| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

د. عبدالخالق حسين

 

 

 

الخميس 19/11/ 2009



التحذير من عودة البعث، بين المعقول واللامعقول

د.عبدالخالق حسين

الخوف غريزة طبيعية في الإنسان وجميع الكائنات الحية، وهو ضرورة من ضرورات الصراع من أجل البقاء، وحماية النفس من الأذى وأخذ الإجراءات اللازمة للوقاية من الشر، أي أن الخوف يقع ضمن شروط الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح. والشعور بالخوف في حالات مواجهة الخطر يشبه الشعور بالألم عندما يتلامس أي جزء من الجسم مع النار أو أي مصدر يسبب الألم، فيسحب الإنسان يده تلقائياً بحركة انعكاسية (reflex action) لا إرادية أي دون تفكير، لحماية نفسه من الحرق أو الأذى. وفي حالة فقدان الإنسان الإحساس بالألم تتعرض أطرافه للحروق كما يحصل لمرضى الجذام. فجراثيم هذا المرض تتلف المجسات والأعصاب الحسية، ويفقد المريض الإحساس بالألم، وتتآكل أصابعه مع الأيام نتيجة الحروق دون أن يشعر بألم. وهذا لا يعني أنه شجاع وصبور يتحمل الألم، بل لأنه فاقد الإحساس بالألم ليحمي نفسه من الحروق وغيرها من مصادر الأذى. ومن هنا نعرف أن الشعور بالخوف والإحساس بالألم غريزتان طبيعيتان في الإنسان وفي أي كائن حي سليم لهما فوائدهما.

لذا فهناك فرق كبير بين الشجاعة والتهور. الشجاع ليس الذي لا يخاف في حالات التي تستدعي الخوف، بل الذي يسيطر على نفسه برباطة جأش، ويتخذ الإجراءات اللازمة المناسبة لمواجهة مصدر الخوف، لحماية نفسه وحماية من يقع ضمن مسؤوليته. أما الذي يستهين بمصدر الخوف ويتلكأ في أخذ الإجراءات اللازمة، فهو متهور وليس شجاعاً. لذلك فالفرق بين الشجاعة والتهور، كالفرق بين الإنسان السليم والمجذوم.

كذلك يجب التمييز بين الخوف المعقول (
Rational fear) الذي مر بنا وصفه أعلاه، والخوف اللامعقول، فوبيا (Irrational fear)، أي الخوف المرضي الذي يحصل عند أناس من أشياء لا داعي للخوف منها، مثل الخوف من العلو acrophobia أو الخوف من الأجنبي وكرهه Xenophobia ، أو الخوف من حشرة العنكبوت Arachnophobia ...الخ

مناسبة هذه المقدمة عن الخوف عند الإنسان هي الحملة الإعلامية التي نشهدها هذه الأيام والتي تركز على الاستهانة بمخاطر عودة البعث ووصف من يحذر الشعب العراقي والقوى السياسية منها، يتهمونه بالخوف غير المبرر أو الهوس أو الفوبيا من البعث.

جادلت في هذا الخصوص قبل أيام بمقال لي بعنوان (مخاطر عودة البعث بين الحقيقة والخروعة)، ولم يكن رداً على الصديق العزيز الأستاذ عودة وهيب وحده، بل وعلى رسائل كثيرة استلمتها من عدد من المعارف والأصدقاء الأعزاء، أشرت لهم جميعاً في مقالي السابق. ولكني ذكرت الصديق عودة وهيب بالاسم لأنه نشر مقالاً في هذا الخصوص بعنوان ("خرّوعة" البعث لن تخيف طيور الحرية). وفي مقالي اليوم، أود مواصلة النقاش لتوضيح جوانب أخرى مهمة من المشكلة، وقبل أن (تقع الفاس بالراس)، كما يقول العراقيون!،

أولاً، أشكر الصديق العزيز الأستاذ عودة وهيب على مقاله الثاني حول (مخاطر عودة البعث) الذي كان واضحاً فيه بما فيه الكفاية، و أكد لنا بدون أي غموض أو تأويل، أنه لم يستهن بمخاطر البعث، بل هي حقيقية وليست خراعة خضرة!! ولا يمكن مطلقاً لأي إنسان عاقل أن يشك في موقف الصديق من هذا الحزب الشرير كما أوضحه في مقالاته العديدة التي تفضل بذكر روابطها. فنحن متفقان مائة بالمائة على خطورة البعث وشروره، ودورنا هنا دق ناقوس الخطر ومطالبة الحكومة وكل القوى السياسية الخيرة والمثقفين الأخيار تبني الوسائل المشروعة لمنع عودته، واتخاذ إجراءات فعالة لمواجهة هذا الخطر واستئصال أيديولوجيته الشريرة من المجتمع العراقي.

ثانياً، كما وأود التأكيد أني لم أقع في (حب أو غرام) أي سياسي ومهما كانت إيجابياته وحسناته، ولكني في نفس الوقت، أعتقد أن من واجب المثقف أن يقيِّم الإيجابيات ولا يساويها بالسلبيات، كي لا يبخس أحداً حقه بحجة أنه في موقع المسؤولية، وإلا أحرقنا الأخضر واليابس معاً، وساوينا بين الخير والشر، وهذا غير عادل ومجحف بحق الأخيار. وإذا ما استنكرت تهمة باطلة ومضحكة كتلك التي أدعى مروجوها أن صهر المالكي صفع سفيرنا في واشنطن، لا يعني أنني وقعت "في حب وغرام" السيد المالكي معاذ الله، بل لأني رأيت ذلك واجباً على المثقف أن يحترم عقله وأن لا يصدق كل ما يقرأ من افتراءات، وعليه إعمال عقله وحماية عقول الناس من أكاذيب وافتراءات البعثيين وأشباههم.

ثالثاً، موضوعة (المحاصصة أم الشراكة!!): بينت في مقال آخر لي (حول إشكالية المحاصصة)، وكما قال الصديق الأستاذ عودة، أن شعبنا يتكون من عدة مكونات وليس بإمكان أية مكونة واحدة حكم العراق لوحدها. لذلك أقر الدستور الجديد على مبدأ (الشراكة
Partnership) لمنع تكرار احتكار مكونة واحدة من المجتمع للمناصب والنفوذ والثروة. ولكن بإمكان المتضرر من هذه الشراكة أن يعترض عليها ويطعن بها وذلك بإطلاق تسمية بذيئة عليها، فيسميها (محاصصة طائفية) للحط منها، بدلاً من (المشاركة) التي هي قضية عادلة ولا بد منها.

ولكن في نفس الوقت أتفق مع المتذمرين من هذه (المحاصصة أو الشراكة)، عندما أسيء استخدامها. فالخطأ ليس في إشراك الجميع دون تمييز في المناصب العليا وغيرها في الدولة، بل الخطأ في سوء استخدام هذه الشراكة. فبدلاً من أن تكون مشاركة ممثلي مكونات الشعب السياسية في البرلمان وأعضاء الحكومة (الوزارة) وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع، أساء هؤلاء لمبدأ المشاركة وجعلوها محاصصة حزبية طائفية شملوا بها موظفي ومستخدمي وزاراتهم وإلى أسفل السلم الوظيفي. وبما إن معظم هذه الأحزاب دينية وطائفية وعرقية، فاتخذت المشاركة في الوظائف الحكومية صفة المحاصصة الحزبية العرقية والطائفية دون أخذ مبدأ الكفاءة والشخص المناسب في المكان المناسب في نظر الاعتبار، وهذه جريمة بحق الشعب. فالشراكة هنا صار سيفاً ذو حدين أسيء استخدامه، مثلها كمثل الأدوية، يمكن إساءة استخدامها بإلحاق الأذى بالمرضى وحتى قتلهم بدلاً من شفائهم.

ولمنع سوء استخدام المشاركة وعدم التمييز بين المواطنين في الوظائف، اقترحت في الورقة التي قدمتها في الملتقى الفكري الأول في بغداد أوائل تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، بعنوان (دور الطائفية في الأزمة العراقية)، اقترحت فيها تأسيس هيئة مراقبة (
Ombudsman) للإشراف على تنفيذ التشريعات ومنع التمييز والتفرقة بين المواطنين في التوظيف. سأنشر البحث قريباً.

وبالعودة إلى مخاطر اغتصاب حزب البعث للسلطة ثالثة، أعتقد أن الخطر جدي، ويجب على الكتاب عدم الاستهانة به، ومن يعتقد أن البعث قد انتهى فكراً وتنظيماً فهو على خطأ. وكما بينت في مناسبات سابقة، أن البعث اكتسب خبرة واسعة وعميقة في الخبث والدهاء والتلون وتحين الفرص وتجييرها لصالحه حسب ما تقتضيه الظروف.
ففي وثيقة أصدرها حزب البعث قبل سقوطه طالب أعضاءه فيها: " ... تجنيد عناصر ومصادر معتمد عليها وإدخالها إلى الجوامع والمساجد، الانتماء إلى الحوزة العلمية في النجف، الانتماء إلى الأحزاب والتجمعات الوطنية والإسلامية، قطع الاتصالات الداخلية والخارجية، شراء الأسلحة المسروقة من المواطنين، التقرب من العائدين من خارج القطر، اغتيال أئمة وخطباء الجوامع المساجد..." والقائمة طويلة، وهذا هو الرابط:
http://www.nahrain.com/d/news/03/06/07/nhr0607b.html

نجد تنفيذ هذه التعليمات في الوقت الراهن من قبل بعض التحالفات السياسية بمناسبة الانتخابات البرلمانية، ومنها ملغومة بالبعثيين والمتعاطفين معهم، مثل تنظيم جبهة الحوار الوطني العراقي بزعامة السيد صالح المطلك، والذي اندمج مؤخراً بتنظيم الوفاق الوطني (قائمة العراقية) الذي يتزعمه الدكتور إياد علاوي (بعثي سابق)، وشكَّلا (حركة الوطنية العراقية). والجدير بالذكر أن السيد صالح المطلق صرح علناً: أن الانتخابات القادمة سوف تدخل 40 بعثياً إلى البرلمان. ألا يشكل هذا خطراً على الديمقراطية الوليدة؟

كذلك نلاحظ عند وقوع أية عملية إرهابية يسارع نواب كتلة صالح المطلك بتبرئة البعث والقاعدة منها وإلقاء مسؤوليتها على الشيعة، [
راجع مقال (نواب بعثيون يحاولون تبرئة القاعدة من قتل 13 من قادة الصحوة وقطع رؤوسهم وتحميل "الشيعة " المسؤولية) الرابط أدناه].
وهذا تكتيك يتميز به حزب البعث وحده دون غيره، من أجل إشعال فتنة طائفية كما عمل من خلال تفجير مرقد الإمامين، علي الهادي والحسن العسكري، في سامراء قبل سنوات. لذلك أتوقع أن تكون الحملة الانتخابية الحالية أن تكون قذرة ودموية جداً بسبب تكتيكات البعث. وما إقدام السيد طارق الهاشمي باستخدام حق النقض ضد التعديل الأخير لقانون الانتخابات، بحجة إنصاف العراقيين في الخارج، إلا جزء من هذه التكتيكات التي تصب في خدمة البعث، لتعطيل العملية السياسية وإجهاض الديمقراطية.

والمشكلة الأخرى أن البعض من أصحاب النوايا الحسنة، وحتى من الديمقراطيين الليبراليين، يرون بأنهم يثقون بتحالف (علاوي - المطلك)، أكثر مما يثقون بقائمة السيد نوري المالكي (إئتلاف دولة القانون) وذلك لأن الأول علماني والثاني إسلامي لا يوثق به. نسي الصديق أن صدام وهتلر وموسوليني وفراكوا وبولبوت كانوا علمانيين أيضاً، ولكن أهلكوا الحرث والنسل بحكمهم. لذلك أعتقد أن المراهنة على علمانية (علاوي - المطلك) خطيرة جداً، خاصة بعد ما صرح به المطلق من جلب البعثيين إلى البرلمان، وبعد كل تلك التجارب المريرة من حزب البعث وما جلبه من كوارث على العراق. لذلك فجوابي على ذوي النوايا الحسنة هو أني أثق بإسلامي معتدل مثل السيد نوري المالكي، الذي جعل بناء دولة القانون والمواطنة والدولة العصرية هدفاً من برنامجه الانتخابي، أكثر مما أثق بتحالف علماني يصرح أحد قادته بعودة البعث الفاشي إلى الحكم.

وفي الوقت الذي أتفق فيه مع الرأي القائل أن عهد الانقلابات العسكرية في الشرق الأوسط قد ولى، إلا إنه يجب أن لا نستبعد عودة البعث إلى الحكم هذه المرة، ولكن عن طريق صناديق الاقتراع، وذلك لا لأن الشعب يميل إلى البعثيين وينتخبهم، بل لأن مرشحي البعث اخترقوا كيانات سياسية تحمل شعارات الوطنية والديمقراطية البراقة، ولبسوا قمصان "الديمقراطية" الخادعة المموهة (
Camouflage). ولا ننسى أن الحزب النازي الألماني والحزب الفاشي الإيطالي جاءا إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، ومن ثم أشعلا الحرب العالمية الثانية ودمرا العالم وبالأخص أوربا.

وهنا أعيد إلى الأذهان ما قاله الشاعر الألماني، مارتن نيمولر، عن مجيء النازية:

في البدء جاءوا إلى الشيوعيين،
فلم أعترض، لأني لم أكن شيوعياً.
ثم جاؤوا إلى الاشتراكيين،
فلم أعترض، لأني لم أكن اشتراكياً،
ثم جاءوا إلى اليهود،
ولم أعترض، لأني لم أكن يهودياً،
ثم جاءوا يبحثون عن النقابيين،
ولم اعترض، لأني لم أكن نقابياً،
ثم جاءوا إلى الكاثوليك،
ولم أعترض، لأني من البروتستانت.
وأخيراً، جاءوا لي،
وعندها لم يكن قد بقي أحد ليدافع عني.

أيها السادة، إنه من السذاجة الاستهانة بمخاطر البعث المعرف بالمراوغة والغدر والفتك، فإنه أسوأ من أي حزب فاشي في التاريخ.
ألا هل بلغت اللهم اشهد.

 

مواد ذات علاقة بالموضوع:
نواب بعثيون يحاولون تبرئة القاعدة من قتل 13 من قادة الصحوة وقطع رؤوسهم وتحميل "الشيعة " المسؤولية
http://www.sotaliraq.com/iraqnews.php?id=52031

 


العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com

الموقع الإلكتروني الشخصي:
http://www.abdulkhaliqhussein.com /


 

free web counter