|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  31  / 10 / 2016                                 كريم حيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ايفانا والروتين ....

كريم حيدر
(موقع الناس)

في الساعة التاسعة من ليلة ال 7 من شباط من عام 1979 صعدت الباص المملوك لنقليات العكيلي المتجه الى اسطنبول من مقرهم الكائن في منطقة الصالحية آنذاك , لم اعلم حينها من ان تلك الرحلة الى اسطنبول ستكون دون عودة حيث اضطررت يومها لمغادرة مدينتي الحبيبة بغداد مسقط رأسي وملاعب صباي ومسكن اهلي.

اخترت مكاناً لجلوسي في الباص دون اختيار ودون الانتباه للجالسين وحدث هذا بسبب ارتباكي الشديد وقلقي ووحدتي اضافة لتجربتي الأولى في السفر لبلد ثان.

حين انطلاق الباص انتبهت لسيدة اوربية كانت تجلس جواري من الجهة الاخرى ويفصل بيننا الممر الوسطي للباص. وحسب ما خمنت حينها كونها سيدة في الأربعين أو تزيد قليلاً ورغم صعوبة تخمين عمر السيدات, مع صبغ الشعر وقليلاً من بودرة الوجه والزواك ستضمن أي سيدة تنقيصاً للعمر, وعلى العموم فلنقل ان عمرها كان بحدود 45 عاما والله اعلم.

بعد ساعات توقف بنا الباص في طوزخورماتو وذلك لغرض قضاء الحاجات والأكل والتدخين وحاجات أخرى . لم استطع الاكل لعدم شهيتي واكتفيت بشرب كوب شاي مع نصف سيكارة ورجعت مسرعا للباص بسبب برودة الجو وهطول المطر.

انزويت في مقعدي صامتا مشوش الفكر وسارحا وسط افكاري التي قطعتها السيدة التي جاورتني وهي تقدم نفسها وبلغة انكليزية :
مرحبا اسمي ايفانا وانت ؟
مرحبا اسمي حسين ..
ايفانا : هل تتحدث الانكليزية ؟
حسين : ما تعلمته من المدرسة .
ايفانا: لماذا رجعت مسرعا للباص ولماذا لم تأكل كالباقين؟
حسين: ليست لي شهية للطعام واكتفيت بكوب من الشاي مع سيجارة , ولكنك أيضاً لم تآكلي شيئا
ايفانا: في كل مرة أتناول فيها طعاماً في مطاعم الطرق يداهمني الاسهال والقيء.
حسين: أفهم ذلك.

جارتي ايفانا مدت يدها صوبي مع قدح كمبوت الكمثري وهي تقول تفضل انه من صنع يدي
حسين: الشكر لك ... ولكنه طعامك ..
ايفانا: خذ يا هذا ولا تفكر بي , كما انه لذيذ اعدك بذلك ..
شكر حسين ايفانا على الكمبوت وبدأ يبحث في حقيبته الصغيرة عن كيس الكليجة التي اعدتها الوالدة وقدمه الى ايفانا لالتقاط البعض منه :
- هذه الدائرية تحتوي على التمر وتلك البيضوية تحتوي على الجوز وهذه المنقشة تحتوي على السمسم وهي لذيذة من صنع الوالدة.
ايفانا : سأخذ من كل نوع واحدة ويبدو من شكلها انها لذيذة . شكرا لك وللوالدة.
حسين: لاعليك
ايفانا: يبدو أنك تسافر لوحدك ؟
حسين: نعم لوحدي
ايفانا: ماذا حدث
حسين: ابدا لاشئ فقط كان من المفترض ان ارافق الوالدة في رحلة الى اسطنبول ولكنها تمرضت وها انا اسافر لوحدي.
(كنت قد اخترعت قصة عندما قدمت طلباً للحصول على جواز سفر في بغداد من انني مرافق لوالدتي في سفرتها الى تركيا).
ايفانا: اها... فهمت عموما ... الشفاء للوالدة
حسين: شكرا مدام
ايفانا: اوه لا.. لا احب هذه الكلمة (مدام) نادني ب ايفانا ارجوك.
حسين: كما ترغبين
ايفانا: هل انت طالب جامعي
حسين: نعم وادرس الاحصاء الرياضي
ايفانا: هذا ممتع وهل انت شاطر في الرياضيات
حسين: نعم جدا انها مادتي المفضلة
ايفانا: اوه رغم ان الكثيرين يكرهوها بسبب صعوبتها
حسين: بالعكس انها مادة مشوقة وتنمي العقل
ايفانا: دعنا من الارقام وقل لي كم ستبقى في اسطنبول
حسين: لربما اسبوعا او اكثر
(لم اشأ ان اخبرها بأني ذاهب لبلغاريا وهي محطتي اللاحقة, خوفا من ان يسمعنا احداً من رجالات الامن داخل الباص).
ايفانا: اتمنى لك سفرة ممتعة بالرغم من برودة الجو في اسطنبول في مثل هذا الوقت من السنة
حسين: شكرا على هذه الأمنية , ولكن ماذا عنك انت خبريني
ايفانا: انا بلغارية واعمل في السفارة البلغارية في بغداد في ملحقيتها التجارية
حسين: اها نعم شئ لطيف , اذا انت دبلوماسية
ايفانا: دبلوماسية ؟ وتجلس في هذا الباص ؟ ما هذا الهراء.. كلا يا عزيزي لست بدبلوماسية ولكنني مترجمة .
حسين: هذا ممتع... وهل تترجمين من العربية للبلغارية؟
ايفانا: اه بالطبع لا والا لكنت كلمتك بالعربية . انا اترجم من البلغارية للانكليزية وبالعكس
حسين: الآن عرفت سر طلاقتك الحديث بالانكليزية بعكسي انا المسكين.

كنت اتحدث معها كما حجي راضي ولكن بالانكليزية (اتتي مشناف) ولكنها كانت تفهمني على كل حال.
ايفانا: نعم لقد عملت فترة طويلة كمدرسة للانكليزية قبل ان احصل على هذا العمل
حسين: شئ لطيف وماذا تفعلون في الملحقية التجارية ؟
ايفانا: بلغاريا لديها مصالح تجارية كثيرة متشعبة مع العراق ونحن في الملحقية نقوم بمتابعة هذه المصالح عبر مراجعة الوزارات والادارات المعنية من مثل الخارجية, الصحة, الزراعة وغيرها
حسين: وكيف وجدت العراق واهله؟
ايفانا: العراق بلد عظيم وذو حضارة عريقة لا يمتلكها احد وشعبه لطيف ومضياف . سعيدة أنا لكوني حصلت على عملي هذا وتحديدا في العراق. كنت اقرأ في كتب التاريخ عن حضارة العراق القديمة وبلاد ما بين النهرين وكم كنت احلم ان اراها وها انا الان موجودة هنا واستمتع بكل هذا وفي كل يوم.
حسين: انا سعيد من اجلك ولكن هل تمكنت من زيارة الاماكن الاثرية؟
ايفانا: ما هذا السؤال !!! بالطبع يا عزيزي فلقد زرت لحد الان اثار بابل , اور, النمرود, المدائن وسامراء, وقبل ان تنتهي مهمتي في العراق سأسعى الى زيارة المزيد.
حسين: انا احسدك على ذلك لانني ابن البلد ولم ازر سوى بابل والمدائن لحد الان . انت ذاهبة في اجازة اليس كذلك؟
ايفانا: نعم لاسبوعين ولربما ثلاثة
حسين: وماذا عن الوزارات التي تزورينها هل الامر مختلف هناك
ايفانا: نعم ان الامر هناك مختلف جدا , فالروتين والبيروقراطية قاتلة
حسين: كيف خبريني
ايفانا: تخيل من اننا نقدم للموظف المسؤول كل الاوراق والمستندات اللازمة ومع هذا يقول لنا
"تعالوا باجر أو بعد باجر ..."
حسين: وماذا تفعلون حينها
ايفانا: ماذا تتصور يا عزيزي فليس امامنا غير الانصياع للبيروقراطيين والرجوع اليهم غدا او بعد غد , رغم ان الامر لا يتطلب احيانا سوى توقيعا صغيرا او ختما او رقما للمعاملة .
حسين: وماذا تعلمت عدا كلمة " باجر" و "بعد باجر"
ايفانا: اوه كلمات كثيرة من مثل اكو, ماكو, شكو ماكو ,كباب, تكة, پاچة, چاي , خبز, صمون , بخشيش , مسكوف وماي وغيرها واستطيع العد كذلك واخد, اسنين, سلاسة, اربئه
حسين: اه نعم كلمات مهمة تفيد في الحياة اليومية

طوال حديثي مع جارتي في الباص البلغارية ايفانا كنت أكظم حقيقة أردت البوح بها ولكن قراري مع نفسي وإصراري منعني من قول:
أنا ذاهب لبلدك لاجئاً يا ايفانا.. ولست كما صرحت لك ..




 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter