|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس 27/10/ 2011                                د. جاسم الصفار                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

الإشتراكية والديمقراطية

د. جاسم ألصفار *

في صحيفة الحزب الشيوعي العراقي (طريق الشعب) الصادرة بتاريخ 9 آب 2011 م، نشرت مدخلاً لهذه المقالة تحت عنوان "تأملات في الديمقراطية" أشرت فيها إلى الممارسات الإستباحية لآليات النظام الديمقراطي الرأسمالي ونسخه البائسة في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث. ونظرآ لأهمية ألموضوع، خاصة بالنسبة للتيارات اليسارية التي تؤمن بالنضال الديمقراطي وآليته الأهم (الإقتراع العام) كوسيلة أنجع للوصول إلى مجتمع العدالة والإشتراكية، رأيت ضرورة إستكمال الموضوعات التي وردت في المدخل وإضافة إستنتاجات لابد منها مع إعادة هيكلة الأفكار والبيانات التي سيقت فيه.

بدايةً يجب أن نقر بأن ألإنهيار ألمدوي للتجربة ألسوفيتية في بناء ألإشتراكية دفع ألعديد من ألماركسيين أللينينيين ألمؤمنين بتلك ألتجربة إلى ألعودة إلى منابع ألفكر ألإنساني ألذي من رحمه ولدت ألمنظومة ألفكرية ألمبدعة لماركس وإنجلس وألإقرار بأن ألإسلوب ألأفضل لإدارة ألدولة في عالمنا ألمعاصر هو ألديمقراطية ألقائمة على حق ألإقتراع ألعام. على أن هذا لا يعني بألتأكيد أن ألسماء صافية هنا تمامآ وأن لا غبار على ما هو سائد من آليات لممارسة ألديمقراطية. ففي عالمنا ألمعاصر منذ ألفترة ألتي سبقت ألحرب ألعالمية ألثانية، لم تكن نتائج ألإقتراع ألعام في أحيان كثيرة تعبيرآ واعيآ ومسئولآ عن إرادة ألأغلبية. فتلك ألأغلبية غير المبالية وألمغلوب على أمرها لا تؤمن في حدود مستواها ألمعرفي ألسياسي، بأن ممارستها لحق ألإقتراع ألعام يفضي بها إلى صناعة مستقبلها ألذي تطمح إليه. وهي بألتالي سهلة ألإذعان لآليات ألتطويع وألتضليل ألمسلطة عليها من قبل ألقوى ألمتنفذة في ألمجتمعات ألرأسمالية أو تلك ألمتجهة صوب ألرأسمالية، ما لم تتحصن بألمناعة ألمكتسبة عبر تجارب مريرة أو بمواكبتها لفعاليات إجتماعية تنظمها قوى وتيارات إشتراكية ديمقراطية.

وبألتالي فأن على ألإشتراكيون ألديمقراطيون وألشيوعيون أن يعيدوا وفقآ لذلك صياغة برامجهم مدركين بأن إنجاز أي تغيير ذا أهمية في ألنظام ألإقتصادي ألإجتماعي ألرأسمالي نحو ألعدالة ألإجتماعية ستكون مهمة شاقة ولن تتحقق ما لم تتظافرجهودهم وتتسع قاعدة تحالفاتهم من أجل خلق أغلبية نوعية واعية تدرك أن آليات ألعملية ألديمقراطية لن تعمل لصالحها ولن تحقق لها مطاليبها دون مساهمتها في عملية ألتغيير بإستخدامها ألهادف لحقها في ألإقتراع ألعام. ويتعين على رموز وقوى أليسار ألديمقراطي وحلفائهم خوض غمار نضال يومي صبور بأساليب ورؤى جديدة تدفع بأوسع فئات وشرائح ألمجتمع ألعراقي (وخاصة ألفئات ألكادحة وألمقهورة وألمهمشة منه) إلى ألتخلص من فكرة ألتغيير ألآتي من خارجها ودون مشاركتها، وذلك عبر ألإنقلابات ألمسلحة وألثورات ألتي يجري ألإعداد لها في ألظلام، وتوجيهها صوب مسار تاريخي تجري صيرورته بألإختيارألحر وألواعي لبرامج ألتغيير ألإقتصادي ألإجتماعي وآليات إنجازها قبل وبعد صناديق ألإقتراع في إطار ألعملية ألديمقراطية. عدا ذلك فإن أمثلة ألتاريخ تشير إلى إمكانية تجيير هذا ألحق لصالح أقلية متنفذة تتحكم في مصادر ألثروة ووسائل ألإعلام.

ففي عام 1925 صوّت الشعب الإيطالي وبأغلبية كبيرة لصالح الفاشية وموسوليني، ثم وبإرادة أغلبية الشعب الألماني عبر الإقتراع العام، إستحوذت النازية وهتلر على السلطة عام 1933. في الحالتين كان هناك فزع برجوازي من أخطار الثورة البلشفية في روسيا من جهة والهيمنة المطردة لبعض دول أوربا ألغربية وأمريكا على ألسوق ألعالمية من جهة أخرى. يقابل ذلك تفتت ألقوى ألإشتراكية وألديمقراطية وهزال مبادراتها ألجماهيرية، وبروز قادة قوميين طموحين كارزميين إستفاد منهم ودعمهم ألمستثمرون في مجال ألتصنيع ألعسكري بألتحالف مع ألجهاز ألبيروقراطي للدولة في صياغة أغلبية إنتخابية مكنتها من تحقيق أهدافها.

يرى بعض ألمتابعون للشأن ألإسرائيلي أن ألإسرائيليون يصوّتون في ألإنتخابات تبعآ لحجم ألتهديدات ألخارجية ألتي تواجهها دولة إسرائيل. على أن ألواقع يشير إلى معطيات أخرى معاكسة فشعب إسرائيل يصوت عادةً لصالح أليمين ألمتطرف، بألذات في تلك ألمراحل ألتاريخية ألتي لا يشكل فيها اعداء إسرائيل اي تهديد حقيقي للدولة ألعبرية!! ألمتابع لخطب ليبرمان (وزير خارجية إسرائيل) قبل ألإنتخابات ألأخيرة في إسرائيل، يلاحظ يقينآ بأن ليبرمان لم يستخدم فزاعة ألخطر ألعربي أو ألفلسطيني ألذي ما عاد يهدد أمن إسرائيل بل كان يخاطب جمهوره من ألمستوطنين ألجدد ألقادمين في جلهم من جمهوريات ألإتحاد ألسوفيتي ألسابق منبهآ إلى أن إعادة أراضي إلى ألفلسطينيين ثمنآ للسلام يضر بمصالحهم بألدرجة ألأولى. ألقضية ببساطة هي أنه ليس من مصلحة ألمستثمرين ألإسرائيليين في ألصناعات ألحربية اي بوادر للشروع في عملية ألسلام مع ألجيران ألعرب أو ألفلسطينيين، وليبرمان هو ورقتهم ألرابحة في لعبة ألإنتخابات"ألديمقراطية". علمآ بأن ألتسليح ألعسكري في إسرائيل جعلها في مصاف ألدول ألمصدرة للسلاح وألتي لا تستطيع جيوش عضوة في ألناتو وأخرى مثل روسيا وأوكرانيا ألإستغناء عن تجهيز قواتها بأصناف منها!!

أما في ألدول ألمتخلفة إقتصاديآ-إجتماعيآ وسياسيآ فقد أفضى إستنساخ آليات ألديمقراطية ألرأسمالية إلى نتائج بائسة. فمنذ نهاية ألنصف ألأول من ألقرن ألماضي، نالت أغلب ألدول ألأفريقية إستقلالها معلنة إعتماد ألديمقراطية أساسآ لنظام حكمها ألسياسي ألجديد وتعهدت بإحترام حق ألإقتراع ألعام لشعوبها، فماذا كانت ألنتيجة؟ تقهقرت فكرة ألإنتماء للوطن لصالح ألإنتماء ألقبلي وألديني وأصبحت ألإنتخابات فرصة ليجدد سكان هذه ألبلدان ألبائسة تمترسهم خلف ألقبيلة وألدين مجيرين حقهم في ألإقتراع ألعام لشخصيات لا تملك غير ألكارزما. بعض من ألمرشحين لمراكز قيادية في ألدولة كان ينحر قرابين إنسانية في فترة ألإنتخابات للحصول على دعم ألالهة(كما في سيراليون وألغابون، حسب تقارير شرطة هذين ألبلدين) !!

في عدد من ألبلدان ألعربية كمصر وتونس وأليمن وغيرها يجري إنتخاب رأس ألدولة وأعضاء مجلس ألنواب أو ألشعب عبر ألإقتراع ألعام ألذي يفوز فيه عادة ولدورات إنتخابية لا حصر لها ألرئيس ألفاعل مهما بلغ من ألعمر عتيا وحزبه ألقائد ألميمون. يسهل إرجاع نتائج هذه ألإنتخابات إلى ألتزوير، ألذي هو قائم بألفعل، ولكنه برأي ألعديد من ألمراقبين يمس نسبة ألفوز وليس ألفوز ذاته.

خداع ألناخبين وتجيير أصواتهم أصبح في لعبة ألديمقراطية وألإقتراع ألعام فن وخبرة تجيدها مؤسسات متخصصة يجري إستئجارها فترة ألإنتخابات لقاء مبالغ طائلة، كما أن خوض ألعملية ألإنتخابية بذاتها سواء بسيناريوهات تلك ألمؤسسات أو بدونها تتطلب أرصدة مالية هائلة للتأثير في وعي ألناس وإرادتهم، لا تملكها غالبآ ألشخصيات أو ألأحزاب غير ألمدعومة من ألمؤسسات ألمالية. ففي هولندا مثلآ، إستأجر قائد أكثر ألأحزاب يمينية- خيرت فلدرز – لإدارة حملته ألإنتخابية، خبراء أمريكيين من ألذين ساهمو في حملة أوباما ألإنتخابية. وأذكر أنه في مقابلة صحفية مع غليب بافلوفسكي رئيس ألمؤسسة ألإنتخابية ألتي أتت ببوتن (ألذي لم يكن معروفآ وقتهأ) إلى رئاسة روسيا عام 2000م، أنه قادر على أن يصنع من أي كان رئيسآ للدولة ألروسية (
إذا دفع أكثر- ألإضافة ألمنطقية مني)!!! حينها أدرك بوتن دور ألمؤسسات ألمالية في ألتحكم بأي من حلقات ألعملية ألسياسية في روسيا، فسعى منذ بداية حكمه إلى تحييد جهاز ألدولة بعيدآ عن تأثير ألمؤسسات ألمالية وشن حملة شعواء على تلك ألتي لم تذعن لسياسته هذه، كشركة يوكس ألنفطية ألعملاقة برئاسة خدركوفسكي وأكبر شركات إنتاج ألنيكل في روسيا برئاسة بيكوف ولم يستثني رجل ألأعمال ألمعروف بيريزوفسكي ألذي أجزى في دعمه ألمالي لبوتن فترة ألإنتخابات.

ألديمقراطية بأنظمتها وآلياتها ألمعروفة ليست نظامآ مثاليآ غير خاضع للصيرورة وألتطور ولكنها تبقى حتى يومنا هذا، ألنظام ألأفضل وألأكثر عدالة ولم يغير في ذلك ممارسات إستباحة آلياتها من قبل بعض ألقوى ألمحافظة أليمينية وألظلامية ألسلفية ألمتنفذة. ورغم ما يتوفر عادة لهذه ألقوى من إمكانيات هائلة على ألصعيدين ألمالي وألإداري فإن ذلك لم يثني ألإشتراكيون أو ألشيوعيون عن ألمشاركة في ألعملية ألديمقراطية لبلوغ أهدافهم ألتي هي أهداف إنسانية بألدرجة ألأولى، ففي فرنسا وإيطاليا وألبرتغال ودول أوربية أخرى حقق ألإشتراكيون ألديمقراطيون وألشيوعيون نجاحات إنتخابية باهرة في أواسط سبعينات ألقرن ألمنصرم. وخلافآ لتوقعات ألمراقبين فقد حققت قوى وأحزاب أليسار ألإشتراكي وألماركسيون أللينينيون نجاحات ملموسة وحاسمة في ألإنتخابات ألبرلمانية ورئاسة ألدولة في روسيا ومولدافيا وأوكرانيا وألمجر وغيرها، رغم ألهزيمة ألمرة للتجربة ألإشتراكية هناك وإنحسار تأثير ألأفكار ألإشتراكية فيها. ثم أن ألنجاحات ألتي حققتها قوى أليسار في دول أمريكا أللاتينية تمت عبر صناديق ألإقتراع وبنفس آليات ألعملية ألديمقراطية ألسائدة، كما أن ألإصلاحات ألإقتصادية وألإجتماعية، في هذه ألدول، تمت كذلك وفقآ للأصول وألتشريعات ألديمقراطية.

وبألمقابل لم يفلح ألليبراليون ولا ألتيارات أليمينية ألمتطرفة من تحقيق أية نجاحات ذات شأن في ألعديد من ألبلدان ألتي يمارس فيها حق ألإقتراع ألعام ففي روسيا مثلآ، رغم ألإمكانيات ألمادية ألهائلة للقوى ألليبرالية ألجديدة فإنها قد أصيبت بإنتكاسات مزمنة منذ نهاية تسعينات ألقرن ألماضي بحيث خلا ألبرلمان ألروسي من أي من رموز ألليبرالية ألجديدة. ومن ألطريف أن مثقفي ألليبرالية ألروسية ألمهزومة أصبحوا يتضايقون من حق ألإقتراع ألعام ويبحثون في آلياته عن أسباب هزائمهم، مما دفعهم إلى ألمطالبة بنزع هذا ألحق عن ألفقراء. ولتسويق هذا ألفهم ألإقصائي ألجديد لحق ألإقتراع ألعام، لم يتوانى رموز ألإنتليجينسيا ألليبرالية ألروسية ألمعاصرة عن سوق أمثلة منتقاة من ألتاريخ، يكتشفون فيها أن ألدولة ألسومرية في بلاد ما بين ألنهرين، لم تمنح هذا ألحق إلا للمقاتلين ألذين يحملون ألسلاح دفاعآ عن دولتهم. كما أن أمريكا رغم ما جاء في وثيقة ألإستقلال من تأكيد على حقوق مواطنيها، إستثني فيها من ممارسة هذا ألحق ألسود وألنساء وألفقراء إلى أن أدخل روزفلت تعديلاته في ما سمي ب(ألمسار ألجديد)!!!

إحترام آليات ألعملية ألديمقراطية وحق ألإقتراع ألعام هي ألحد ألأدنى ألذي يجب ألتوافق عليه كمنظم أساسي للحياة ألسياسية في عالمنا ألمعاصر. هذا مع إيماننا ألراسخ بأن ألمواقف ألسياسية لفئات ألمجتمع ألمختلفة تظل في حالة صيرورة دائمة تتفاعل مع كل ألمؤثرات ألداخلية وألخارجية، وأنه ليست هناك أغلبية ثابتة حتى في حدود فترة زمنية قصيرة. في أوكرانيا مثلآ فاز ألرئيس ألسابق كوجمه على غريمه يوشينكه في إنتخابات ألدور ألثاني بداية ألقرن ألحالي إلا أنه بعد إجراء إنتخابات ألإعادة تحت ضغط ما بات يعرف بألثورة ألبرتقالية، كانت ألنتيجة لصالح يوشينكه!!!

ختامآ، لاباس من ألتذكير بأن خيارات ألإشتراكيون ألديمقراطيون وألشيوعيون في ألمرحلة ألحالية هي ألتمهيد للإنتقال إلى ألإشتراكية في مسار تاريخي قد يطول وقد يقصر، يمر بعملية تطوير للنظام ألإقتصادي ألإجتماعي وألسياسي ألرأسمالي، بحيث يكتسب فيه جهاز ألدولة شيئآ فشيئآ حياديته ومهنيته ويتحول إلى جهاز رقابي وخدمي يضمن تنفيذ ألمكتسبات ألتاريخية في تحقيق ألعدالة ألإجتماعية وتقليص ألهوة بين ألفقراء وألأغنياء.

لن تولد ألإشتراكية من رحم ألنظام ألرأسمالي دون إرادة غالبية ألمجتمع، هذا هو حجر ألأساس في دراسات ماركس ألإقتصادية!!! فهل من يتعظ ؟؟؟
 



* مدير مركز تطوير وأبحاث - روسيا ألإتحادية
 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter