|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء  21 / 1 / 2014                               قحطان جاسم                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 


 الابطال الحقيقيون في حياتنا ؟

قحطان جاسم  *

كلما فكرت في حياتي ودققتُ في سنواتها وتفاصيلها المريرة أو الجميلة، أرى هناك شخصيات وأبطال حقيقيين فيها، أُدين لهم بالكثير. ففي فترة إختفاء مريرة في بغداد نهاية السبعينات، في محاولة للبقاء حيّا بعيدا عن عيون الامن والمخبرين، وليس بحثا عن بطولة، تأريخ أو مجد، إذ هناك مَن هم أحق بها مني، التقيت ببعض تلك الشخصيات. أذكر منها : صبري، سائق سيارة الفورد الذي كان يشتغل على خط حي الامين - بغداد الجديدة - الباب الشرقي.

صبري انسان بسيط، بالكاد يعرف القراءة والكتابة، لكنه مع ذلك كان نبيلا ، قوي الارادة وشجاعا. كان يقتطع مما يجنيه يوميا من ايرادات سيارته ويدسّه في يدي في كلّ لقاء من تلك اللقاءات العجولة المرتبكة، رغم انه كان يعاني من مشاكل اقتصادية جمّة تثقل كاهله وكاهل عائلته. لم أره يوما ما متبرما أو منزعجا، بل كان يبادر لكي يقدم لي المساعدة وقد كان يدرك وضعي الحرج. لم أكن أساله عن ذلك.

أما رزاق ، كاتب العرائض ، الذي كان يكافح من اجل إعالة أمه وتوفير اجور دراسته المسائية ويعاني يوميا من مضايقات كتاب العرائض العجائز والموظفين .. رزاق الصديق الوفي، الذي لم يكن متفقا معي فكريا ، بل كان يقف بالضد مع ما احمله من تصورات واوهام ايديولوجية ، يأخذني الى بيتهم كلما ضاقت بي الامور وشعرت باستحالة العثور على مبيت لليلة أخرى، فابقى عنده أياما .. يعطيني الملبس ويوفر لي الطعام ويدّ س في جيبي بعض النقود، رغم ما يترتب على ذلك من مخاطر قد تؤدي الى السجن والتعذيب وربما الاعدام. تلك المعونات مكنتني من تجاوز الكثير من العقبات والمشاكل: السكن، السفر، التنقل، واحيانا العيش في بحبوحة الى درجة التظاهر امام الآخرين بعدم الحاجة الى ايّ شيء..

عندما غادرت بغداد الى كردستان والتحقت بالحركة المسلحة التقيت بآخرين، اتذكر منهم تحسين (وهو اسم مستعار) ، عامل البناء من اهالي كربلاء، الذي رفض ان ابقى وحيدا في اعالي جبال كردستان، بعد ان قررت المجموعة التي كنت فيها مواصلة الطريق وتركي وحيدا هناك، آملين بالحصول لي على بغل من اقرب قرية لنقلي فيما بعد .. وكنتُ وقتها أتقيأ دما وارتفت درجة حرارتي الى درجة لم اكن قادرا على المسير.. خيّم الموت والظلام و اشتدت العواصف الثلجية التي سدّت كلّ الطرق. كان الوقوف في نفس المكان لدقائق يعني الاصابة بمرض "الغنغرين"، الذي يتسبب في بتر القدم او الساق. قرر تحسين ان يبقى معي رغم كل المخاطر وقال : سأبقى معك وسأموت معك !!.

حين غادرت الى ايران وعشت فترة في "اوردكاه" كرج وهو معسكر للاجئين العراقيين تدهور وضعي الصحي ثانية، وتقيأت ذات يوم دما نقلت على أثرها الى المستشفى. كان هناك شاب تركماني لم اعد اتذكر اسمه الآن يراقب وضعي، فجاءني بعد خروجي من المستشفى بجواز سفره، وكان قد حصل على الموافقة للسفر الى احدى الدول الغربية (وللذي لا يعرف معنى الحصول على فيزا الخروج من ايران في تلك الايام فانها تعادل الحصول على حياة جديدة). طلب مني ان ازوّر الجواز بوضع صورتي عليه لكي اتمكن السفر بدلا عنه. رفضت ذلك شاكرا له صنيعه الاستثنائي الجميل.

اليوم وانا أعيش حياة مطمئنة وبعد مرور عقود من السنين اقول في نفسي: كم أنا مدين لأولئك الابطال المجهولين، ولكن الحقيقيين، بحياتي، فلولاهم لكانت حياتنا غير ممكنة وربما انتهت نهاية مأساوية ..شكرا لهم لأنهم علموني عبر تضحياتهم الحب. علموني ان من الممكن ان يعينَ الانسان أخيه الانسان دون ان ينتظر مقابلا عن ذلك.

لقد كانوا أمثلة حيّة عن الحب الحقيقي.
 

 * شاعر وباحث في علم الاجتماع السياسي
 








 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter