|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الخميس  23 / 1 / 2014                               قحطان جاسم                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الفنان التشكيلي سعد جنديل في معرضه السادس : عالم من الكوابيس والخوف والألم..!

قحطان جاسم  *

على قاعة مكتبة مدينة آهوس، اكبر ثاني مدن الدانمارك، يقام المعرض الشخصي السادس للفنان التشكيلي العراقي سعد جنديل في الفترة من 7.1.2014 وحتى 3.2.2014

غادر سعد جنديل المولود في البصرة العراق عام 1979، بعد ان اشتد الخناق عليه بسبب مقارعته لحزب البعث ونظام صدام . تنقل بعد ذلك بين دول عديدة بلا اوراق رسمية، ودخل بعض سجونها لدخوله اراضيها بصورة غير شرعية، حتى أستقر أخيرا في مدينة آهوس في الدانمارك، التي اتخذها كموطن أخير لحياته. وقد طبعت هذه التجربة المريرة بكل ما فيها من تجاذبات واحباطات وآمال موضوعات لوحاته. قادته تلك التجربة و خلال سنوات طويلة الى البحث للاجابة عن سؤال كان يشغله وما زال يلحّ عليه: كيف حصل هذا الخراب ولماذا ومن هو المسؤول؟وهي أسئلة وجودية تتطلب الأجابة عليها النظر للوجود والأنسان بتمعن وأناة. وقد اكتشف، وهو يحاول الاجابة عليها، في اللون والخطوط والكلمات الصامتة على القماش والخشب افضل وسيلة للتعبيرعن تلك الأسئلة.

ورغم انه درس علم النفس والتربية الاجتماعية، لكنه وجد في اللوحة، وهو يبحث عمّا ضاع في رحلة السنوات وتبعثرها، اطارا ممكنا للتعبير عن معاناته وتجارب حياته الخاصة في مسعى لمشاركة الاخرين الألم .وقد تمكن الى حدّ ما، عبر اللون، الفكرة والموضوع، الى اعادة صياغة ما تناثر من تلك الحياة المريرة.

التشكيل اللوني وتنوع الموضوعات :
يمتاز اكثر الفنانين بانهم يشتغلون على ثيمة واحدة او موتيف معين نراه يتكرر في معظم لوحاتهم بحيث يكون سمة خاصة لفنهم. ورغم ان لوحات سعد جنديل لم تحيد عن ذلك تماما، الا ان الامر يتطلب بحثا مضنيا في تفاصيلها للعثور على ذلك الامر. فلوحاته تتميز بتنوعها وغرابة تكويناتها، وتشي احيانا باشكال عفوية طفولية، كما لو انه يتعمد استفزاز المتلقي والمشاهد في مسعى لحثّه على التمعّن الطويل في تفاصيل اللوحة غير المرئية وتطالبه اكتشاف عوالمها الخفية، وان يكون طرفا في معايشة المتعة الجمالية فيها. فطبقا له " ليس كافيا ان يقدم الفنان أفكاره وموضوعاته جاهزة لكسب مشاهد ومتلق عابر، بل عليه ان يحوّل اللوحة الى سيرورة معاناة وسياق لأكتشاف المعاني للتجربة الانسانية المشتركة".

وفي هذه المعاني التي يخفيها التوزيع اللوني ، الخطوط الحادّة ، والوجوه- الاقنعة والاشكال الغريبة، واحيانا الكلمات، تتشكل آصرة يمكن عبرها قراءة ذات الفنان ، احزانه وعوالمه الخفية..وهي عوالم تنفتح على آفاق قاسية مفعمة بالالم والكوابيس والغرائب وهذا ما يبدو واضحا في اللوحات ادناه :

وبينما نجد تنوع الموضوعات والافكار في لوحاته التي تعكسها التشكيلات والكتل اللونية، فاننا نلاحظ غياب ما هو مشترك في التشكيلات اللونية، التي لا ترتبط مع التأويلات المعروفة للاستخدامات الطبيعة التعبيرية للألوان ومعانيها، بل يتعداه الى ما هو معاكس تماما لها. فبينما تطل علينا الوجوه التي تشبه الاقنعة بالوان فرحة مهللّة، وقد اخضرت من رؤوسها الأزهار كما في لوحته :

الا انها تحمل معنى مناقضا ، فهي وجوه شريرة ،تضمر في نظراتها سخرية وأسئلة متهكمة. بينما تهيمن الكآبة و الوجوم والغياب في اللوحة التالية :

التي سمّاها " ملحمة ناقصة "، حيث نرى اللون الاخضر غطى المساحة الاكبر في اللوحة واختلطت فيها مخلوقات بشرية غريبة مع أشياء غير مألوفة، كأنه يحاول في هذه اللوحات اعادة صياغة لعالم من الكوابيس الداخلية: جزيئات من تفاصيل حياته وحياة الآخرين الذين شكلوا خلفية لثيمات اعماله. فثمة وجوه وسيقان، وعيون متلصصة ووجوه متراكبة حذرة يبدو عليها الفزع . وخلف تلك التشيكلات الانسانية نكتشف اشكال لحيوانات او مخلوقات بدائية ، اشياء غير مكتلمة ، مخلوقات لا نعرف عنها سوى ما يشابهها، رؤوس طيور ، وبشر برؤوس متعددة معبرا بذلك عن القلق اليومي الذي يعيشه الفنان والخوف الدائم من حياة مرتبكة غير مستقرة. كما في اللوحات ادناه :

وكلما حدّق المتلقي قليلا باعماق اللوحات كلما اكتشف عوالم جديدة تختبيء خلف الاشكال ويعود ذلك الى طبيعة التقنيات الفنية التي سعى الى استخدامهافي فنه.

تقنيات اللوحة :
يستخدم سعد ادوات متنوعة لنقل افكاره. فهو يزاوج في لوحاته العديد من التقنيات، إذ يستخدم الاكريل كاداة لونيّة أساسية و الكولاج دون ان يجعله مرئيا، بل مواربا تخفيه تفاصيل اللوحات الرئيسية، علاوة على استخدامه لبقايا لوحات قديمة . ويتحول الظل والضوء الذي لا يقوم على التوزيع الكلاسيكي المتناسب للّون، بل على طابع من العفوية والتلقائية المقصودة في بعض اللوحات، الى عنصر اضافي يعمق من ثيماتها. كما ان المبالغة في التشديد على التكثيف اللوني في لوحات أخرى، الى درجة بناء طبقات متراكمة من الاشكال على نفس المساحة ، تهدف الى خلق مناخ محدد لعالم اللوحة ، كما في اللوحات :

علاوة على ذلك فانه يلجأ احيانا الى استخدام الحرف والقصيدة كما في اللوحة :

وايضا في لوحته :

التي تربط بين الحاضر والماضي، حيث يضمنها رموزا لملحمة كربلاء بعد ان ينزع عنها مغزاها الديني ويمنحها لبوسا معاصرا بتطعيمها بابيات من الشاعر غارسيا لوركا.وقد قدم اللوحة بصورة الواح متقابلة او متسلسلة، كما لو انه يلخص لنا قصة في كتاب تتجاور فيها الاحداث وتفترق احيانا عبر وجوه واشكال واقنعة تخفي خلفها آلاما واحداثا أنسانية مشتركة . واللوحات بهذه الصورة غالبا ما تكون قوية التعبير ودرامية في تكويناتها وتعكس سلبية وايجابية الحياة، لكنها تبقى في النهاية تشكل خلاصة لعالم الفنان وكوابيسه ومعاناته الذاتية.


ملاحظة : تم نشر العرض النقدي عن المعرض ايضا في " ادب وفن"
 

 * شاعر وباحث في علم الاجتماع السياسي
 








 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter