|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  19 / 9 / 2006                                 د. كامل العضاض                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 



الفدراليات والتقسيم ونهاية العراق

د. كامل العضاض *
(موقع الناس)

تمهيد
نعاود الكتابة عن موضوع " الفدراليات" التي أضحت اليوم صيحة الفئات السياسية الأكبر ثقلا في النظام السياسي الجديد في العراق. وقد يوشي عنوان المقالة لبعض القراء بنظرة تشاؤمية عن مصير العراق، فهو قد يوحي لهم بأن ثمة معاول تعمل، ليل نهار، لوضع نهاية للعراق كوطن عريق. نعم، ولكن من الوارد جدا أيضا بأن أصحاب هذه المعاول قد لا يظفرون في نهاية الأمر إلا بحصيلة مأساوية، قياسا على المثل العراقي المشهور؛ "لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي " !! وهذا إذا لم يتصد لهم البناة من أبناء العراق الحر الموحد، ممن يدركون المعنى التأريخي للعراق الواحد، وممن يستطيعون تقدير فداحة الآثار الإقتصادية والثقافية والسياسية وحتى الحضارية، في حالة التفريط بوحدة العراق الجغرافية والسياسية والعسكرية، أو إضعافها، وخصوصا في ظل الظروف الراهنة، حيث تتصارع على أرض العراق قوى محتلة مع قوى يتستر معظمها تحت غطاء المقاومة الوطنية، ولكنه يعمل، بوعي وبدون وعي، لصالح، وربما بالوكالة عن، جهات أو دول إقليمية مجاورة من الشرق والغرب وربما من الجنوب أيضا. ولعلّ توليفة القوى التي تنشط، منذ سقوط النظام الصدامي، قبل ثلاث سنوات، لتدمير العراق أرضا وشعبا وموارد، يثير الاستغراب حقا؛ فالقوى السلفية الإرهابية، القاعدية والزرقاوية، تضع يدها مع يد فلول النظام البائد العلمانية، ممن يملكون الأموال الطائلة المسروقة والسلاح المكدس، ويحملون آيديولوجيات العروبوية والعنصرية والإستبداد، ومع قوى دينية وطائفية وشوفينية، معززة بأرتال من مخابرات ومرتزقة من دول مجاورة، لها حساباتها مع الولايات المتحدة، (الدولة الغازية مع حلفائها، لأسبابها ولمصالحها، و تعمل تحت ذرائعها المعروفة والخاصة بها)؛ كل هؤلاء، ممن يحملون شعارات متناقضة، مابين الإسلاموية والقوموية المناهضة للديمقراطية.

كل هذا الخليط يعمل لتدمير العراق تحت شعار مقاومة المحتل الأمريكي، بغض النظر عن النتائج فعلا، وبدون أدنى اقتراب من معاني شعاراتهم وغاياتهم الآيديولوجية. خليط يقتل الناس كثيرا ولا يقتل الغزاة إلا قليلا، ويحاول تقسيم العراق طائفيا وجغرافيا، وبأي ثمن، ويجند كل من هو مستعد لتسلم عطاءهم الأخضر! وما أكثر هؤلاء اليوم في العراق ! ولعلّنا نرى أمامنا مشهدا غرائبيا، نسمع فيه الكل ينادي بعراق موحد وديمقراطي ثم نرى بعض الأعناق تتلوى، في آن واحد، صوب من يدفع أكثر من ذلك العطاء الأخضر، لترجمة نداءاتهم الديمقراطية والتحريرية إلى دمارات يومية، وإلى قتل للأبرياء من العراقيين بالجملة؛ أكثر من نصفهم نساء وأطفال !! نقول هذا كتوطئة لما تهدف إليه هذه المقالة، ونوجز في أدناه أهدافها بخمس نقاط :

(1) توضيح مفهوم الفدرالية التي تتداعاها الأفرقة السياسية الفاعلة الآن في العراق، ما هي فلسفتها وما هي دواعيها النظرية والعملية، ومدى ملائمتها لكل الظروف ؟
(2) ماهية الإشكالات الدستورية والقانونية لدعوة فدراليات الجنوب و / أو الوسط، أو غيرها، خارج إقليم كردستان العراق، ومبرراتها كما يطرحها بعض دعاتها.
(3) مدى ملائمة وتاثيرات ونتائج إقامة فدراليات أخرى من غير فدرالية الكرد، في ضوء المعطيات السياسية والعسكرية الراهنة، وما يكتنف البلاد حاليا من فوضى وإرهاب وإصطراعات دامية تخوضها جهات خارجية، مباشرة أو بالوكالة، لأهداف غير عراقية.
(4) الآثار والتداعيات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية لإقامة فدراليات،خصوصا، ضمن القسم الأعظم العربي من العراق، من منظور التنمية البشرية ومفهوم الديمقراطية الرحيب ومستقبل الأجيال العراقية.
(5) لمصلحة من ستؤول هذه الفدراليات؟ هل ستخدم مصالح القوى المتصارعة الأجنبية، أم مصالح فئات سياسية عراقية، أم مصلحة الشعب العراقي كله؟ وماهي المخارج من هوس هذه الفدراليات؟

مفهوم الدولة الفدرالية
مع نشوء أو تنامي الفكر القومي، وبعد سقوط الإمبراطوريات التدريجي، مابين الحربين العالميتين الأولى والثانية وبعيدهما، وما صاحب وتلى ذلك من دعوات إستقلالية، وزيادة الوعي بالهويات الأثنية، تصاعدت الدعوات السياسية والحركات المسلّحة المنادية والهادفة الى الإستقلال، أما عن دولة الإستعمار أو عن أوطان، أو مجتمعات، دمجت فيها بعض المجموعات البشرية قسرا وبدون توفر روابط أو مشتركات حقيقية، كما حصل في العديد من المستعمرات السابقة في آسيا وأفريقيا وحتى في أوربا. وقد حصل العكس أيضا، حيث إندمجت مستعمرات بأثنيات أو ثقافات وتراثات مختلفة بسبب قوة عوامل الجذب للعيش المشترك؛ والأمثلة كثيرة ومنها ماليزيا وسنغافورة، ولا نود التوسع فيها هنا. ولكن مفهوم الفدرالية كان في التداول في العراق منذ مدة بعيدة على يد الكرد، ويصح القول بأن تطلعات الكرد المشروعة، بسبب خصوصياتهم اللغوية والأثنية وربما التأريخية، ما قبل الإسلامية، قد قادتهم إلى نزاعات مسلّحة مع الحكومة المركزية العراقية منذ نشوء الكيان العراقي بعد الحرب العالمية الأولى وإستقلاله بعد ذلك عن السيطرة البريطانية. كانت تحركات الكرد تطمح الى الإستقلال التام، ولكنها كثيرا ما كانت تستبطن هذه الدعوة، وتطالب بالحقوق القومية واللامركزية لتصريف شؤونها المحلية. وقبيل سقوط النظام الصدامي حصل الكرد على دعم لدعوتهم الى الفدرالية من بعض قوى المعارضة العراقية ( العربية بالأساس ) في الخارج، وربما حصلوا أيضا على بعض الوعود أو الضمانات الأمريكية لمنحهم أوسع درجة من الإستقلال، بعد إزاحة نظام صدام، ضمن صياغة مفهوم الفدرالية. وبعد سقوط النظام فعلا، ومن ثم صعود التيار الديني الشيعي والشعبوي، تنادى بعض قادة هذا التيار، وخصوصا منهم السيد عبد العزيز الحكيم قائد المجلس الأعلى للثورة الاسلامية وبعض مساعديه، تنادوا بالدعوة الى فدرالية خاصة بجنوب ووسط العراق ذات الأغلبية الشيعية، وهم كانوا قد فرضوا عن طريق الأغلبية البرلمانية التي حققوها في البرلمان العراقي الثاني،(في الإنتخابات العامة الأخيرة التي جرت في كانون أول لعام 2005)، بنودا في الدستور تنص على تشكيل أقاليم وتجعلها حقا دستوريا لكل محافظة أو أكثر لتكوين إقليم بناءا على طلب بالإستفتاء بأحدى طريقتين، ( المادة 115 من الفصل الأول من الباب الخامس من الدستور ). ويبدو لنا وللمحقق الباحث المنصف بأن هناك نوع من سوء الفهم أو المغالطة أو الخلط ولربما التشويش المتعمد بالنسبة لشعار أو دعوة الفدرالية، وخصوصا بالنسبة للتيار الديني الذي يقوده ما يسمى بالإئتلاف الموحد الذي يشكل الأغلبية البرلمانية حاليا في العراق، مستندا الى النصوص الدستورية التي تبيح إقامة أو تشكيل أقاليم؛ وهذه قد تأخذ شكل فدراليات أو أقل، ( ليس هناك نص على صياغة دستورية محددة )، و/ أو التي أباحت إقامة فدرالية للكرد في إقليم كردستان شمال العراق. وعلى ذلك، كان لابد من توضيح هذا المفهوم من الناحيتين الفكرية والقانونيــة، من جهة، والعملية التطبيقية من جهة أخرى، في الحالة العراقية القائمة. فما معنى الفدرالية، على أية حال ؟

تعبّر كلمة الفدرالية عن فلسفة سياسية، حيث تعني جمعا من أجزاء أو أعضاء تماسكت وتعاضدت مع بعضها، مع وجود رأس حاكم يمثلها، (الانسكلوبيديا الحرة). ولكن الإستقراء التأريخي لأنظمة الدول التي تسمى فدرالية يظهر عاملا مشتركا أساسيا واحدا، مع تنّوعات في التطبيق، إعتمادا على مقدار التوافقات والظروف ودرجة العقلانية و/ أو أثر التجريبية التي أفضت إلى الصياغات الدستورية النهائية والعملية لهذه الفدرالية أو تلك. العامل المشترك هو ان نظام الحكومة الفدرالية يقضي بتقاسم السلطات الدستورية ما بين الحكومة المركزية والوحدات السياسية المكونة لها، كالحكومات أو الأقاليم المحلية. وتقاسم السلطات الدستورية، قد يشمل حتى تقاسم السلطات السيادية، وما يتفرع الى غيرها من السلطات الإدارية والقانونية والقضائية وغير ذلك. وحينما يتم تقاسم السلطات السيادية ذاتها، حينئذ سينصرف المفهوم إلى مفهوم أوسع وأقل تماسكا، وهو مفهوم أقرب الى الكونفدرالية. أما الفدرالية فتتراوح في مقدار سعتها أو ضيقها، ما بين إعطاء سلطات تشريعية وقضائية وإدارية واسعة للحكومات المحلية؛ ولا تبقي للحكومة الفدرالية سوى بعض السلطات السيادية، كالتمثيل الخارجي والدفاع عن حدود البلاد. وقد يصبح تمويل هذه الحكومة الفدرالية، بهذا المعنى الواسع، رهن بالمساهمات المالية للدول الأعضاء فيها. إن هذا النطاق الواسع من الفدرالية لهو أقرب إلى الكونفدرالية، أو الإتحاد السياسي على غرار الإتحاد الاوربي؛ اذ لا تزال الدول الأعضاء في هذا الإتحاد ذات سيادة وطنية ومحافظة على إستقلالها وفرديتها. أما النطاق الضيق لمفهوم الفدرالية المطبق فهو ذلك الذي طالب ويطالب به، عادة، الوطنيون أو القوميون، ممن ينادون بوجوب جعل الحكومة الفدرالية المركزية تتمتع بسلطات أقوى من سلطات الحكومات أو الأقاليم المحلية، لأسباب سياسية وثقافية، وربما الأهم من كل ذلك لأسباب إقتصادية وإجتماعية. وهذا المفهوم يقارب مفهوم اللامركزية. ولكن الواقع العملي لكثير من الأنظمة الفدرالية قد يقع بين هذين السقفين، الأعلى والأدنى لمفهوم الفدرالية. ولنأخذ مثالا واضحا عن الفدرالية الأسترالية، فاسترالية كانت، كما هو معلوم، عبارة عن ست مستعمرات بريطانية تسكنها غالبية من المهاجرين البيض، ومعظمها من أصول بريطانية، مع وجود أقليات من السكان السود الأصليين ومهاجرين آسيويين وصينيين وغيرهم، وتخضع لسلطة الحاكم العام، أو المندوب السامي الذي يمثل الملكة فكتوريا. ولكن في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأت تتهيأ هذه المستعمرات الستة لتكوين إتحاد فدرالي ولنيل الإستقلال من بريطانية، مع الإحتفاظ بالملكية كرمز للبلاد. وعلى ذلك أعد ممثلون من المستعمرات الستة دستورا اتحاديا في عام ( 1890) وما بعده، وجرى الإستفتاء عليه في كل مستعمرة على حدة. وفي عام ( 1901 ) أصدر البرلمان البريطاني تشريعا يسمح بتكوين الإتحاد الاسترالي بسيادة سياسية وإقتصادية كاملة. ولكن لو تأملنا بعض الخصائص في هذا الإتحاد، بغرض التعلم من الدرس، لوجدنا الآتي :

أ - ان الإتحاد جاء تلبية لمطالب مستعمرات كانت منفصلة عن بعضها في الأساس، وليست مندمجة بأية صياغة سياسية أو تأريخية.
ب - ان العوامل الثقافية المشتركة للغالبية البيضاء كانت قوية فعلا، ولكن كانت هناك مستعمرات للسكان الأصليين المتنافرين بثقافتهم وتأريخهم ولغتهم، ناهيك عن المهاجرين الآخرين.
ج - نص الدستور الإتحادي الاسترالي على توزيع للصلاحيات والسلطات بحيث حصر في يد الحكومة الإتحادية ( الفدرالية ) السلطات الآتية: فرض الضرائب، الدفاع، السياسة الخارجية بكاملها، البريد وخدمات الاتصالات الخارجية. أما الحكومات المحلية فقد أعطيت السلطات الآتية: الشرطة المحلية، المستشفيات، التعليم، النقل العام. فهذه فدرالية أقرب للنظام اللامركزي.

ولو نظرنا الى فدراليات كبرى أخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو كندا أو الهند، لوجدنا فيها تباينات في مقدار توزيع السلطات واختلافات بالتسميات، ولكن في كل الأحوال، تم الابقاء على السلطات السيادية كاملة بيد الحكومة الفيدرالية المركزية، وخصوصا بما يتعلق بالتشريعات ذات الأثر الوطني العام، والدفاع والسياسة الخارجية، فضلا عن سلطات التدخل لإبطال أية تشريعات أو سياسات تتبعها الحكومات المحلية أو الإقليمية عندما تكون منافية للمبادئ الديمقراطية المقرّة في الدستور، أو المتعارضة مع المواثيق الدستورية الأخرى، وخصوصا في قضايا التعامل مع دول أجنبية؛ أو التحالفات العسكرية أو أمور الدفاع عن سيادة دولة الإتحاد الكاملة. والحقيقة إن تأريخ الفدرالية السويسرية العريقة والذي بدأ منذ القرن الثالث عشر، كان في بادئ الأمر يقوم على سيادة الكومون، أي المنطقة أو حتى القرية، ثم توسع الى الكانتون المكّون من عدة كومونات؛ ومن ثم بدأت هذه الكانتونات تتحد تدريجيا الى أن بلغ عددها ستة وعشرين كانتونا، (أنظرمحمد لواساني سويسرا– الحضارة الصامتة )، ولم يكن للحكومة الإتحادية أية سلطة حقيقية، ولكن التجارب أملت على أعضاء الإتحاد تخويل سلطات متزايدة للسلطة الفدرالية، بما جعلها تتدخل حتى في التشريعات المحلية. علما بأن الإتحاد السويسري يتألف من ثلاث قوميات متساوية الحجم تقريبا؛ ومن أقوام يتحدثون بأربع لغات متباينة هي الفرنسية والألمانية والإيطالية والرومانية، ويدينون بمذاهب مسيحية مختلفة، بالإضافة الى وجود مهاجرين يشكلون ربع السكان تقريبا ولهم ديانات ولغات مختلفة، (
أنظر المصدر السابق).

ان آية ما ذهبنا اليه هو أن الشكل المؤسساتي للدولة يعتمد على معطيات عديدة، منها تأريخية وجغرافية وسياسية وتنظيمية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فان للمفهوم صلة وثيقة بمفهوم الديمقراطية وإرادة العيش المشترك. إذ لاشك ان إعطاء المزيد من السلطات للحكومات والوحدات السياسية المحلية يتناسب وينسجم مع مفهوم التمثيلية الصحيحة، ويجعل الحكومات قريبة جدا الى حاجات الناس وهمومهم وتطلعاتهم. ولكن، وهنا تكمن نقطة في منتهى الأهمية والخطورة، اذ عليها يعتمد إستخراج المدلول التطبيقي للفدرالية، مهما كانت صياغتها؛ نقول ولكن، بأي إطار سياسي وعقيدي، وبأية نوازع ودوافع تتم المطالبة بالفدرالية أوإقامتها ؟ هذا هو السؤال الخطير؟ وهنا ينبغي التمييز بين دعوة الى فدرالية لها كل المبررات التأريخية والأسباب الموجبة، وبين فدرالية تطرح لأغراض سياسية طارئة في عمر التأريخ. ومن هنا ينبغي التمييز بين الفدرالية التي يطالب بها وينالها الكرد حاليا في إقليم كردستان، وفدرالية يطالب بها رهط من رجال الدين الشيعة والتنظيمات الطائفية المنساقة معهم، من الذين نجحوا في وضع بنود في الدستور تبيح لهم هذه الدعوة، فهم يطالبون بفدرالية تضاهي فدرالية كردستان العراق، فهل تتشابه الحالتان ؟

الإشكاليات الدستورية للفدرالية في العراق ومبرراتها:
أشرنا آنفا الى أن الفدراليات قامت، في غالب الأحوال، بين كيانات سياسية منفصلة عن بعضها سابقا، وهذه قد تجمع بين شعوبها روابط مشتركة لغوية و / أو أثنية و / أو دينية و / أو مصالح إقتصادية و، أو بيئية أو جغرافية ؛ وقد لا تجمع بينها سوى روابط الجغرافية ومصالح العيش المشترك، بل وربما إرادة العيش المشترك وحدها؛ والأمثلة كثيرة في هذا المجال، فالإتحاد السويسري لا تجمع بين شعوبه سوى الجغرافية والبيئة، والأهم من كل ذلك، تجمعه إرادة العيش المشترك. بل أن السويسريين الفرنسيين المتاخمين الى فرنسا لم يتحدوا مع بلد الأرومة اللغوية فرنسا، بل مع ألمان وايطاليين، وهؤلاء بدورهم لم يفضلوا الإتحاد ببلدي أرومتهما المتاخمين لهما جغرافيا. هنا لدينا مثال تأريخي صارخ على عقلانية خيار السكان في أرض كانت تسمى هلفستيا والتي كانت من بقايا الامبراطورية الرومانية. وعلى رغم الإنقسام المذهبي العنيف الذي حصل حين إنطلقت وتدعمت دعوة البروتستانت على يد الكاهن كالفن في جنيف ضد الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر، فان الأقاليم السويسرية واصلت إتحادها رغم النزاعات الدينية العنيفة، والتي ما لبثت أن همدت، وانتصرت إرادة العيش المشترك تحت لواءات التسامح الديني والإتقان والحياد والإستقرار والإنفتاح العالمي والعمل ( كأسمى قيمة ) ! وهنا نرى نموذجا إنسانيا فريدا يتجاوز الولاءات الضيقة، الأثنية والدينية واللغوية، بل هو يتخطاها جميعا صوب الأفق الإنساني الرحيب والعيش المشترك المبدع.

والشواهد التأريخية الماثلة أمامنا تبرهن، بأنه لا اللغة وحدها سبب ضروري وكافي لقيام إتحادات بين الشعوب، ولا الدين وحده كاف، ولا حتى الخصائص الأثنية كافية، بل ان هذه ألأخيرة قد تصبح وقد لا تصبح من العوامل المهمة؛ ذلك لأن الثقافة والتأريخ، وإرادة العيش المشترك التي تمليها جغرافية وموارد وبيئة معينة، ربما تصبح هي العوامل الأكثر تأثيرا لنشوء الفدراليات أو الإتحادات. وهذا لا يعني بأن اللغة غير مهمة، ولكن هناك أمثلة صارخة لعدم فعاليتها لنشوء إتحادات، كما نشاهد ما عليه الحال بين المملكة المتحدة والدول الأخرى الناطقة باللغة الانكليزية، كالولايات المتحدة واسترالية وكندا، وكلها ناضلت لنيل إستقلالها من بريطانيا الأم ! ولو حاولنا مقاربة العوامل الدافعة للمطالبة بإقامة فدراليات في العراق، فلا نجد من المبررات الموضوعية الداعية لها إلا في الحالة الكردية، فهم لديهم لغة تشكل لهم ثقافتهم وتعبيراتهم الوجدانية، ويقطنون في بقعة جغرافية تتميّز في بيئتها عن بقية أجزاء العراق، كما ولهم تأريخهم المحلي الخاص بهم؛ وهذا على الرغم من وجود مشتركات كثيرة أخرى لهم مع بقية سكان العراق من العرب والأقليات الأثنية الأخرى، فالدين المشترك يشكل ثقافة مشتركة، والتكامل الجغرافي والبيئي ومصالح العيش المشترك والتواصل التأريخي، كل هذه المشتركات تجعل من مصلحة الكرد أن ينضووا في إتحاد فيدرالي مع بقية العراق، على أساس إلتزام الولاء الحقيقي للعراق كبلد أو وطن أم. أما اذا كان للكرد منظور بعيـد يقوم على الإنفصال الكامل، فهذا يحق لهم ولكنه، سوف لا ينفعهم البتة في زمن تقوم فيه التكاملات الإقتصادية والتجارة الحرة والعولمة.. الخ.

ولو حاولنا تحري أية مبررات موضوعية لدعوة قادة الإئتلاف الشيعي للمطالبة بفدرالية لوسط وجنوب العراق على غرار الفدرالية الناشئة الآن في إقليم كردستان العراق، فاننا سنواجه بخطابات فضفاضة طرحها السيد عبد العزيز الحكيم وبعض مساعديه في مناسبات عدة، كان آخرها بتأريخ 8/ 9 / 2006، بل ونجد دعوات أخرى لفدرالية أكثر ضيقا، منها تلك التي تدعو لها جبهة تسمي نفسها، " القيادة المؤقتة لفدرالية الجنوب "، وهي تدعو لإقامة فدرالية لمحافظات الناصرية والبصرة والعمارة؛ بل ونجد دعوة أخرى ينادي بها الشيخ محمد باقر الناصري، ( ممثل السيد السيستاني في الناصرية )، تقوم على أساس جعل كل محافظة فيدرالية لحالها. نقول ان دعوة السيد الحكيم إلى الفدرالية تقوم على ثلاثة أسباب رئيسة : -
- إن قيام فدرالية لوسط وجنوب العراق، ( تسع محافظات )، سوف تحول دون عودة الدكتاتورية الى العراق مرة أخرى.
- إن أهل الجنوب والوسط قد عانوا من الإستلاب والظلم كثيرا، وقد آن الأوان لإنصافهم وتمكينهم من السيطرة على مواردهم وثرواتهم المحلية، وخصوصا النفط الذي يتأملون أن تضفي موارده عليهم نعيما ما بعده نعيم!
- إن فدرالية مساوية لفدرالية الكرد سوف تضمن القضاء على الإرهاب، وسوف تعزز ليس فقط الإستقرار بل وحدة العراق الجغرفية!

هذه هي مبررات السيد الحكيم الأساسية، وسنناقشها تباعا، علما بأننا سبق أن درسناها في مقالة سابقة بعنوان، " فدرالية الجنوب والوسط ومصير العراق "، منذ شهور قليلة. ومع ذلك سنعود لها في القسم اللاحق، بعد بيان الإشكالات الدستورية والقانونية لهذه الدعوة.

الإشكالات الدستورية والقانونية:-
نص الدستور العراق الذي تم اقراره بالإستفتاء العام في 15 تشرين الأول لعام 2005، على حق تشكيل أقاليم جديدة، تؤسس وفقا لأحكامه، ( المادة 113 من الفصل الأول من الباب الخامس). وتنص المادة (114) من نفس الفصل والباب بأن يسن مجلس النواب في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تأريخ أول جلسة له قانونا يحدد الإجراءات التنفيذية الخاصة بتكوين الأقاليم بالأغلبية البسيطة للأعضاء الحاضرين. ثم تنص المادة التي تليها، (رقم 115)، بأنه، " يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءا على طلب بالإستفتاء عليه يقدم بإحدى الطريقتين :-
أولا:- طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الأقاليم.
ثانيا:- طلب من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الأقاليم".

إن النصوص أعلاه لم تعرّف ماهيّة الفدرالية، انما هي تتحدث عن الحق في تشكيل أقاليم جغرافية، أي عن تشكيلات جغرافية إدارية. ومع ذلك، فانه حتى في هذه الحالة نلاحظ إن الآلية أو أسلوب التشكيل الوارد في النصوص يبدو متساهلا جدا، حيث لا يقتضي الأمر أكثر من طلب يتقدم به فقط ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الأقاليم، أو طلب يتقدم به (10%) من الناخبين في كل محافظة تروم تشكيل أو الدخول بتشكيل إقليم! !

وعلى ذلك، فان الإستقرار المؤسسي والبنيوي للكيان العراقي سيكون مهدد دائما بأية نزعات سياسية طائفية، أو إنعزالية لأية أقلية أو أغلبية سياسية فاعلة في هذه المحافظة أو تلك. وتقتضي الحصافة الدستورية إعادة النظر في هذه النصوص التبسيطية التي يمكن أن تصبح مصدرا لعدم الإستقرار ولإثارة النزاعات.

أما بشأن توزيع السلطات ما بين الحكومة الفدرالية والأقاليم المتحدة ( المفدرلة ) معها، فليس أمامنا إلا أن ننظر الى المادتين، (116) و (117)، حيث تترك الأولى للإقليم مسؤولية وضع دستور خاص به، يحدد فيه سلطاته وصلاحياته وآليات ممارستها، وبما لا يتعارض مع الدستور الفدرالي. ولكن لو نظرنا الى المادة الثانية. (117)، لوجدنا أنها في الفقرة، أولا تعطي للإقليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، بإستثناء ما ورد فيه من إختصاصات حصرية للسلطات الإتحادية؛ ولا ضير في ذلك. ولكن الفقرة ثانيا من هذه المادة تعطي سلطة الإقليم الحق في تعديل القانون الإتحادي في حالة وجود تناقض أو تعارض بينه وبين قانونها أو قوانينها، هنا تنتفي السلطة الفدرالية المركزية، ولا يصبح لوجودها، كقوّة موحّدة، أيّ معنى. فهذه الفقرة لا تحيل التناقض في قوانينها مع القوانين الفدرالية، في الأقل، الى محكمة دستورية فدرالية، كما هي الحال في جميع الفدراليات المهمة والمعروفة في العالم؛ وهذا يشكل وضعا قريبا من الكونفدرالية وليس الى الفدرالية، أي أن العلاقة ستكون أشبه بتحالف سياسي منه كفدرالية لتكوين دولة أو وطن واحد. وحينما يقول الداعون لهكذا دستور إنه لتعزيز وحدة العراق فإنهم لا يصدقون القول. أما بالنسبة لموارد الإقليم فإن الفقرة ثالثا من نفس المادة حددته بعبارة عائمة وغير دقيقة ويمكن أن تفسّر بوجهين أو أكثر، حيث تقول؛ " تخصص للأقاليم وللمحافظات حصة عادلة من الإيرادات المحصلة إتحاديا تكفي للقيام بأعبائها ومسؤولياتها مع الأخذ بعين الإعتبار مواردها وحاجاتها ونسبة السكان ". من هو الذي يقدر الحاجات؟ وما هي الحصة العادلة؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نجد بأن تلك النصوص لم تمنع حكومة إقليم كردستان من عقد إتفاقيات مع شركات أجنبية لإستغلال الموارد النفطية، وحتى لتنفيذ مشاريع إقتصادية وبدون تنسيق مع الحكومة المركزية. كما إن متحدثا بأسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية تكلّم عن تصدير عشرة ملايين برميل يوميا من إنتاج إقليم جنوب ووسط العراق. حتى قبل تكوينه! ! فغموض النصوص الدستورية حول إستغلال الثروات النفطية هو بمثابة بطاقة تخويل لأية فئة إقليمية حاكمة لتفسّر الأمور حسب منظوراتها التجزيئية؛ والحال، إن الأمر الطبيعي في معظم الفدراليات المعروفة في العالم أن يكون إستغلال الموارد الطبيعية والثروات المعدنية محصورا بالحكومة الفدرالية وليس بالكيانات الإقليمية مهما كانت سعة صلاحياتها المخوّلة لها. ولننظر أيضا للفقرة رابعا من المادة (117) آنفة الذكر، فهي تنص على الآتي:- " تؤسس مكاتب للأقاليم والمحافظات في السفارات والبعثات الدبلوماسية لمتابعة الشؤون الثقافية والإجتماعية والإنمائية ". عجيب هذا الأمر حقا، إذ لا مثيل له حتى في أشدّ الفدراليات تنّوعا في العالم. وهذا يعني بأن جميع سفارات العراق الإتحادي يجب أن تفتح مكاتب فيها بقدر عدد المحافظات والفدراليات الموجودة في العراق لمتابعة الخصوصيات الثقافية والإجتماعية والإنمائية لكل منها؛ واذا كان التنوع والتباين على هذه الدرجة من الشدّة، كيف يمكن الكلام عن شعب عراقي موحد ثقافيا وإجتماعيا، وأية سفارة بهذا العدد من المكاتب تستطيع تمثيل بلد موحد؟ ! أليس في الأمر غرابة كبيرة؟ ناهيك عن التكاليف والهدر في الإنفاق! وقد يجوز فتح مكتب لإقليم كردستان في السفارات العراقية التي تقع في بلدان لها إهتمام بالثقافة الكردية وبالشؤون الكردية ذات الخصوصية؛ على أن يتم ذلك على أضيق نطاق، وأن لا يتعلّق بأمور تخص سياسات العراق الخارجية، الدبلوماسية والإقتصادية والمالية وما شابه. أما بقية المحافظات أو الفدراليات في القسم العربي من العراق فلا معنى لإقامة مكاتب لها في السفارات في الخارج.

وليست هي بنود الدستور الخاصة بتشكيل الأقاليم وحدها التي تستدعي المراجعة والتعديل بل هناك بنود تتعلق بحقوق المرأة وإستغلال الموارد الطبيعية وتشكيل المحاكم الدستورية، وغيرها؛ كلها تستدعي بالفعل المراجعة والتعديل. فهذا الدستور قد تم التوافق عليه قبل إجراء الإستفتاء عليه، ولكن بشرط أن تجري مراجعته خلال أربعة أشهر من إنعقاد مجلس النواب الجديد، وذلك قبل المطالبة بتفعيل أية مادة من مواده؛ فلماذا يستعجل قادة الإئتلاف تفعيل بنود الدستور لتشكيل الأقاليم، قبلما تتم المراجعة المتفق عليها، وحتى قبلها يتيحوا لأنفسهم الفرصة الكافية لدراسة نوعية ومبررات وأهداف وآثار الفدراليات التي يطالبون بها! وحتى تيارهم الديني يبدو الآن منقسما بالنسبة لنطاق ونوعية وشمولية الفدراليات المطلوبة هذه، كما أشرنا سالفا.

مبررات الداعين لفدرالية الوسط والجنوب أو فدراليات شيعية أخرى:-
أشرنا الى ثلاثة أسباب رئيسة، تكررت في خطابات السيد عبدالعزيز الحكيم، راعي الإئتلاف الموحد، وفي أحاديث عدد من قادة أو ناطقين بإسم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، للدعوة الى إنشاء كيان فدرالي يضم تسع محافظات في وسط وجنوب العراق؛ وهي ذات الأسباب تقريبا التي تدعو على أساسها أطراف شيعية أخرى من نفس التيار لفدراليات بمواصفات أضيق جغرافيا، كما أشرنا سابقا. ولنناقش هذه الأسباب بإختصار لأننا سبق وحلّلناها في مقالة سابقة؛ " فدرالية الجنوب والوسط ومصير العراق":
تردد قول الحكيم وغيره بأن قيام فدرالية الوسط والجنوب سوف يحول دون قيام الديكتاتورية. ما هو الأساس الموضوعي لهذا الطرح؟ هل أن الهيكل المؤسسـي للـدولة ( لأية دولة ) هو الذي ينتج الضوابط والمعايير للحدّ من ميل الحاكم للإستئثار بالسلطة ولإقامة دكتاتورية؟ أم هو الدستور والبرلمان وحرية الرأي والصحافة والمعارضة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني هي التي تفعل ذلك؟ ما هي علاقة المركزية واللامركزية بقيام الديكتاتورية؟ هناك أنظمة مركزية عديدة في العالم لم تشهد قيام ديكتاتوريات طالما هي تتمتع بنظم ديمقراطية عالية المستوى ووعي جماهيري حضاري ومتقدم. لماذا نافح الحكيم عن الديمقراطية والتعددية وخيار الشعب حينما تعلق الأمر بحق الإئتلاف في تشكيل الحكومة الأخيرة؟ أليس هو النظام الديمقراطي الذي منع ويمنع إستحواذ قوى غير منتخبة من السيطرة على الحكم؟ ونخلص من هذا بـأن أطروحة الحكيم هذه للربط ما بين الفدرالية التي يدعو إليها ومنع قيام الدكتاتورية لا معنى حقيقي لها تحت ظل نظام ديمقراطي حقيقي وغير مزيف.

ويبرر الحكيم وجماعته من رجال الدين وغيرهم حق الشيعة بإقامة فدرالية خاصة بهم بسبب المظلومية التأريخية التي تعرض لها أتباع آل البيت في العراق بصورة خاصة ومنذ واقعة كربلاء لحين سقوط صدام الذي مكّن، كما كان غيره من حكام العراق السابقين يمكّن، السنة من أبناء طائفتهم للإستحواذ على السلطة ولقمع وتهميش وإذلال وإفقار الشيعة في الوسط والجنوب، وإنه قد آن الأوان لإنصافهم بتمكينهم من حكم أنفسهم والتحكم بمواردهم.أليس في هذه المقولة تبسيط وتسطيح كبيرين!؟.

أولا:
نقول بأن التهميش والإفقار والإذلال لم يكن في يوم من الأيام حصة الشيعة وحدهم، بل شمل كل أبناء الشعب العراقي من الكادحين والطبقات الوسطى وفي مقدمتهم الأكراد السنة؛

ثانيا: إن الشيعة هم الذين رفضوا دعوة الملك فيصل الأول للمشاركة في الحكومة الأولى، في عام (1921) والتي كان يرغب بتأسيسها كحكومة وطنية شاملة لكل أبناء الطوائف والأعراق، وذهب بنفسه الى النجف وشكرهم لتأييدهم على تنصيبه ملكا على العراق ودعاهم للمشاركة معه، لكنهم رفضوا وقالوا له، " إننا ننتظر ظهور المهدي، ونحن طالبنا بك ملكا لكونك شريف هاشمي، ولكن يا فيصل أفندي هذا هو حدنا وياكم، فحكومتنا هي حكومة المهدي المنتظر! ! "، (
أنظر’جعفر الخليلي- تأريخ النجف). وليس هنا المجال لبيان دور الشيعة، (وإن كان بعضهم من غير الجعفريين)، في إقامة أنظمة حكم، إبان العصور العربية الإسلامية، دام بعضها لأكثر من قرن، وكيف إن بعضها كان في غاية الإستبداد والبطش والظلم، كما في عهد الدولة الفاطمية في مصر، ودولة بني حمدان ودولة بني أسد، ودولة الأدارسة الحسنيين والزيديين، وغيرهم.

ثالثا: لقد أزدادت مشاركات أبناء الشيعة سواء في البرلمانات العراقية أو المناصب والوجاهات على مرّ الحكومات المتعاقبة، (
أنظر، جعفر الخليلي- تأريخ النجف). وخصوصا في العهد الملكي وما بعده، حيث كان لأبناء الشيعة اليد الطولى في نشاطات المنظمات اليسارية، وفي تأسيس الأحزاب القومية، كحزب الإستقلال في العهد الملكي، والبعث الذي كانت قيادته لغاية إنقلاب عام 1963 بغالبيتها من الشيعة؛ بل حتى صدام كان يدعي إنه من نسل الحسين! ! ولعب أبناء الشيعة أدوارا قيادية، وكانت لهم مراكز ومواقع علمية مرموقة في كل مراحل الدولة العراقية. ولكن، نقول ولكن، درجة الحرمان، نعم درجة الحرمان، و ليست نوعيته، هي التي كانت أكبر في وسط وجنوب العراق، وذلك بسبب السياسات الطائفية للحكومات التي كانت تشكل من الأغلبية السنية. ويصح القول بأنه لم تتحقق في كل العصور العراقية، أية تنمية متوازنة في العراق، ولم تكن المحافظات الغربية والشمالية والكردية أكثر رخاءا على الدوام من محافظات وسط وجنوب العراق، بل إن البصرة كانت في وقت من الأوقات هي ثاني أكبر وأغنى مدينة في العراق. وعلى ذلك، فإن الإدعاء بأن المظلومية كانت حكرا على أتباع آل البيت هو محض إدعاء، أو مبالغة إن شئنا الدقة.

يدعي الحكيم ومناصروه إن قيام فدرالية مساوية لفدرالية الكرد سوف تفرز ليس فقط الإستقرار إنما أيضا وحدة العراق الجغرافية. ولنخضع هذه المقولة للتحليل المنطقي والإستقرائي.

كيف تتعزز وحدة العراق الجغرافية إذا كانت هناك فدرالية للشيعة تضم تسع محافظات وتتركز فيها معظم الموارد البترولية والزراعية، ولا تترك لثلث الشعب العراقي من السنة في بقية المحافظات سوى الصحراء والمياه المنسابة من دجلة والفرات لخير الجنوب. بطبيعة الحال، إذا كان الإستقطاب الجغرافي يتم على أساس طائفي، ويكون فيه الشيعة قد سلخوا معظم العراق، جغرافية وموارد، فماذا سيكون رد فعل السنّة في المحافظات الغربية والموصل في الشمال؟، لاشك بأنهم سيتداعون الى إقامة فدرالية أخرى على أساس طائفي سنّي أيضا. وعندها ستبدأ حرب الموارد والحروب الطائفية والسياسية الكريهة، وتدخلات دول الجوار العربية، ناهيك عن التدخل الإيراني من جهة الشرق لصالح الشيعة. بل قد يلجأ سكان المحافظات الغربية، بحكم الضرورة والتشجيع الخارجي الى الإستثمار، وربما حجز المياه من نهري دجلة والفرات، والتحكم في مناسيبهما بسبب وجود السدود لديهم. مما سيفضي الى شح المياه في محافظات الوسط والجنوب، بل وربما الى إفشاء العطش والجفاف والحرمان فيها. إن سيناريو مأساوي كهذا من الجائز أن ينشأ بعد قيام فدرالية الحكيم، فهل هذا الإحتمال هو لمصلحة تعزيز وحدة العراق الجغرافية، أم تمزيقها؟

إن الجغرافية العراقية هي جغرافية متكاملة مع بعضها إعتبارا من كردستان العراق ونزولا الى أقصى الجنوب، ويوحّدها نهري دجلة والفرات وروافدهما. كما إن إنحدار الأرض التدريجي من الشمال الى الجنوب يجعل النقل والتنقل والتدرج البيئي سلسا ومتكاملا، وحينما يأتي البعض ليدق أسفينا بهذا النظام الأيكولوجي/ الإجتماعي / الإقتصادي، فإنه لا يخرّب الوحدة العراقية وحدها، بل يخرّب مصالح ومستقبل سكان محافظات الوسط والجنوب ذاتهم (أي أتباع آل البيت الذين ينوح الدعاة بإسمهم ).وعليه فإن الدعوة لفدرالية على أساس جغرافي طائفي هي دعوة خطيرة، إن لم تقام على أسس ديمقراطية عقلانية وبتوافق كامل وبصلاحيات تكاملية، مع الحكومة المركزية الفدرالية، من جهة، ومع بقية المحافظات والأقاليم من جهة أخرى. فضلا عن ذلك، فان هناك خطر جوهري لإثارة هذه الدعوة في الظروف الراهنة.

مدى ملائمة وتأثيرات ونتائج إقامة فدراليات أخرى، من غير فدرالية الكرد، في الظروف الراهنة:-
لعلّ من نافلة القول الآن بأن العراق قد أضحى، عموما، اليوم ساحة للصراع العنيف ما بين جهات غير عراقية، (توظف عراقيين وغير عراقيين لإدارته)، والقوات المحتلة الأمريكية وحلفائها. وكما أشرنا في المقدمة وفي مقالات عديدة سابقة، بأن هناك تحالف يضم فئات متضررة من سقوط نظام صدام أو / وجهات مهددة بالوجود الأمريكي في العراق ومن إحتمال تنفيذ إستراتيجية عبره قد تطال بقاء هذه الجهات. وبتعبير أكثر وضوحا، إن فلول النظام السابق بأموالهم المكدسة وسلاحهم المخبأ، والسلفيين التكفيريين الإرهابيين من القاعدة والزرقاويين، مع الدعم المخابراتي واللوجســتي مــن دولتيـن إقليميتين من الشرق، إيران، (وعبر قنوات معقدة)، وسورية عبر تنظيمات البعث السوري والمخابرات السورية، وربما بالتنسيق مع إيران، وغيرها من دول الجوار؛ كل هذه الفئات والجهات تعمل، تحت قناع الجهاد والمقاومة والتحرير وغير ذلك، لإفشال المشروع الأمريكي المعلن وليس الخفي، لإقامة عراق ديمقراطي، تعددي وحرّ. و لكن لكل فئة أو جهة أجندة خاصة بها،إلا إنها تلتقي جميعا وبأساليب مباشرة أو غير مباشرة، في محاولة جعل الوجود الأمريكي في العراق جحيما. ولكن كيف يتم ذلك؟ بالتأكيد ليس بمقاتلته بصورة فاعلة، بل بقتل العراقيين رجالا ونساءا وأطفالا أبرياء (فهم الصيد الأسهل)، وبتدمير موارد البلاد وحرق كل مل يهب ويدب فيها، والعمل الحثيث على تقسيمها وتحويل أجزاءها الى إمارات ومناطق نفوذ، وربما فدراليات خاضعة لنفوذ كل من هاتين الدولتين الجارتين، وربما أيضا لنفوذ الجارة الشمالية تركيا التي تتحين الفرص أيضا بالتنسيق والتعاون مع إيران لمدّ نفوذها في الشمال، وربما لسلب الموصل.

في وضع فوضوي وتدميري بل وعدمي كهذا، كيف يتقدم البعض ممن لهم تحالفات وعلاقات سابقة، إن لم نقل حاليا، مع إيران، بمشروع لإقامة فدراليات مذهبية، (شيعية)، متاخمة للحدود الإيرانية، أي متاخمة الى دولة هي ناشطة في صراع مرير ضد الولايات المتحدة، وعاقدة عزمها على التحول الى قوة نووية، "لها مصالح مشروعة في العراق ودول الخليج المتاخمة "، كما يدعي حلفاؤها قبلما تدعي هي. وحتى لو صدقت نوايا الحكيم وأمثاله في دعوتهم لفدرالية لجنوب ووسط العراق، ألا يعتقدون بأنهم بطرحهم هذا في الظروف الراهنة سيضعون أنفسهم، شاؤوا أم أبوا، تحت الحماية والنفوذ الإيراني، مما سيولّد صراعات مقابلة في بقية أجزاء العراق المتاخمة من جهة، لتركية، أو المتاخمة لسورية من جهة ثانية، أو حتى المتاخمة لكل من السعودية والكويت من جهة ثالثة! فهل ستسعد تركيا بوجود كردستان عراقية مستقلة وتؤوي متمردين من الأكراد الأتراك على حدودها الجنوبية؟ أم هل ستسعد السعودية و/ أو الكويت لنشوء دولة شيعية، (سمّها فدرالية أو غير ذلك)، متاخمة لحدودها الشمالية؟ وما عسى إيران أن تفعل بفدرالية يقودها رفاق المذهب الشيعي الخلاصي على حدودها الغربية؟، فهذه بالتأكيد ستمثّل بالنسبة لها ورقتها الرابحة للتفاوض مع الأمريكان حول حصتها من نفوذها كقوة إقليمية نافذة في المنطقة! هل إن وضعا مأساويا كهذا بالنسبة للشعب العراقي وحده، بصورة أساسية، مناسب للمطالبة بفدرالية خاصة بالشيعة في جنوب ووسط العراق؟ نقول، إن الحليم تكفيه الإشارة؛ إن أية وطنية عراقية تسري في عروق الداعين لمثل هذه الفدرالية، (ذات السلطات الصالحة للتوظيف الإنفصالي)، في مثل هذه الظروف ينبغي أن تجعلهم، في الأقل، يتريثون بالمطالبة بها ريثما تتم تصفية الإرهاب ويستقر البلد ويعود الأمان، ليقرر بعد ذلك العراقيون، بوعي كامل، طبيعة ونوعية الهيكل المؤسسي المناسب لدولتهم العراقية الديمقراطية الواحدة. أما اذا تمسك المتنطعون من تيار الإئتلاف بالقول بأن الفدرالية هي حق لهم أباحه الدستور، فنحن نقول لهم، اذا كنتم تعتقدون بأن العراقيين قد صوتوا للدستور بوعي ودراية كاملة، فأنتم بوهمكم سادرون. واذا اصّر هؤلاء الدعاة على إقامة مثل هذه الفدرالية في مثل هذه الظروف، فان التأريخ سيواجههم بمقالب لم يحتسبوا لها، إذ ستنهار أحلامهم التقسيمية، وسيأتي من يردد أمامهم المثل العراقي المعروف، " لا حظت برجيلها ولا خذت سيد علي"!!

في ندوتين، الأولى بتأريخ 8\ 9\2006 على قناة الحرة والثانية في 13\9\2006 على قناة العراقية، تحدث الدكتور علي العضاض، (كونه شقيقي لا يغير من الأمر شيئا، فهذا شأن وطني وليس عائلي)، بصفته قيادي في المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، وردد مقولتين، الأولى هي إن الفدرالية حق أباحه الدستور ولن يتنازلوا عنه، والثانية هي أنهم في فدراليتهم المرتقبة سيصدرون عشرة ملايين برميل من النفط يوميا، وإن ايران ستصدر عشرة أخرى، وبهذا سيصبح وزنهم الإقتصادي أثقل من وزن دول الخليج مجتمعة! نقول، ان العراقيين لم يصوتوا لك ولتيارك ليتنازلوا عن وطنهم العراق، و ليزج به في تحالف مع دولة أجنبية للدخول في صراع مع دول عربية شقيقة. وإن أحدا منهم، حين صوت للدستور كان قد قرأه أصلا، ليمنحكم حقا لتقسيم العراق؛ فهو صّوت لمذهبه، ظنا منه إن في ذلك بعض الخلاص من بؤسه الحاضر!! أما حديثك عن الثقل الإقتصادي النفطي المرجح على دول الخليج العربي، فبالنيابة عن من تتحدث؟ عن إيران الأجنبية، أم عن الوطن العراقي العربي ؟؟ هل يعي هؤلاء القوم ما يقولون أمام وسائل الإعلام؟؟

إن فداحة الظروف المروّعة الحالية تقضي على أصحاب الضمائر الوطنية في العراق أن يدعوا إلى إقامة حكومة طوارئ مصغرة وبصلاحيات تكاد تكون مطلقة لرئيس الوزراء بما يخص الأمن والدفاع عن حدود البلاد، للتفرغ تماما للقضاء على الإرهاب الأسود الطاغي اليوم في العراق، وللفعل السياسي الدولي لإيقاف تدخل دول الجوار، حتى لوتطّلب ذلك طلب حماية دولية. إن إعلان حالة طوارئ لسنة أو سنتين، مع إيقاف أي ترف ديمقراطي في المجال الأمني وليس السياسي، وتقديم كل الدعم والمؤازرة والتكريس لهذه الحكومة الوطنية، وهذا أمر مطلوب بسبب الضرورة الملحة لحين الإنتصارعلى الإرهاب والتدخل الخارجي وتحقيق أهداف مشروع المصالحة الوطنية. وفقط بعدما يتحقق الأمن وتتحقق المصالحة،وينتهي منطق المحاصصه، يمكن أن نتوقف لنفكر ولنمارس خياراتنا الديمقراطية الحرة لتأسيس نظام فدراليات أو أقاليم لامركزية بصلاحيات وسلطات متناغمة مع روح الديمقراطية ونواميس العدل وحق الإختيار وكفاءة الأداء. أما أن يستغل تيار الحكيم وضع الحكومة الضعيف والمشتت وحالة الإرهاب الضارب أطنابه، مخلفا أكثر من مئة شهيد وقتيل يوميا، ليعلن في كل مناسبة وبإلحاح بضرورة إقامة إقليم فدرالي لتسع محافظات على غرار فدرالية كردستان العراق، فلا يمكن لمنصف وعاقل أن يقبله كحصافة سياسية أو حرص على مستقبل العراق الموحد؛ بل ربما يعتبره البعض وصفة مؤثرة لنهاية العراق! !

الآثار والتداعيات لإقامة فدراليات من منظور التنمية البشرية ومستقبل الأجيال العراقية:
لو فرضنا إن تيار الإئتلاف الذي يدعي تمثيل الشيعة كافة، (وهذا غير صحيح طبعا)، قد ينجح في إقامة دولة متحدة أو متفدرلة بشكل واهن مع حكومة مركزية فدرالية تدعي إنها تمثل العراق كله من شماله الى جنوبه، فما هي الآثار والتداعيات، بصورة عامة، وفقا لمفاهيم التنمية المستدامة ومستقبل الأجيال العراقية؟ نوجز الإحتمالات كالآتي:

ستنشأ لدينا في العراق ثلاثة كيانات (غيتوات)، الأول، أثني كردي سيحارب حد الإستنزاف لمجرد البقاء على قيد الحياة، وستنهكه تدخلات دول الجوار المحيطة به إحاطة السوار بالمعصم. والثاني طائفي شيعي سيتحول إلى ساحة أمامية لحروب وأطماع إيران. والثالث طائفي سني سيتم توظيفه لجعل الأمن الإقتصادي والإستراتيجي للكيانين الآخرين حلما مستحيلا.

أمام سيناريو محتمل كهذا، كيف يمكن تحقيق تنمية ديمقراطية مستدامة، وكيف سنضمن للأجيال القادمة مستقبلها الإنساني الزاهر. كيف يمكن بناء ثقافة إنسانية متسامحة ومتعاونة، في نظم تقوم على التمترسات الأثنية والمذهبية؟ لقد هجر العراق حتى الآن ما يزيد على الأربعة ملايين إنسان عراقي، فكم سيبقى منهم، وخصوصا من العلماء والمثقفين وأصحاب الخبرات والمهارات، عندما تستحكم كارثة تقسيم العراق ويتحوّل الى غيتوات طائفية وأثنية متنابذة ومتحاربة؟ وهذه ربما تؤدي الى تمزيق ما تبقى من النسيج الإجتماعي تماما؛ فالتدفقات والتعاملات الإقتصادية والمالية ستتعثر وربما تتوقف، فالكردي لا يستطيع تمرير بضائعه من خلال غيتو المثلث السني ليبيعها في الغيتو الشيعي. والشيعي لا يستطيع السفر عبر أراضي السني، والأخير سيفتش عن وسائل لعرقلة إنسياب المياه الى الوسط والجنوب الشيعي. أية دولة فيدرالية هذه؟ إنها دولة تقوم على الكراهية ومحق الآخر، وهتك الحرمات والشرائع وما تدعو اليه الأديان والمذاهب الشيعية ذاتها؛ إنها قتل للإنسانية وللإنسان العراقي. فهل هذا مايريده النائحون بالمظلومية والداعون الى فدراليات في زمن الإنقسامات والفوضى والإرهاب؟ أي عقل إنساني راجح هذا؟ هل هذه هي منطلقات ومبادئ مستمدة من فكر المذهب الشيعي الباحث عن العدل والمساواة، كما فهمناها نحن كشيعة؟ أين هو هذا العدل في الطروحات المغرورة والزاعقة التي يصرخ بها بعض قادة الإئتلاف اليوم؟

إن العراق العربي بشيعته وسنته وبقية أثنياته ودياناته ومذاهبه ليس إبن اليوم، ولم يكن في يوم من الأيام يتألف من أقوام متناحرة على حافة التأريخ؛ إنه مهد الحضارات الأولى، وإنه كان مركزا للحضارة العربية الإسلامية. في معاهد في بغداد كان يتعلّم الفرس والأتراك والهنود والمغاربة، وناس يأتون من أصقاع الأرض كافة. لقد تراكم رأسمال حضاري تأريخي عظيم في بلاد الرافدين، وهو رأسمال حضاري إنساني ورثه العراقيون منذ فجر الحضارات، ورأسمال عربي وإسلامي، صنعه العراقيون، فكيف ينهض اليوم أناس بإسم المذهب ( شيعي أو سني أو حتى كردي ) ليشطبوا هذا التراث أو رأس المال التأريخي، وخصوصا رأس المال العربي؟ كيف يمكن تجريد العراق من عروبته؟ كيف يمكن فصله عن امتداده العربي القومي الى الغرب والجنوب، وربطه بدولة فارسية الى الشرق، لها مصالح وأطماع وربما ثارات ضد العرب في جنوبها وشرقها؛ وذلك بإسم المذهب الشيعي، هذا المذهب الذي تلقفته إيران الفارسية في مرحلة متأخرة من التأريخ، في القرن السادس عشر، لتوظفه في صراعها المرير ضد العثمانيين وعلى مدى أربعة قرون تقريبا؟ كيف يمكن تحرير الإنسان العراقي اليوم من الغيتوات الضيقة التي يريد أن يحشره فيها هؤلاء الراكبون اليوم موجة المظلومية والدعوة الطائفية الصارخة؟

في ظروف كهذه لا يمكن تحقيق أية تنمية، لا مؤقتة ولا مستدامة، ولا التمتع بأية موارد نفطية، بل أن الوضع سيتحول إلى إمارات ثيولوجية أو كهنويته متحاربة، وموارد مسلوبة من قبل هذا الأمير وعصابته أو ذاك وعصابته،وهكذا. أنه فعلا سيناريو أسود، قد يقع في أسره الإنسان العراقي عندما يغيب العقل. فهل سيغيب؟

لمصلحة من ستؤول الفدراليات؟ وما هي المخارج من هوسها؟
حينما نقول لمصلحة من وفي حسابات من ستصب الفدراليات المتحاربة والمتنابذة، ينبغي أن نحدد أو نشخص هوية اللاعبين الأساسيين الآن في الساحة، والذين يشغّلون حاليا أدواتهم تحت أقنعة وشعارات شتى. اللاعب الأول، هي الولايات المتحدة وحلفاؤها. واللاعب الثاني إيران والثالث سورية والرابع فلول النظام السابق، والخامس القوى التي تبدو مهيمنة الآن في الساحة السياسية في العراق، وهم أصحاب التيار الديني الشيعي الذي يمثله أو يتزعمه الإئتلاف الموحد الشيعي، واللاعب الخامس الكرد، والسادس الطوائف السنية التي يدعي تمثيلها أكثر من تنظيم، كهيئة علماء المسلمين و / أو قائمة التوافق وغيرها. أما موضوع اللعبة أو الكرة، فهو الشعب العراقي المستلب بكل طوائفه؛ فهو يقتل، ليل نهار، كلما حرك أحد اللاعبين قطعته الشطرنجية! ! وفي ضوء المعطيات وتوالي الحوادث والفواجع منذ هزيمة النظام السابق؛ أي منذ ثلاث سنوات، فإن الخاسر الوحيد حتى الآن هو الشعب العراقي، خاسر بوجوده وبثرواته. أما من سيكون الرابح، فهنا لابد من طرح مجموعة من السيناريوهات:
مصالح اللاعبين:
(أ)- لنبدأ بالولايات المتحدة وحلفائها، كقوة محتلة وصاحبة مشروع وإستراتيجية جديدة تريد تطبيقها لضمان مصالحها البترولية والأمنية بالأساس تحت أسم مكافحة الإرهاب ونشر الديمقراطية. في ضوء المعطيات حتى الآن يبدو للمراقب الحصيف بأن أمريكا تبدو غير جادة لوقف الإرهاب والتهتك الساري في النسيج الإجتماعي العراقي والتدمير الجاري للموارد الإقتصادية، كما تبدو وكأنها لا تمانع من سيطرة حلفاء إيران من الشيعة على المسرح السياسي والحكومة، وتبدو وكأنها تجذب الإرهابين الى العراق، وتبدو أيضا وكأنها لا تمانع أيضا من إنفصال الكرد، إن هم شاؤوا ذلك! فهل جاءت الولايات المتحدة بكل ثقلها العسكري وأموالها الطائلة لتضحي بجنودها. ولتتفرج على سيطرة إيران من خلال حلفائها الشيعة على العراق، معقل مواردها النفطية؟ أم هل هي جاءت لتسمح بقيام دولة طالبانية أصولية بديلا عن التي أسقطتها في أفغانستان؟ أم هل هي جاءت لسواد أو زرقة عيون الكرد لتقيم لهم دولة على حساب حليفتها الكبرى تركيا؟ أم هل هي جاءت لتنهك الجميع، ثم لتقول أخيرا لصدام حسين ورهطه، بعدما يتعبون من القتل والتدمير، تفضلوا لإستلام الحكم من جديد، بشرط أن لا تعود حليمة لعادتها القديمة!؟ كلا إن الولايات المتحدة جاءت من أجل مصالح الولايات المتحدة أساسا، مع بعض الإعتبار الثانوي لمصالح الشركاء والحلفاء. كلا، إن الولايات المتحدة لا تتفرج، إنما هي تخطط وتدعم وتشجع وترشي وقد تضطر أن تغتال أو تقتل وتورط آخرين عند الضرورة، وربما بصورة غير مباشرة، من أجل إضعاف الجميع، وخصوصا التيار الشيعي، للقيام بعد ذلك بالإنقضاض عليه، وعلى البقية، وربما بأسلوب سياسي لا عسكري، لإخراجهم مهزومين، ضعفاء، مكسورين مشوّهي السمعة وحتى منبوذين ديمقراطيا من قبل حتى أنصارهم ومقاتليهم أو مليشياتهم المدحورة. عند ذاك فقط ستجد الولايات المتحدة حليفها القوي الذي سيفرزه الواقع السياسي العراقي المرّ. والذي تستطيع ترتيب الوضع النهائي معه، بعد طرد أو تهميش كل الأطراف الأخرى، وبعد بروز قوى لبرالية ثانوية مرنة، تؤمن بالحوار والديمقراطية والتصرف بواقعية وبما يتناسب مع القدرات الذاتية والموضوعية الحقيقية. وهذا اللاعب الجديد الذي سينتصر به اللاعب الأمريكي، ليس بالضرورة عميل أو وكيل بل هو القوة العراقية الديمقراطية الجديدة التي تعلم بأنها جاءت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه كما فعل سياسيوا اليابان بعد الهزيمة العسكرية الكبرى في نهاية الحرب العالمية الثانية! ! عندها سيعاد النظر في خريطة العراق الإدارية والجغرافية، بما يسمح بقيام فدراليات ومحافظات جغرافية، إدارية، أقرب الى اللامركزية. ولكن حين يتعذر ذلك، فإن الولايات المتحدة لا يهمها تراث العراق ولا آفاقه التنموية، ولربما تقرّ تقسيم العراق فعلا، بل قد تتقاسمه حتى مع إيران، وذلك عندما يفرض الصراع السياسي والعسكري عليها توازن قوة مع إيران. وفي هذه الحالة ستفتش أمريكا عن عميل عراقي يقبل بهذه المهمة. وفي كل الأحوال، من الصعب من الآن التكهن بأية خسارة إستراتيجية محتملة للولايات المتحدة، أو وصول إيران إلى حالة توازن قوة معها ! !

(ب) إن قيام الفدراليات، وخصوصا الجنوبية أو الوسطية ستصب لصالح اللاعب الثاني، إيران، فقط عندما يتمكن من الوصول إلى حالة توازن في الصراعين السياسي والعسكري مع الولايات المتحدة. ولكن المعطيات الحاضرة تشير إلى استحالة تحقيق إيران لأي تعادل وبالتالي تفاهم مع الولايات المتحدة؛ فإنها ستهزم من خلال مشروعها النووي وتطلعاتها التوسعية الأقليمية الخطرة في أهم منطقة بترولية في العالم. إن الصراع من أجل الطاقة الحيوية لا يتحمل وجود لاعب إقليمي مؤثر أو معرقل مثل إيران! وإلا فلماذا أزيح صدام حسين؟ ! إن هزيمة إيران المحتملة خلال السنوات القادمة ستودي بحلفائها الفدراليين الشيعة أيضا.

(ج) أما بقية اللاعبين من فلول النظام القديم وأنصارهم السنة، وسورية، والسلفيين. فإن تحالفهم سيتفكك بشدة؛ بل إنه الآن يتفكك بدخول السنة للعبة السياسية، وسورية ستضطر للإنكفاء الذاتي لتسويف إنهيار نظامها السياسي المحاصر الآن من كل جانب. ويبقى الكرد يقلبون أمرهم بكل ما تراكم لديهم من مرارات الهزائم والتحالفات والمعارك السالفة، وسوف يصلون إلى قرار بأن لا حماية لهم إلا من قبل الولايات المتحدة، وبدونها ستجتاحهم تركيا مع أو بدون إيران؛ وسوف يصلون إلى قناعة بأنهم بدون العراق سوف لا يستطيعون أن يبيعوا حتى رأس بصل واحد. وعليهم حساب ما سيخسرون إذا ظلوا متحمسين لقيام فدراليات ضعيفة ومتقاتلة، لأن عيشهم بل وجودهم سيصبح في خطر كبير. وهكذا فإن النصر الكردي كي يحافظ على مكاسبه الحالية سيربط توافقاته وسياساته بخيارات الولايات المتحدة. وسينتظر نتائج مشروعها الديمقراطي، لعلّ وعسى تقرّ لهم نشوء دولة كردية بشكل ما في يوم ما ! ؟ أما اللاعب الأخير فهم أنصار وفلول النظام الصدامي المهزوم؛ فلعلّنا سنشهد معجزة حين يعيدهم الأمريكان للسلطة؛ لأن ذلك سيحصل فقط حينما يهزم الأمريكان فعلا عسكريا في الساحة العراقية؛ وهذا احتمال يبدو الآن أقرب الى المعجزة ! !

المخارج من هوس الفدراليات:
ولعلّه مخرج واحد وهو تبني الواقعية السياسية؛ وعدم التنظير في غيبيات ورسم صور وردية قد تنم عن سذاجة سياسية. فنجاح العملية السياسية هو شرط أساسي لإعادة بناء العراق على أسس وهيكلية ديمقراطية، وفقا لنظام تكافؤ الفرص ونبذ الطروحات الطائفية والمراهنة على قوى خارجية، وإنهاء فوضى المليشيات والعسكرة الطائفية. فالعراق للعراقيين، والعراق مهد الحضارات وذو انتماء عربي إنساني، (وهو حين يضم عناصر غير عربية فهذه لها كل الحق بالبقاء أو الإنفصال أو الإتحاد بوعي وخيار واضح وعلى أساس المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير). عندها يمكن أن يجلس الفرقاء ليقولوا ويتناقشوا عن أفضل النظم الإتحادية والإدارية للحفاظ على وحدة العراق وحسن استغلال موارده، ولقمع الإرهاصات الطائفية والفئوية والمذهبية والأثنية. وللوصول الى أفضل صياغة إدارية للوطن العراقي، فالمهم هو ليس التسمية، أفدرالية هي أم نظام لامركزي موسّع؟ المهم هو كيفية توزيع السلطات والموارد. لقد رأينا إن بعض الفدراليات قد تكون أقرب الى اللامركزية،وبعض نظم اللامركزية قد تكزن أوسع من بعض الفدراليات ؛ أي أن تتمتع المحافظات العراقية. بما فيها محافظات كردستان العراق ولكن بصورة أوسع قليلا، بكافة الصلاحيات والسلطات لإصدار تشريعات محلية، ولإدارة التعليم والصحة والشرطة ولفرض ضرائب محلية ولإدارة مشاريع موردية محلية، وغير ذلك، فماذا يريد سكان المحافظات من شيعة وسنة وأطياف أخرى غير ذلك، للحفاظ على عراقيتهم موحدة، وعلى عراقهم الحضاري واحد موحدا ويرفل بأسباب التقدم والنماء.

ثمة ملاحظة أخيرا وهي أن إن هذا الكاتب يستغرب أحيانا دعوة الشيعة والكرد لإقامة دويلات ( سمّها فدراليات إن شئت ) في الوقت الذي يحكمون فيه العراق الدولة الأكبر وزنا ومواردا والتي لها أدوارا فاعلة على الساحات العربية والإقليمية وفي المستقبل الدولية؛ فلماذا الإنكفاء الى الهامشية؟ لست أدري!؟





*
مستشار سابق في الأمم المتحدة


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter