|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  9  / 4 / 2019                                 خالد جواد شبيل                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الرحيل..(*)

خالد جواد شبيل
(موقع الناس)

أول الكلام:
هو يوم منقوش في الذاكرة، كان يوم خميس في الفاتح من شباط/فبراير عام 1979.. فقد أنهيت واجبي وسلمت ما بذمتي من دفاتر امتحان نصف السنة لجميع الصفوف الدراسية الى مدير الثانوية الرجل الطيب الأستاذ خليل (أبو إبراهيم)، وخرجت مرتاح الضمير؛؛ فأساليب المطاردة وإجبار الناس على التعهد بعدم الانتماء لأي حزب آخر عدا حزب البعث هو كابوس ثقيل، لا يزيد عليه ثِقلاً سوى الخيار بالانتماء لحزب البعث أو القبول بأي وظيفة وفي أي مكان خارج سلك التعليم أو خيار الاعتقال!! وهكذا قررت الهجرة، لا هدف معين لي سوى إيثار العافية متأسياً بقول ابن زريق البغدادي (صاحب العينية الذائعة، والذي توفي في غربته عام 420ه بعد أن أودع قصيدته الواحدة تحت وسادته وأسلم الروح) (البسيط):

واللهُ قسّم بين الخلق رزقَهمُ – لم يخلقِ اللهُ مخلوقاً يُضيّعهُ

ولم أكن الوحيد الذي قرر المغادرة، فكان معي عدد من الزملاء ذوي التوجه اليساري.. وكانت هجرة "الدائرة الذكية" وفق تعبير سعدي يوسف، يقدر عددها في عام 1979بمئات الألوف من المثقفين والكوادر الأكاديمية والتعليمية ومن موظفي دوائر الدولة ومن العمال...وجُلُّهم من بني اليسار أو من الحزب الشيوعي ومن مريديه ومن حزب الدعوة الإسلامية؛ وقد وصل العدد في عام 1995 الى أكثر من ثلاثة ملايين تقاسمتهم قارات كوكبنا الذي غدا صغيراً غير ما ابتلعتهم الأمواه ومازالت!!

***
اجتمعنا في الصالحية حيث منطلق الحافلة على الساعة الثامنة وكان الليل بارداً وبدا موحشاً وقد ساد صمت ثقيل ولا تسمع إلا أصواتاً هامسة حذرة، وقد استغرقنا التفكير بماذا ينتظرنا في عالم مجهول؟ وكانت أوراقنا الدراسية قد خُبئت بعناية، بينما كان كتاب مديرية التربية بالموافقة على السفر هو الوثيقة الهامة بعد جواز السفر!

وصلنا زاخو عند الرابعة صباحاً وبقينا ننتظر في السيارة عند أقصى المدينة النائمة ريثما يفتح مركز شرطة الحدود عند جسر إبراهيم الخليل. كان البرد زمهريرا، والانتظار في عتمة الليل يزيد من القلق والوجوم وكان اليوم جمعة، حيث تحركت السيارة مع اقتراب الساعة الثامنة عن نقطة الحدود، وبدأنا بتقديم الجوازات لشرطيين مع وجود عدد من الشرطة المدنية ومن منتسبي مديرية الأمن العامة.. كان التفتيش دقيقاً للحقائب، وقد سهّل كتاب مديرية التربية في مهمة التفتيش والمساءلة، لكن هناك ثلة من حوالي سبعة شبّان بينهم شابتان مثار شكوك لدى رجال الأمن، حيث تم التحقيق معهم لساعات طويلة وحيث كان اليوم جمعة لم يكن هناك من موظفين في قسم الملفات في أمن بغداد.. وبقيننا ننتظر أربع عشرة ساعة ولم يسمح بالسيارة بالتحرك الا في السادسة مساء، حيث صعد جميع الركاب.

وفي الجانب التركي توقفت السيارة لتأشير الدخول حينها أحاط الناس القرويون بالسيارة يسألون عن الشاي العراقي الذي بيع بسعر مُجزٍ.. وانطلقت السيارة وأنطلقت الأحاديث تعبر عن الأسارير، وبدأت شرائط التسجيل تصل للسائق التركي حيث أغاني فؤاد سالم الشجية..

بدت الطبيعة جبلية وشاهقة، وكانت وجبة العشاء ممتازة في أورفة (الرها) في مطعم عربي، وقد عضنا الجوع بنابه، فلم نأكل في زاخو إلا لفّة بيض من بائع وحيد عند نقطة الحدود قبل العبور؛ والرها مدينة سورية معظم سكانها من العرب ويتكلم العربية ونسبة قليلة من الأكراد، أُلحِقت بتركيا وفق معاهدة سفر الجائرة عام 1920 التي عُقِدت بين فرنسا وبريطانيا من ناحية وتركيا من ناحية أخرى التي أُرضِيت بضم الشريط الحدودي السوري العراقي بما في ذلك أضنة وطرسوس ومرسين ودياربكر وماردين وجزيرة ابن عمر ومرعش وغازي عنتاب وكلس إضافة الى مدينة أنطاكية (ولواء الاسكندرونة سنة 1939 بكامله لتركيا حيث تخلت عنها فرنسا ووهبت ما لا تملك!) بعد أن تقاسمت الدولتان المستعمرتان تركة الرجل المريض في معاهدة سايكس بيكو..

كان الطريق ساحراً ومخيفاً حين كنا نقطع جبال طوروس الشاهقة التي تعتبر الحد الطبيعي الفاصل بين بلاد العرب وتركيا أو بلاد الروم (بيزنطا) قبل أن تدخلها القبائل التركية التي نزحت من أواسط آسيا وغرب الصين..

وصلنا اسطنبول في اليوم الثاني عند الساعة السادسة مساء من يوم السبت السادس من شباط عام 1979...واسطنبول حاضرة تاريخية عريقة ومدينة جميلة ومن أهم معالمها جسرها العملاق على مضيق البسفور الذي يفصل الجزء الآسيوي عن الأوربي، والذي أزاح ذلك الجسر المخيف الذي قال فيه أحمد شوقي قصيدته ومنها (الوافر):

أمير المؤمنين رأيت جسراً ... أمر على الصراط ولا عليه
له خشب يجوع السوس فيه ... وتمضي الفار لاتأوي إليه
ولا يتكلف المنشار فيه ... سوى مر الفطيم بساعديه
ويبلى فعل من يمشي عليه ... وقبل النعل يدمي أخمصيه

ومن معالمها أيا صوفيا وجامع سلطان أحمد.. وأسواق اسطنبول شهيرةٌ شهرةَ سمكها الذي يقلى في قوارب البسفور ويباع أمامك ثم يوضع في خبز لخلوه من العظام ويُعمل منه شاطر ومشطور...!

ثم واصلنا الرحلة بعد استراحة ثلاثة أيام في (إستانة) ثم غادرناها بالقطار الى صوفيا فبلغراد ثم ألقينا بعصا التَرحال في بلاد المجر وعاصمتها الحسناء بودابست النائمة على الدانوب الأزرق..

والحديث يطول!


(*) لمناسبة مغادرتي بلدي العراق قبل أربعين عاماً بالتم والتمام..

 

الفاتح من شباط 2019



 



 







 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter