موقع الناس http://al-nnas.com/
وداعا نعيـم مـروكي ... وداعا للرفيــق ابو ســلام
" انهــا دورة .... وتــروح "
كمال يلــدو
الخميس 16 /3/ 2006
يقـول الشــاعر العراقي
الكبير مـظفر النواب في ملحمته الخالدة " قصيدة البراءة" مقطعا لطالما اثبتت الحياة
مصداقيته : " اللـي ما مـش ابــو عنـده ... الحزب ابــوه ، الحـزب بيتــه " .
بهذه الكلمات تبداء الحياة ، وبها تســتمر ، ويوم ســاقتنا الغربـة للمنافـي لـم
يكن في وســعنا ان نختار الناس الذين سـنلتقيهم ، لكن هاجســنا كان الوطن ، ومـن
اجتمع معنا على هـذا الوطن ، كان وطننا وحبيبنا وصديقنا . ولاتختلف ديترويت عن
غيرها من المنافـي ، وكان خيار الوطن الثانــي قســرا ، الا ان العراق ... هذا
العراق كان حاضــرا اينما حللت ، فهو ينســاب بهدوء ويثبت حضوره .
قبل حوالي 25 ســنة ،التقيت نعيم مروكــي في احدى نشاطات الاتحاد الديمقراطي .
عراقي مثلنا قاده الارهاب لهذا البلد ، هـو وزوجته وابنائه الخمســة . رجل طيب
وبســاطته ببساطة اهلنا العراقيين ،قارب الخمسين ، متعب ، لكن في نبرات صوته شــئ
من الطمأنينة والثبات ...شئ من الاصـرار والرفض . ومثلما لكل الاشياء قصص وحكايات ،
كذلك كان نعيم مروكـي . ولـد في ســني الثلاثينات في منطقة العوينة وترعرع فيها ،
الا ان مســيرة حياته كانت تختلف قليلا ، وهـو الجســور و " النــجـر" كما يقولون
.فقادته شـجاعته وانطلاقته الى طريق صعب اول الامـر ، اذ نمـى ليصبح احـد الشـقاوات
في منـاطق العوينة والسنك والمربعة والدهانة . وحال الشقاوات كانت المشاكل والسـجون
، وهكذا كان الحال مع نعيم مروكــي وكان ذلك في اواسط الخمسينات . ورغم ان الكثيرين
من اهالي بغداد (البغـادة) يتحدثون عن قصص كان ابطالها الشقاوات ، الا ان رفقـة هذه
المجموعة لم تكن من المحببات . خـرج نعيم مروكـي من السـجن ،الى عالـم آخـر جـديد ،
عالم كانت الاعاجيب فيـه مســموحة ، فها هـو يتحدث بالصراع الطبقي وحقوق الكادحين ،
وصار يتحدث عن الاستعمار والاقطاع والظلم .. وانقلب نعيم مـروكي على كل مفاهيمه
السابقة ...الا من بقائه على ذات الشـجاعة والصلابة والاقدام التي كان تتطلبها حياة
الاشـقياء في بغداد . ومـع اطلالة ثـورة 14 تموز ، توج قـصـة حبـه لرفيقـة دربـه
"بحرية بحـري " فأقترن بهذه الانســانة الرائعة والناشــطة في الدفاع عن حقوق
المرأة وعن الجمهورية الفتية وعن كل القيم الانسأنية .
عام 1961 كانت من اهم محطات حياة " ابو ســلام" – نعيم مروكي – .. فقـد اصـيب بطلق
ناري فـي ســاقه ، وشـهد بأم عينه اسـتشـهاد رفيقه المرحوم "يوسـف بولص شــعّـا "
وهـم يؤدوون واجبا حزبيا بتعليق لافتات للمطالبة ب " الســلم في كردســتان " في
ســاحة الخلانـي ، بقلب بغداد ، واقتيد على اثرها للسـجن الذي امضى فيه عدة ســنوات
، ولــم يدخله هذه المرة بـجـنحـة اجرامية ، بل دخله مناضلا ومدافعا عن حقوق
الشــعب الكردي ، ورافعا شــعار الحزب آنذاك والذي رد فيـه على الحملة العســكرية
التي قادتها حكومة قاســم ضد الشعب الكردي .
التقاه احــد الرفاق في اليونان عام 1979 غداة الهجمة الاجرامية التي قادها البعث
على كل الوطنيين والاشـراف ، وعـبر آنذاك عن اسـتعداده وعائلتـه للعمـل الوطني ،
والـذي صار مسـيرة متجددة في حياته ، اذ لـم يتوانــى فيــــه حـتى اقعده المرض
قبيل وفاتـه بفترة وجيزة . وعندما حطـت قدماه في هذا المغترب اوائل الثمانينات ،
كان دائم الحضـور ، دائم التواصـل ومثـلا اعلى في الوطنيــة الصـادقة .
سـألته يوما عن الذي قاده للشــقاوات ، فـرد علـّي ابو ســلام :" انا بطبعـي احـب
العدل ، واحب الدفاع عن الـفقراء ، كان هناك نفـر عندنا في الطـرف يعجبه التعدي على
الفقير ، وخاصـة على المسيحيين القادمين من القرى الشمالية ،لـم ارضـى لذلك ،
ســموني شــقاوة ، ســموني اشــقياء ..اي شــئ ، انا دافعـت عن الفقراء ، ولـم آخـذ
خاوة من احـد ، لقد كانوا يخافون منــي ، وانا اتشــرف بذلك ، وانظــر اين قادتني
مفاهيمـي ...لقد قادتني للحزب الشــيوعي عندما ســجنت ، اذ وجدت فيه امل الشعب
العراقي كله " .
كان عندما يمشــي يشــعرك بأنه شــقي ، وهو لا يعنيها ، وكان في ذلك يقول " من الله
، آنـي أمشــي هالشــكل ، يعنــي شـســوي ، قابل ابـدّل مشــيتـي !" . احلى رفـقـة
واحلى جلســة كانت معه . فهو الذي يجمع في ذاكرته اســماء الاشــقياء في اغلب
المناطق الشــعبية مثلما يعرف اسماء المجرمين والحكام .. قـصصا كثيرة ودروس رائعـة
، وحتى في احلك الظروف كان يردد القول " شــعبنا حـي .. ما يكـدر عليـه احــد " .
لأكثر من مناســبة كنا نقرر ان نقدم له ولعائلته بطاقات شــرف لحضور المناســبات ،
املا بتخفيف العبء المالي عليه خاصة وانه كان يعتمد على المساعدات الحكومية ، الا
انه وبمبدئيـه عـالية وحرص شــديدين ، كان يرفض عرضنـا ، ويصــر عاـى ان تشــارك كل
عائلته في الاحتفالات وحتى اطفاله الصغار ، ويمازحنا بالقول " يعني وين راح تروح
الفلوس ، غير للجماعة .. اي كولولهم هاي من نعيم مـروكي .. تبرع "
لـم تظهر عليه علامات العمـر او اشــارات المرض الا بعـد ان فارقته ، رفيقة دربـه "
ام ســلام " . فأذا كان العراق وطنا لــه ، فقد كانت هي ســمائه ، وهــو الذي كان
يعشــقها وتجمعه بها اروع قصة حـب . غادرته مودعة عنده عبئا غير قليل ، اذ عليه ان
يقوم بواجبات العائلة وعناية اضافية بثلاثة ابناء معاقين .ولم اشــهد يوما ان اغتاظ
منهم او اسـاء التصرف معهم ،لا بل حتى ان رفع صوته عليهم ، فلقد احبهم ورعاهـم .
وكنت كلما التقيته اكبــّر فيـه ســعة صــدره وطول بالــه .
فــرح كثيرا وتبخـتر ، حينما علقـوا الحبال واســقطوا تمثال الطاغية ، رقـص مع الكل
، وفي وسـط المحتفلين ، رافعا يديـه عاليا ، بروح الشـباب وقلبهم ، رغــم كبـر
ســنه وتغلغل المرض فيــه .
آخـر مرة قابلته كانت قبيل رحيله بأيام قليلة ، اذ ان شــفائه صار مستحيلا ، فأقترح
الاطباء نقله لبيته وبين عائلته في الوقت الذي لم يبلغ بذلك . شــربنا الشــاي
ســوية وكنا حينها نشــاهد اخبار العراق عبر الفضائية ، وبادرته بالســؤال متألما
وميؤســا :" ابـو ســلام ، يعنـي اكـو امـل بالعـراق ؟ " نظـر الـّي وظهرت على
محياه ابتسـامة واثقة " هــاي دورة وتــروح ... الشـــعب حـي ... وماكو واحد يكـدر
عليـه " ، حينهـا امـّلت نفســي بين خبـرة ابو ســلام في الحياة وتداعيات الاحداث
في العراق ، وتمنيت لو ان الايام تمضـي ســريعة ونخلص من "هذه الدورة " وتتحقق نبؤة
ابو ســـلام .
غـادرنا نعـيم مـروكي وهــو يحلم بوطن حــر وشــعب ســعيد ، نعيـم مـروكي الذي
ســال دمـه ، ودم رفيقـه الشهيد " يوســف بولص " ابن مدينة باطنايا البار من اجل
الســلم في كردستان ، نعيــم الذي كان يحلم بأن يأخذ ابنائه معـه الى ســاحة
الخلانـي ويقص لهــم المشــهد من جــديد ، نعيــم الذي كان يحلم ان يعود للعراق
الخالي من الدكتاتورية ويمضـي يومـه ماشــيا في شــوارع وازقة المربعة والســنك
والعوينة والدهانة مزهـوا ، متفاخــرا ومتبخترا .
تـرحـل الطيور ، وترحل النوارس ، لكنها تترك لنا اعشــاشـها شــاهدا .
غادرنا ابو ســلام وأودع عندنا ذكـرى طيبة ، لمناضـل شــجاع ، وزوج رائـع ، وأب
عطوف وأبن بار لشعبه
طــوبـى للـذين عـرفوا الحقيقـة ونادوا بهـــا حتـى الرمــق الاخيـــر .
آذار 2006
الولايات المتحدة/ مشـيـكان