|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  18  / 11 / 2014                              أ.د. قيس مغشغش السعـدي                          كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تبقى لميعةُ… لميعـةً

أ.د. قيس مغشغش السعـدي *

كنت ألتقيها في ساندياغو يوم أعلن اتحاد الأدباء والكتاب تسمية دورة مهرجان المربد لهذا العام باسمها «دورة الشاعرة لميعة عباس عمارة». وسألتها إن كانت فرحة لذلك، وهي التي حظيت بالتكريم ومُنحت جوائزه وشهاداته وأوسمته. وتقرأ الفرح في عيون لميعة التي ما زالت تلمع بالحياة، قبل أن تسمعها منها أو تقرأها: «فالشاعر يهوى الزّهو… ويَعشِقُ أن يـُعشقْ».

لميعة التي تقطع أواخر شوط الثمانينات من العمر، وإن دعوت لها بالعمر المديد تقول: لا، ليس العمر بطوله. فأقول هو الدعاء بأن يكون مقرونا بالصحة والعافية وديمومة العطاء. وهي والله دائمة العطاء متابعة دؤوبة، أنيسة مُحبة محبوبة، وذاكرة لا أحسدها، فما قرأت لها بيتا مما كتبت إلا أكملت عليه، وحين استعرضنا مراحل في الحياة كانت التفاصيل حاضرة بالأسماء والتواريخ.

والمربد في ذاكرتها ليس من مهرجانه وحسب، بل بسوقه الأول، ما ألقى فيه جرير والفرزدق وبشار بن برد وأبو نؤاس من شعر، وما عرض فيه الفراهيدي وسيبويه والجاحظ والأصمعي وابن المقفع من لغة وأدب، وما دار فيه من فسلفة للكندي وغيره. إحياؤه إحياء للشعر والأدب وعلوم اللغة، وأسماؤه استحقاق علو وقدر وقيمة واعتراف فضل الإسهام. فإن يقـر إطلاق اسم الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة على دورة المربد الحادية عشرة فهو استحقاق تكريم بجدارة، لريادية هذه النخلة البرحية التي مازالت باسقة، والتي حملت كتابتها شعرا وهي في الصف الرابع الابتدائي، ونشرت لها المجلات قصائد وهي بعمر مبكر، حتى صقلت دار المعلمين العالية الموهبة وفتحت أمامها مجالات الظهور والتباري. ويملأ الحب جوانح لميعة فتطير بها أجنحة الشعر فضاءات ونعيش معها فضاءات وإلى الآن. هو تكريم للمرأة الشاعرة والأديبة ورائدة المجالس الثقافية، ليبقى العراق راعيا دونما تمييز، بل متباهيا بشعرائه وأدبائه نساء ورجالا. وهو تكريم محبة هذه المرأة لدارها التي ترعرت فيها في العمارة بميسان ولمنزل الطفولة في الكريمات ببغداد، ولكل مدن العراقالتي خصتها ذكرا من كردستان العراق، ونبوءتها فيها أنها ستعود خضراء زاهية آمنة وترقص باعياد نوروز، وإلى تحياتها للبصرة « ليُزهر ألف جيكور يناغي بالهوى بدره»، ومحبتها لكل الوطن العربي بالأقطار التي زارتها والأخرى التي عاشت ردحا فيها.

«وإن قلت بغـــداد أعـــني العراق …. الحبيب بلادي بأقصى قراها
من الموصل النرجسية أم الربيعين…. والزاب يجلو حصاها
إلى البصرة الصامدين نخيلا…. تشبّثَ من إزل في ثـراها
»

تكريم اللاتمايز في مكونات العراق وتعدد أديان أبنائه، فيكون في لميعة الصابئية المندائية تكريم استحقاق لأهليها بوجودهم الممتد جذرا في العراق والمورق ظلا والمثمر عطاء وإسهاما آلالاف السنين، لتظل تخاطب يوحنا المعمدان وتسأل:

«لمن الصوتُ الصارخ في البريّة
واعجبي
يسأل عني من بين عباد الله؟
٭ ٭ ٭
صوتك يُحيني،
عمِّدني بعماد (ابراهيم) الأقدم
»

تكريم لإنسانية هذه الشاعرة التي لم يحدها حد، لأنها ترى أن كل البلاد بلاد الله، فأنى عَشقتْ وعُشقت، وأنى قـَدرتْ وقُدِّرتْ، عاشت. لعنتْ التمييز على أي خلفية ولأي سبب. والدين عندها المحبة والأمان وقيمته في الاشتراك بمحبة الله وخشية الله

«ودرستُ الدين من بوذا وزرادشت وابراهيم
صليتُ مع الرهبان
صمتُ الصيف في رمضان
عُمِّدتُ على دين أبي في النهر
مستْ جبهتي الحكمة في الدين
ولكن حماة الله قسرًا أبعدوني!
ومن الطوفان حتى كاليفورنيا
لم أزل أعثر بالقيد الذي هُم ألبسوني
فاعذروني
إن تكن صومعتي دون شبابيك وباب
فأنا أحذر أن تجرحني الريح
وأن يُغلقَ بابُ الله دوني
»

تحية لاتحاد الأدباء والكتاب لبادرته الحقة والجريئة في أن يكرم الشعراء والأدباء ويطلق أسماءهم على مهرجاناته في حياتهم ليكرموا قبل مماتهم، فنحن في الممات نحتفي بهم، ونكرمهم في الحياة. وعهدي أن لميعة غير مطالبة، ولقد لمست ذلك في نبرة عتب عليّ يوم كتبت مقالة « لميعة عباس عمارة واستحقاق الدكتوراه الفخرية» التي نبهت فيها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وجامعة بغداد إلى استحقاق لميعة في ذلك، فقلت لها لم أطالب لك، بل نبهت إلى استحقاق. وعسى الجهات المعنية قد درست بعد أن تنبهت، كما وعدت!

وتمر السنين، ويظل يعيش في القلب الحنين، حنين لميعة إلى عشها الذي ما فارقته روحها، حنينها للعراق الذي هي طفلته وهو طفلها وكل يغني للآخر «دِللولْ يَلوَلد يَبني دِللولْ… كلانا عليلْ وساكنْ الجول» (1). تراه في ديترويت وفي ساندياغو، وفي…

«موزعة كل أرواحنا
فنصف هناك ونصف هنا
نحلُّ مكانين رغم الفراق
وما بَعُدتْ غير أجسادنا
عن تراب العراق»
أما لماذا هذا الحنين فتجيب لميعة:
«هو الوطن الأم
خيط الحنين يقود خطى التائهين
٭ ٭ ٭
حين نهاجر
نترك من روحنا في البيوت التي
قد ولدنا بها
تعصفُ الريح، يشتدُ الظلام
سيولٌ وطوفان
حربٌ، دمار
ولكن خيط الحنين يقود الجناح إليها
تعبنا
وآخر أمنية نموت وندفن فيها
»
 


(1)
الجول بجيم ثلاثية النقاط كلمة آرامية مندائية تعني المكان القصي جدا.
 

* أمين الرابطة المندائية لعموم ألمانيا
عضو مكتب سكرتارية إتحاد الجمعيات المندائية في المهجر
سفير السلام العالمي
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter