية العراقية التي وافقت على خوض الحرب الخارجية ضد نظام البعث الاستبدادي، وبتأييد كبير من إيران. وقد تلمست هذا التوجه بنفسي حين كنت مسؤولاً عن اللجنة السياسية في هذا المؤتمر لمناقشة وصياغة أهدافها ومطالبها. وقد تسنى لي تجنيب القرارات ما يدعو إلى مثل هذه التوجهات.

الشيوعيون وجمهرة من الديمقراطيين والبعثيين العراقيين من مؤيدي البعث السوري، مع تباين هذه القوى في الرؤية والمواقف، رفضوا البند الأول وكذلك رفضوا التحالف بصيغته الثالثة، ولكنهم عملوا من أجل تحالف فكري وسياسي لا قومي وديني وطائفي، ولم ينجحوا في تحقيقه. ولكن الحزب الشيوعي العراقي دأب على حضور تلك المؤتمرات بممثل واحد، عدا مؤتمر فيينا.

وحين أُسقط النظام الدكتاتوري، بتحالف دولي خارج شرعية الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، أقيم النظام السياسي الطائفي استناداً إلى محاصصة طائفية تبلورت في واشنطن وقبل إسقاط الدكتاتورية، وبمباركة إيرانية، ورفض من قبل الدول العربية الأخرى.

لقد كان المفروض أن ينشأ نظام مدني ديمقراطي اتحادي بالعراق، لكي يستطيع تخليص العراق من أردان النظم الدكتاتورية والتمييز العنصري، القومي والديني والمذهبي، ولكن الذي نهض على أنقاض نظام صدام حسين، تبنى الكثير من بنية وطبيعة أنقاضه. وما عاناه ويعاني منه حتى اليوم هو نتاج طبيعي لطبيعة النظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة للشعب ولمبدأ المواطنة الحرة والمتساوية. وسيبقى العراق يعاني من إشكاليات أخرى مماثلة حتى لو تحررت الموصل، ما لم يلغ النظام الذي يعتمد الطائفية السياسية في الحكم.

أن الطائفية السياسية التي يمارسها الأذكياء ليخدعوا بها الأغبياء من الناس، هم في ذات الوقت فاسدون حتى النخاع. فليس هناك من يستفيد من التفرقة الطائفية غير الفاسدين والمفسدين. والطائفيون الفاسدون من أتباع كل المذاهب، هم الذين جلبوا الإرهاب للعراق، وهم المسؤولون عن استشهاد مئات ألوف البشر، إضافة إلى رقم أكبر من الجرحى والمعوقين. الطائفية، وليس المذاهب، سم زعاف ينتشر في جسم المجتمع بسرعة عبر الكثير من شيوخ الدين والحكام، ولكن وبشكل أخص عبر الأحزاب الإسلامية السياسية، سواء أكانت شيعية أم سنية، ولهذا فهو غير صالح للعراق ولا لغيره من البلدان.

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter