|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  16 / 8 / 2020                                 د. كاظم حبيب                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

     

من يسعى إلى جعل العراق دولة هشة وهامشية، ولمصلحة من؟

د. كاظم حبيب
(موقع الناس)

منذ سنوات وأنا أتساءل لمصلحة من أن يبقى العراق دولة هشة وهامشية وعاجزة عن التعامل مع المجتمع والعالم الخارجي. أي من المستفيد من جعل العراق بهذه الصورة البائسة التي هو عليها الآن، إذ تأتيه الضربات من كل حدب وصوب، يُسرق علناً بعشرات بل بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية، ويُصدر النفط بشكل غير رسمي، وتُصادر الأموال المتحققة من هذا التصدير، كما تُسرق إيرادات الجمارك دون حسيب أو رقيب، ويدخل من هبَّ دبَّ وتهرب المواد والمخدرات وكل ما هو محرم؟ لقد أشرتُ أكثرَ من مرة إلى بعض المظاهر السلبية التي قادت وتقود إلى الواقع المزري الراهن الذي يعاني منه كل الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه، وطبقاته وفئاته الاجتماعية الوطنية، إلا القلة في الداخل وبعض الدول المجاورة التي تستفيد من واقع العراق المرير، لاسيما إيران وتركيا والأردن وإسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة.

إن البحث في مثل هذا الموضوع يحتاج إلى ثلاث مسائل جوهرية هي:

معرفة جيدة بواقع الحال أولاً،
والصراحة التامة في الطرح والتحليل والاستنتاج دون لف أو دوران ثانياً،
والمسؤولية الوطنية إزاء مصائر العراق والحرص على مصالح شعبه بكل قومياته وفئاته الاجتماعية الوطنية ثالثاً.

وأملي أن يتسع صدر من سيشار إليه في هذا المقال، سواء أكان شخصاً أم هيئة أو دائرة رسمية، فليس الغرض من المقال الإساءة لأحد، بل وضع اليد على بعض الظواهر السلبية القائمة وتشخيصها ومعالجتها على وفق رؤية الكاتب لها، إذ علّ بعضهم، أن لم يكن الكل، يعي العواقب الوخيمة لمثل هذه المواقف على الدولة العراقية القائمة حالياً وعلى المجتمع بأسره.

المدخل: العلاقة الداخلية بين الحكومات العراقية المركزية (الاتحادية) المتعاقبة والشعب الكردي
رغم المصاعب التي واجهت النضال المشترك للعرب والكرد وقوميات أخرى في العراق ضد الدكتاتورية الغاشمة إلا إنها برهنت على أهميتها وضرورتها في آن واحد. ونتيجة لهذا النضال الذي تركز على مسألتين مركزيتين هما الديمقراطية والحياة الدستورية للعراق والحقوق القومية العادلة والمشروعة لكردستان (حكم ذاتي أولاً ومن ثم حكم فيدرالي وحق تقري المصير). وقد تعرضت القوى المشاركة في هذا النضال إلى اضطهاد وقمع وحرب شرسة من جانب القيادات القومية والبعثية على امتداد الفترة الواقعة بين 1963 حتى 2003، علماً بأن عام 1961 عرف حرباً في فترة حكم قاسم ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني والحركة الكردية المسلحة، والتي كان بالإمكان تفاديها لو تحكم العقل والمنطق والتفاوض بصبر ومسؤولية لدى الطرفين، لاسيما وأن أهدافاً مشتركة كثيرة وأساسية كانت تجمع بين حكومة قاسم والحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة الملا مصطفى برزاني.

لم يجد الشعب الكردي ولا قواه السياسية الاستقرار والراحة في فترة حكم البعث الثانية على نحو خاص، رغم الاعتراف بالحكم الذاتي المختزل والمصادر عملياً. وتعرض ليس للإرهاب والمطاردة والقمع والحرب الفعلية فحسب، بل وإلى إبادة جماعية لعدد هائل من بنات وأبناء الشعب الكردي والقوميات الأخرى، شيوخاً ونساءً وأطفالاً، حيث بدأ التحضير لها مبكراً ونفذت فيما أطلق عليه بعمليات "الأنفال" السيئة الصيت من شباط/فبراير حتى تشرين الأول/أكتوبر 1988 راح ضحيتها حسب التقديرات المعروفة 182 ألف نسمة، كما تعرض قبل ذاك للحصار الاقتصادي وسياسة الأرض المحروقة في المناطق الجبلية والريفية الكردية والمسيحية، كما استخدم السلاح الكيماوي في أكثر من موقع في كردستان العراق، لاسيما في حلبچة حيث سقط 5000 كردياً وكردية قتيلاً وجرح عدد مماثل.

إن مجمل السياسات الخاطئة والإجرامية التي مورست إزاء الشعب الكردي المطالب بحقوقه المشروعة والعادلة واستخدام القوات المسلحة في الحرب ضده وكذلك السلاح الكيماوي.. الخ، قد أدت إلى انعدام فعل للثقة لدى الكرد بالحكومات المركزية وبقواتها المسلحة ومواقفها الشوفينية المتطرفة إزاء الشعب الكردي وقواه السياسية.

** بعد إسقاط الدكتاتورية البعثية الغاشمة ونهوض الجمهورية الخامسة
كان المفروض في حالة التخلص من النظام الدكتاتوري البعثي الصدامي أن تظهر في الواقع السياسي العراقي مسائل جوهرية في العلاقات بين القوميات والقوى السياسية تجسد الخبرة التاريخية المتراكم والتجارب المريرة، رغم السقوط غير الطبيعي لهذا النظام الدموي والذي تحقق عبر الغزو الخارجي التي تحكمت بمستقبل الحكم في العراق، فماذا حصل؟

كان المفروض أن يؤدي سقوط الدكتاتورية إلى أربع مسائل:

أولاً: تكريس التضامن النضالي المشترك بين العرب والكرد وبقية القوميات لصالح الجميع وتقدم وازدهار العراق وقومياته المتآخية.

ثانياً: الاستفادة من تجارب الماضي المريرة في نشوء أسس وقواعد عمل جديدة في العلاقات السياسية والحزبية وفي الحكم، أساسها بناء الثقة المفقودة بين الحكم في بغداد وحكومة إقليم كردستان العراق.

ثالثا: أن يُبنى العراق على أسس متينة: دولة ديمقراطية دستورية نيابية نزيهة تعبر عن مصالح الشعب بكل قومياته أولاً، وتحترم الخصوصيات القومية لكل قومية وتعترف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة لهذه القوميات ثانياً، وإقامة مجتمع مدني ديمقراطي يمارس الفصل بين الدين والدولة والسياسة، والفصل بين السلطات الثلاث واستقلال القضاء، والتداول السلمي والديمقراطي للسلطة، ورفض استخدام العنف والسلاح والحصار، بل التفاوض السلمي والديمقراطي في معالجة المشكلات القائمة بأي حال.

إلا إن هذا كله لم يحصل بسبب فرض الاحتلال الأمريكي-البريطاني، عبر مجلس الأمن الدولي على العراق من جهة، وإصرار الإدارة الأمريكية المحتلة فرض نظام سياسي طائفي متخلف ورجعي ومشتت للوحة الوطنية على البلاد عبر المساومة المباشرة مع السلطة الكلبتوقراطية-الثيوقراطية المتشابكة في إيران، وتسليم السلطة إلى الأحزاب الإسلامية السياسية، بقيادة الأحزاب الشيعية الطائفية، التي كان المفروض أن لا تحصل على إجازة عمل بسب تعارضها مع المبادئ الديمقراطية التي تمنع قيام أحزاب على أساس ديني أو طائفي أو عنصري.

ومنذ بدء قيام الجمهورية الخامسة (الطائفية الفاسدة) برزت ظواهر الخلافات السابقة بين القوى والأحزاب السياسية المتحاصصة بالمصالح حتى بعد إقرار دستور حمال أوجه ومتناقض في بنوده، مما أوجد شرخاً بين الحكومة الاتحادية الطائفية والأثنية من جهة، وحكومة إقليم كردستان القومية من جهة أخرى، التي تجلت في عدد كبير من المشكلات أبرزها: حدود الصلاحيات الخاصة بكل من الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، المسائل المالية وتوزيع الواردات والدخل القومي والميزانيات العامة، مشكلة المناطق المتنازع عليها، لاسيما كركوك، مشكلة قانون النفط والغاز والعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم في هذا الصدد، لاسيما أن الدستور العراقي يؤكد أنهما ثروة تعود للشعب العراقي كله، ثم مشكلة المنافذ الحدودية ومسؤولية إدارتها وجباية الجمارك والإشراف عليها. وإذ برزت محاولات جادة من الحكومات الاتحادية على فرض رؤيتها الخاصة على الإقليم، عملت حكومة الإقليم من جانبها على تنفيذ ما تراه مناسباً في جميع تلك الأمور عدا عدم قدرتها على تنفيذ المادة الدستورية بشأن المناطق المتنازع عليها. بهذا تجاوزت الحكومات الاتحادية المتعاقبة وحكومات الإقليم المتعاقبة على الدستور العراقي ومارستا كل ما يريانه مناسباً، بغض النظر عن مدى أساءته للاقتصاد والمجتمع العراقي كله ودور الدولة المنشود، مما زاد في الطين بِلة، فتراكمت الخلاقات والصراعات وكادت تقود إلى نزاعات مسلحة لاسيما بعد إجراء الاستفتاء على استقلال كردستان العراق في 24/08/2017.

إن الواقع المتزايد تعقيداً، بسبب التدخلات الإقليمية والدولية في الشأن العراقي الداخلي، لا يعالج بالعناد وعدم المرونة والكف عن التفاوض والتهديد باستخدام القوة والسلاح، بل بالتفاوض السلمي والديمقراطي والإدراك بأن العيش المشترك والحياة الهانئ يحتاجان إلى وعي بالواقع القائم واستيعاب حقيقة عدم وجود واقع إقليمي ودولي قابل في إجراء تغيير في الواقع الجيوسياسي للدول في المنطقة على وفق المنظور القريب والمتوسط. وهذا الأمر يتطلب معالجة المشكلات بروح تضامنية وإنسانية عادلة ولمصلحة الجميع، وهي كما أرى غير متوفرة حالياً.

ولا بد هنا من العودة إلى السؤال الأساسي: ما هي المواقف والسياسات التي تمارسها القوى والأحزاب الحاكمة في البلاد، ومن المستفيد من جعل الدولة العراقية هشة وهامشية وعاجزة عن تحقيق ما يسعى له الشعب العراقي بكل قومياته وفئاته الاجتماعية. سأحاول في الصفحات التالية تقديم إجابتي الشخصية عن تلك الأسئلة، وهي لا تلغي رؤية الآخرين أو تصادرها.

أولاً: على الصعيد الداخلي العراقي
1) يؤكد مجرى السياسات اليومية التي مارستها الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية ذات العلاقة العميقة والمستمرة، قبل وبعد الإطاحة بالدكتاتورية البعثية الصدامية عام 2003، طائفياً ومصلحياً بإيران والقيادة الشيعية الصفوية، التي تقودها حوزة قم وعلى رأسها علي خامنئي حالياً، التي كانت ومازالت تعمل على جعل العراق دولة ضعيفة وهامشية ومهمشة وتابعة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً لإيران، بأن هذه الأحزاب ترى في ذلك توطيداً لدورها الطائفي السياسي في البلاد والحكم، وتمكينها من استنزاف موارد العراق من الباطن لصالح إيران ومصالحها الذاتية، وفي مواجهة وإحباط مسعى الأحزاب الإسلامية السياسية السنية على استعادة مواقعها المفقودة في الدولة العراقية منذ العام 1921، حتى تسليم الولايات المتحدة وإيران السلطة بيد الأحزاب لإسلامية الشيعية، وبأهداف واضحة ومعلنة سلفاً.

يقدم الواقع العراقي ابتداءً من الجعفري ومروراً بالمالكي والعبادي وعبد المهدي، وانتهاءً بالقلق الذي يستنزف الكاظمي لما يجب أن يقوم به، كما اشرت مرة فهو يتحرك بين مدينتي "نعم" و "لا"، وعاجز حتى الآن عن حسم مواقفه مما يساعد على استمرار هامشية الدولة وهشاشتها التي تسعى إليها الأحزاب الإسلامية الشيعية، أو "البيت الشيعي" بقضه وقضيضه، وبالتالي يستهلك التأييد النسبي الذي حصل عليه وينتهي إلى ما لا تحمد عقباه! كل الدلائل تؤكد بما لا يقبل الشك بأن الأحزاب الإسلامية الشيعية لا تعترف بالقوميات ولا تعترف من حيث المبدأ بالفيدرالية، بل تريد دولة إسلامية واحدة، وكلهم رعايا مسلمات ومسلمين لا غير، وما الاعتراف بالفيدرالية سوى التكتيك ذاته الذي مارسه البعث في الحكم الذاتي، وهي بالتالي كان تماطل وتسوف في معالجة المشكلات القائمة مع الإقليم، وأوجدت أسلوب الاتفاقات الفردية غير الرسمية المراوغة ثم التنصل عنها متى شاءت، كما حصل بعد الاتفاق بين نوري الملكي ومسعود البارزاني في عام 2010 في طهران، ثم في سياسات ومواقف نوري المالكي إزاء الكرد بعد عام 2010 حين مارس فرض الحصار الاقتصادي والمالي عليها. ولم تخف الحكومات التي يترأسها حزب الدعوة والبيت الشيعي سعيها لدق أسفين الخلاف وتشديده بين الأحزاب الكردستانية، لاسيما بين الحزبين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني للاستفادة منه في مفاوضاتها مع حكومة الإقليم، والذي لم يكن في صالح المجتمع العراقي كله.

برهنت تجارب الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، التي قفزت على الحكم في عدد من الدول العربية أو الشرق أوسطية بصيغ مختلفة غير ديمقراطية منها مثلاً: إيران، تركيا، السودان، مصر في فترة محمد مرسي والإخوان المسلمين، السعودية وقطر الإخوانية، ثم العراق في ظل الأحزاب الإسلامية السياسية الحاكمة، بأنها لا تؤمن بمبادئ الديمقراطية والحريات العامة وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، وأنها لا تعارض الفلسفات والأفكار الأخرى فحسب، بل تحاريها وتسع إلى تصفية متبنيها. وقد عبر قادة هذه الأحزاب في مناسبات كثيرة عن كونهم يستخدمون الديمقراطية كتكتيك مهم للوصول أو للبقاء في السلطة، فهو وسيلة مؤقتة، ولا يشكل مهمة أو هدفا استراتيجياً لهذه الأحزاب، لأنه يتعارض أولاً وقبل كل شيء مع "الحاكمية لله"، كما في الشعار المركزي لجماعة الإخوان المسلمين، أو الإيمان بـ "ولاية الفقيه"، الذي يمثل ويجسد إرادة "صاحب الزمان المهدي المنتظر، باعتبارها إرادة الله، كما في نهج الشيعة الصفوية التي التحقت به جميع الأحزاب الشيعية العراقية، وتخلت عملياً عن مرجعية السيستاني التي ترفض ولاية الفقه.

كما سقطت هذه الأحزاب في مستنقع الفساد المالي والإداري على أوسع نطاق ممكن، حيث التهمت مئات المليارات من الدولارات الأمريكية ورشوات في جولات عقود النفط الخام مع الشركات الأجنبية، وعقود الكهرباء، وعقود السلاح وروائحها النتنة والكريهة، وعقود التجارة الخارجية والعقارات ومزاد بيع الدولار الأمريكي.. إلخ، إضافة إلى تكريس مواقع أحزابها في الوزارات وأجهزة الأمن المتعددة والشرطة والجيش والمخابرات والاستخبارات والإعلام الرسمي وكل الوزارات التي هيمنت عليها باعتبارها ملكا خالصاً لها! هكذا تصرفت كل هذه الأحزاب وأوصلت البلاد إلى ما هو عليه الآن من بؤس وخراب.

2) الأحزاب الإسلامية السنية وبعض القوى القومية اليمينية والشوفينية التي كانت وماتزال ترى بأن من الأهمية لها بمكان أن تبقى الدولة العراقية ضعيفة، هامشية ومهمشة، وأن يكون الحكم عاجزاً عن معالجة المشكلات المتفاقمة التي تضعف المجتمع ووحدته الوطنية، وهي تتوقع حصول وضع جديد يمكن أن يطيح بهذا الحكم لصالحها واستعادة مواقعها في حكم البلاد. ولكنها حتى حصول ذلك، فأنها تسير على هذا الدرب الخطير وتقديم التنازلات والمساومة مع الأحزاب الشيعية الحاكمة التي لا تصب في مصلحة أتباع المذهب السني بل لمصلحة هذه القيادات والأحزاب، كما دخلت في مساومة مخجلة ومريع مع إيران بعد اللقاءات التي تمت مع خامنئي. ولهذا تجد هذه القوى السنية المشاركة في الحكم معارضة جادة من أوساط شعبية سنية غير قليلة، كما هو وضع أوساط شيعية غير قليلة ترفض سياسات الأحزاب الإسلامية الشيعية الحاكمة.

3) الأحزاب السياسية القومية الكردية التي كانت ومازالت ترى في ضعف وهشاشة وهامشية الدولة العراقية منفعة لها، التي تعتقد بأن ذلك يوفر لها مسائل عديدة على أرض الواقع ويمنحها القوة والقدرة على المساومة وانتزاع ما يمكن انتزاعه من مكاسب.

أ‌) كما أنها كانت وماتزال ترى في الصراع العربي الشيعي-السني، إضعافاً لهما يقود إلى عجزهما عن مواجهة حكومة الإقليم والشعب الكردي في أهدافه.

ب‌) لهذا عمدت الأحزاب الكردية إلى الدخول في تحالف مع الأحزاب الإسلامية الشيعية وضد الأحزاب السنية مرة، ومع الأحزاب الإسلامية السنية ضد الأحزاب الشيعية مرة أخرى، وهي لعبة خطرة قادت وتقود إلى عواقب وخيمة على العراق كله وعلى الإقليم والشعب الكردي ذاته.

ج‌) تشجيع الفساد في الدولة العراقية والمساهمة فيه، مما يقود إلى إضعاف الدولة والحكم، والذي يتعذر معه معالجة مشكلات التخلف والبطالة والفقر والتنمية الوطنية، وإبقاء العراق خاضعاً لدول الجوار، لاسيما إيران وتركيا، في تغطية احتياجاته الاستهلاكية المتنوعة. والفساد يعتبر من بين أهم صور مصادرة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية والتقدم.

د‌) منع الدولة العراقية من فرض سيطرتها الفعلية على المنافذ الحدودية على كل التراب العراقي، بما فيه أرض كردستان العراق، مما يسهم في السيطرة على موارد الجمارك وأضعاف هيبة الدولة وقدرتها على التحكم بما يحصل على الحدود من تجاوزات على السيادة والاقتصاد الوطني العراقي.

هـ) توقيع اتفاقيات نفطية مع شركات أجنبية دون العودة والتداول مع الحكومة الاتحادية، وهي مخالفة صريحة للدستور العراقي، ثم ما جرى ويجري طرحه في الصحافة الدولية المتخصصة بشؤون النفط والغاز عن قيام حكومة إقليم كردستان باستخراج وتصدير النفط عبر تركيا إلى مختلف الدول ومنها إسرائيل، على وفق خبراء النفط الدوليين (
راجع: د. وليد خدوري، أحد كبار خبراء النفط في العالم في مقاله الأسبوعي الموسوم، غاز شرق المتوسط: العوامل الجيوسياسية والبترولية، الثلاثاء - 21 ذو الحجة 1441 هـ - 11 أغسطس 2020 م - رقم العدد 15232).

4) تشترك في نشوء هذا الواقع ليس حكومة الإقليم والأحزاب السياسية القومية الكردية فحسب، بل وبشكل خاص الحكومة الاتحادية والأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية، التي تخلت عن وضع الأسس والصلاحيات التي يفترض ان تتمتع بها حكومة الإقليم والحكومة الاتحادية، وعدم الاعتماد على الاتفاقات الفردية بين المسؤولين والتي يمكن التخلي عنها من هذا الطرف أو ذاك عملياً كما حصل في اتفاق مسعود البارزاني ونوري المالكي في عام 2010 عند تشكيل حكومة المالكي للدورة الثانية مثلاً، أو عدم المصادقة على قانون النفط والغاز في مجلس النواب العراقي.

لقد برهنت السنوات المنصرمة منذ إسقاط الدكتاتورية عام 2003 على إن أضعاف الدولة العراقية وتهميشها واللعب على صراعاتها الداخلية لم ولن يخدم قوميات العراق وشعوبه، بل أدت وتؤدي إلى مزيد من العواقب الوخيمة والمسيئة للجميع، وهو ما يعيشه العراق حالياً. ومنذ سنوات كثيرة لم أقصر في إبلاغ رأيي هذا للأخوة الكرد إزاء تلك المسائل والكتابة عنها من جهة، كما لم أقصر في نقدي لسياسات الحكومات الاتحادية بمقالات ودراسات كثيرة من جهة ثانية، لكن لم تكن هناك الأذان الصاغية والفاعلة، بل كانت المصالح الضيقة والآنية هي المهيمنة.

ثانياً: على الصعيد الدولي
1) لا نجافي الحقيقة حين نقول بأن دولة إيران هي الدولة الأولى التي لا تريد أن يكون العراق قوياً وأن تكون له دولة ذات سيادة واستقلالية في قراراته الداخلية والخارجية، بل تريده أن يكون تابعاً ذليلاً لها ومحتلاً من قواها الإيرانية والعراقية التابعة لها والمتمثلة بالأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية وميليشياتها الطائفية المسلحة، التي استطاعت أن تدجن الأحزاب الإسلامية السنية، لاسيما رئيس مجلس النواب العراقي وتوابعه، وهم الذين اشتروا مقاعد مجلس النواب بملايين الدولارات الأمريكية، أو من سمي من قبل المالكي بمفتي أهل السنة والجماعة، الشيخ المتطرف مهدي الصميدعي، الذي بنى علاقات خاصة مع الخامنئي وأردوغان. فإيران المستفيدة الأولى من أوضاع العراق الراهنة مالياً واقتصاديا أولاً، واعتباره موقعاً وسيطاً لقواتها المرسلة إلى سوريا ولبنان واليمن ثانياً، وتقديم السلاح والعتاد والمساعدات لحزب الله التابع لها في لبنان وللحكومة السورية، ومنها ايضاً للحوثيين في اليمن ثالثاً، ومحاولة التحرش بالقوات الأمريكية من خلال ميليشياتها الشيعية المسلحة رابعاً. وعلينا أن ندرك بأن لإيران أطماع توسعية في العراق، وهي ليست من عندياتنا، بل صرح بها مراراً وتكراراً أكثر من مسؤول كبير في إيران.

2) والمستفيد الثاني من ضعف وعجز العراق عن الدفاع عن سيادته واستقلال قراراته اقتصادياً ومالياً هي الدولة التركية، التي لها قواعد وركائز عسكرية في العراق، لاسيما في إقليم كردستان وفي محافظة نينوى في شمال العراق. ولهذه الدولة أطماع معلنة عبر عنها "سلطانها" ودكتاتورها الجديد رجب طيب أردوغان، لاسيما في ولاية الموصل السابقة، أي كل كردستان وكركوك والموصل، حين ذكر بأن معادة لوزان 2/1923 ستنتهي سنة 2023.

إن هذين البلدين، إيران وتركيا، يقومان باستمرار بالاعتداء العسكري على الدولة العراقية والقصف الجوي باستخدام الصواريخ والادعاء بمطاردة القوى الديمقراطية الكردية في كردستان إيران، وحزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا، والتجاوز المستمر على المناطق الحدودية بين العراق وهاتين الدولتين الجائرتين، مما أدى أخيراً إلى استشهاد ضابطين وجندي من القوات المسلحة العراقية. دع عنك عن استشهاد أعداد كثيرة من الفلاحين وسكان القرى القريبة بسبب استمرار القصف التركي وإشعال الحرائق في المزارع والغابات.

3) ويبدو لي بوضوح إن بعض دول الخليج لا تريد حصول استقرار في العراق أو تعزيز مواقع الدولة العراقية وقواتها المسلحة، بسبب العدوان الذي نفذه الدكتاتور صدام حسين بغزوه الكويت والجرائم البشعة التي ارتكبتها القوات الصدامية ضد الأشقاء الكويتيين. كما إن ضعف الدولة العراقية لا يسمح لها بالمطالبة بإعادة رسم الحدود وتعديل الاتفاقيات التي عقدت في ظل أوضاع استثنائية في غير صالح العراق، والتي ستبقى مؤذية للعلاقات بين الكويت والعراق ما لم يعاد النظر فيها لصالح البلدين الشقيقين.

4) لا شك في أن إسرائيل وراعيتها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص هما المستفيدتان من واقع العراق الراهن ولا تريدان تغيير الأوضاع رغم الادعاء بغير ذلك. ولا نحتاج إلى شرح كثير في هذه المسألة، فالولايات المتحدة هي المسؤولة الأولى عما بدأت به في العراق بعد احتلاله مباشرة بإقامة نظام سياسي طائفي يسهم في تدمير النسيج الوطني للشعب العراقي أولاً، ونظام سياسي فاسد ومناهض كلية لمصالح الشعب الوطنية والمتصارع دوماً معها لانتزاع حقوقه الوطنية التي عبر عنها المنتفضون: نازل أخذ حقي، وأريد وطن ثانياً.

لا شك في أن هذه الأوضاع التي يشارك فيه حكام العراق منذ عام 2003 حتى الوقت الحاضر، وأن اختلفوا في مدى تحملهم للمسؤوليات في ما وصل إليه العراق من وضع مزري في قوائم المعايير الدولية من حيث التعليم والصحة ونظافة المدن والفساد المالي والإداري وتدهور الخدمات، لاسيما الكهرباء، وغياب التنمية الوطنية والبطالة والفقر المدقع وارتفاع نسبتهما إلى مجموع الشعب والأمية وشحة وخراب المدارس والمستشفيات...الخ، قد أدت إلى الانتفاضة الشبابية المقدامة والتي جلبت معها أوساطاً شعبية واسعة منذ الأول من تشرين الأول 2019 التي لم تنقطع رغم تراجعها بسبب وباء كورونا، وهي سائرة في المطالبة بتلك الشعارات الأساسية لتحقيق التغيير المنشود. وقد اقتصرت الانتفاضة على محافظات بغداد والوسط والجنوب مع تأييد فعلي غير مباشر وأحياناً مشاركة من سكان محافظات الغربية ببغداد، في حين لم تشارك الموصل بسبب أوضاعها، مع تأييد سكانها لأهداف الانتفاضة. وتلعب الميليشيات الطائفية الشيعية المسلحة المسيطرة على هذه المحافظات دوراً قاهراً في خنق أصوات وأنفاس السكان فيها. أما إقليم كردستان فقد عرَفَ بين الحين والآخر مظاهرات مطالبة برواتب الموظفين والمتقاعدين أو بالخدمات أو بحرية الصحافة، لما تعرضت له حرية الصحافة من تجاوزات من قبل الحكومة والأجهزة الأمنية، كما جاء في بيانات مركز ميترو لحماية حرية الصحفيين في السليمانية وكذلك منشورات الصحافة العالمي ومنظمة العفو الدولية ومراقبة حقوق الإنسان. لن يبقى إقليم كردستان بعيداً عن الانتفاضة الشبابية، وعن الأزمات والمظاهرات السلمية التي تقمع من قبل أجهزة الأمن، بل ستتكرر ما لم تمارس رئاسة وحكومة الإقليم والأحزاب السياسية الحاكمة دورها في رسم وتنفيذ سياسات وإجراءات أخرى كفيلة بوضع حلول جدية وعملية للمشكلات القائمة بينها وبين الحكومة الاتحادية، والتي تفرض على الحكومة الاتحادية الاستجابة للمفاوضات الجادة والمسؤولة والهادفة والسلمية إلى معالجة جميع القضايا العالقة التي أعاقت حتى الآن قيام علاقات إنسانية وأخوية وتضامنية على أساس من الدستور العراقي ولمصلحة قوميات العراق كافة.

لا يستقيم الوضع في العراق ما لم يسع الشعب العراقي إلى الخلاص من هذه السياسات غير العقلانية والمؤذية لكل الشعب بكل قومياته، والتي تستوجب الخلاص من الزمرة الحاكمة والتي كانت وراء جعل العراق دولة هشة، هامشية ومحتلة عملياً من قبل دولة إيران الطامعة بالعراق، ووجود قواعد عسكرية تركية للدولة الطامعة بالعراق أيضاً على الأراضي العراقية. إن الشعب العراقي بحاجة إلى إجراء تغيير جذري في أوضاع العراق وإزاحة الطغمة الحاكمة عن السلطة وسيطرتها على مجلس النواب والقضاء العراقي وكل المؤسسات الحكومية الأخرى. إنه الطريق الوحيد للخلاص من الوضع المزري الراهن، إنه النضال الذي يخوضه المنتفضون والمنتفضات وعموم الشعب العراقي لصالح التغيير الآتي عاجلاً أم آجلاً لا ريب في ذلك.


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter