|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة  22 / 11 / 2013                               قحطان جاسم                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 


قصة "علي خُمرة " والخروف الذي يأكل البرتقال..!

قحطان جاسم  *

من لا يعرف علي والملقب ب "علي خُمرة" فهو أخ الشاعر العراقي موفق محمد من مدينة بابل (الحلّة) .لم يكن علي شاعرا ولم يدّع انه مثقف رغم علاقته الواسعة بالمثقفين من كل الاطياف. امتياز علي الوحيد هو فوضويته التي قاربت فوضوية كروباتكين في روسيا .واذا كان سلوك الفوضويين في العالم يظهر في سياق وجود هامش للحرية السياسية والاجتماعية، ويعبر عن سعي الفوضوي للاحتجاج على الواقع القائم بطريقة ما أو عن اعتزاله لهذ الواقع، فلم يكن هذا الامر ممكنا آنذاك في العراق في ظل نظام صدام الدموي، الذي كان يُحصي اصغر حركة للفرد، بحيث كانت اية ممارسة فردية او جماعية لا تتطابق مع اطروحات وتصورات النظام عن الطاعة والانضباط بمثابة انتحار طوعي. ويمكن القول، وباختصار شديد، ان حتى الفوضوية لم تساعد الفرد التخلصَ من الهيمنة الصارمة على حريته الشخصية.

ولهذا كانت العناصر الفوضوية نادرة جدا في العراق ولا يتجاوز عددها اصابع اليد، وتتسم ممارساتها بنرجسية ثقافية اكثر منها كتعبير عن موقف فردي انساني للبحث عن الحرية. لكن "علي خُمرة" تمكن مع ذلك من ممارسة فوضوية معترف بها، على الاقل من المثقفين، وتحولت الى حكاية في العديد من المحافظات الجنوبية وخاصة في الحلّة والديوانية، بل انه حصل على اعتراف في اواخر السبعينات في العاصمة بغداد ايضا . فوضويته كانت احتجاجية وبحث عن حرية الفرد، وهو احتجاج غير مقنن بايديولوجية او يرتكن الى حزب سياسي، إذ لم يكن علي معنيا بكل ذلك.

ولكي نوضح الصورة أسرد الحكاية التالية :

ذات يوم كان علي جنديا مكلفا وكان عليه ان يستقل السيارة من منطقة الكراجات في علاوي الحلة في بغداد الى الحلة، ولصعوبة الحصول على مكان فارغ فقد ساوم السائق كي يدفع له مبلغا اضافيا اذا سمح له بتأجير الاماكن الخلفية ، وكانت خمسة كراسي، ثم قال للسائق ان لديه خروفا وان عليه ان ينقله الى الحلّة ..

في البداية تردد السائق، فقد كان الوقت صيفا، والازدحام على أشّده الى درجة ان البعض على استعداد للدخول في معركة من اجل الحصول على مكان فارغ في السيارة ، وموافقة السائق على تأجير تلك الاماكن تعني مغامرة غير محمودة النتائج. ألا ان علي تمكن من الاتفاق مع السائق ودخل السيارة مع خروفه، محتلا كامل المقاعد الخلفية للسيارة. وكان ذلك بمثابة استفزاز للجميع .

وتصاعدت الشتائم من كل مكان ضد السائق وعلي . بيد ان ما كان اكثر استفزازا في الامر كله هو ان علي، منذ أن انطلقت السيارة باتجاه مدينة الحلة، اخرج كيسَ برتقالٍ، كان قد اشتراه خصيصا للخروف وراح يزيل القشور عن حبات البرتقال ويطعمه بتأنٍ واهتمام، ويحدثه بكلام جميل، كأنه مخلوق عزيز لديه، متناسيا كلّ من حوله.

أستفز ذلك المشهد بصورة كبيرة الركاب، فدمدم بعضهم ببعض الكلمات، بينما صرخ البعض الآخر، وانتم تعرفون تطرف بعض العراقيين في ظروف كهذه: نحن بايّ حال وانت باي حال..!! انت تطعم الخروف برتقالا وتجلس معه على خمسة كراسي، بينما الناس تقف ساعات في هذا الحّر الشديد .!! أجابهم علي ببرودة وتهكم: الخروف مخلوق مسكين ولا يمتلك لغة، لذلك لا يستطيع الدفاع عن نفسه ولهذا اسعى لكي اساعده .. اما انتم فلديكم ألسنةً وعقول ويمكنكم الدفاع عن انفسكم .. هذه ليست مشكلتي ... الخروف يستحق الحياة لانه مخلوق جميل ووديع .. بأمكانكم ان تدافعوا عن حياتكم افضل منه. قال "علي خُمرة" ذلك، بينما واصل إطعام الخروف بنشوة حتى وصل الى الحلّة دون ان يأبه باحتجاجات الركاب، التي خمدت تماما بعد وقت قليل .

قصة علي هي قصة البحث عن الحرية .. حرية الفرد والتحريض عليها .. فكم علي لدينا الآن في العراق..؟؟؟
 

 * شاعر وباحث في علم الاجتماع السياسي
 








 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter