|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأربعاء 18/4/ 2012                                د. جاسم الصفار                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

 قراءة هادئة للوضع في سوريا

د. جاسم الصفار *
Jaaltimimi5@gmail.com

في الفترة الأخيرة إطلعت على كتابات ليساريين عراقيين، مؤيدة لما أطلقوا عليه (إنتفاضة الشعب السوري). بعض هذه الكتابات نشرت في الصحافة العراقية اليسارية وبعضها في المواقع الألكترونية. ومع أن أقلام اليسار العراقي هي غالبآ منتقدة لهذه "الانتفاضة" التي تقودها معارضة الخارج، ولها في ذلك حججها، إلا أن وجود آراء أخرى ولو مناقضة في ذات الصف اليساري، ليس لها إلا أن تثري الحوار في هذا الشأن وتعزز نهجآ أصيلآ في الماركسية، نشأ منذ نشوئها وإستمر حتى بداية القرن الماضي.

ولنبدأ بتفكيك الحدث السوري إنطلاقآ من التعريف باطرافه وشبكة تحلفاتهم، ليكون من السهل بعدها تشخيص مواقف وأهداف هذه الأطراف. فمن جهة يقف النظام السوري اللاديمقراطي بأجهزته القمعية والاستبدادية، الموغلة في البيروقراطية والفساد. يسوّق هذا النظام نفسه كنظام ممانعة معادي لاسرائيل وغير متصالح مع المشاريع الجيوسياسية الأمريكية في المنطقة، كما أنه يعرض نفسه أيضآ كنظام علماني و "إشتراكي" و"تقدمي". هذه وغيرها من الصفات التي قد تتطابق جزئيا مع طبيعة هذا النظام، كانت هي الأساس في تميزه وديمومته وأخيرآ، تموضعه في منظومة تحالفات داخلية وخارجية مبنية على سياسة براغماتية صرفة. ولو تجاوزنا تحالفات النظام البعثي الداخلية، التي لا يوليها النظام ذاته أهمية كبيرة، فان تحالفاته الاقليمية وخاصة مع إيران وحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية، وكذلك علاقاته الدولية المتميزة مع روسيا والصين خاصة تجعله لاعبآ هامآ، وإن لم يكن فعالآ، في تحديد مسارات برامج ومخططات التغيير الجيوسياسي في المنطقة.

أمريكا، ومنذ عشر سنوات خلت، على وجه التقريب تخطط لتغييرات حاسمة في الجغرافيا السياسية للمنطقة، ضمن ما أصبح معروفآ بمشروع الشرق الاوسط الجديد، الذي يفترض تحويل الصراع، بكافة أشكاله، من صراع عربي - إسرائيلي إلى عربي - إيراني، تضطلع فيه الرجعية العربية والقوى السياسية الممالئة لها بدور محوري، يبدأ بتسعير الخلاف الطائفي وتصفية بؤر العداء للدولة العبرية في المنطقة والمتمثلة بالمقاومة اللبنانية والفلسطينية إضافة إلى سوريا. هذا المشروع الذي يحظى بدعم أمريكي إسرائيلي يقدر له أن يفضي إلى تطبيع كامل مع إسرائيل، تقره وتنفذه حكومات عربية جديدة أكثر طواعية لارادة أمريكا وأصدقائها الستراتيجيين في المنطقة كالعربية السعودية وقطر.

الارتباط الستراتيجي والتاريخي بين أمريكا والدولة العبرية لا يتوقف عند حدود توفير الأمن والأمان لاسرائيل، فالمصالح الأمريكية تبقى في صدارة جميع مشاريع التغيير الجيوسياسية في المنطقة. ويدرك ذلك جيدآ اللاعبين الكبار في العالم كروسيا والصين. فالتمدد الأمريكي في المنطقة هو بالدرجة الاولى للاستحواذ على مفاتيح التحكم في المنظومات الاقتصادية والسياسية والعسكرية في المنطقة، وبالتالي التأثير في المصالح الاقتصادية للأقطاب الدولية الأخرى، كروسيا والصين، من أجل تثبيت وديمومة نظام القطب الواحد. ولو إستثنينا جدلآ جميع عناصر هذه المنظومات ذات الأهمية الحيوية لأمريكا كزعيمة للاستقطاب المهيمن على العالم لحد الآن، فان مصادر الطاقة وسبل تسويقها لأوربا يجعل نظام الاستقطاب العالمي على المحك. وفي لعبة الامساك بمقدرات دول وشعوب المنطقة، يصطف المستفيدون من نجاح هذه اللعبة (إن قدر لها أن تنجح)، وعلى رأسهم تركيا وإسرائيل والرجعيات العربية، في تحاف براغماتي يهدف لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ما هو موقعنا نحن كاشتراكيين أو حتى كوطنيين تقدميين من هذه اللعبة ؟ وللاجابة على هذا السؤال يجب أن نجيب أولآ على أسئلة آخرى: لمصلحة من بقاء وديمومة نظام القطب الواحد، الذي تهيمن فيه أمريكا على مقدرات شعوب الأرض؟ أليس في وجود هذا النظام الدولي إنتقاصآ لحرية شعوب ودول العالم وتحديدآ لاستقلاليتها في إتخاذ قراراتها سواء في الشأن الوطني أو الشئون الاقليمية أو الدولية؟ وهل سيكون من الممكن والواقعي، في هذه الحالة، إنشاء أنظمة ديمقراطية تسمح بالتغيير الاقتصادي الاجتماعي لصالح فئات وطبقات المجتمع الطليعية، كما يطمح لذلك أصدفاؤنا الكتاب والمناضلون اليساريون ألذين أتيت على ذكرهم في بداية هذه المقالة المتواضعة؟ الاجابة على هذه الأسئلة وغيرها تفترض بالدرجة الأولى وجود "مبادئ" والأهم من ذلك هو الانتماء لهذه "المبادئ".

وأخيرآ، فمن هي القوى السورية التي تقود عملية التمرد ألآن، والتي يقدر لها الامساك بمقاليد الحكم في حالة تغيير النظام وفقآ للسيناريو الأمريكي - التركي - العربي الرجعي، المبارك إسرائيليآ ؟ ولكي لا نضلل أنفسنا والاخرين، يجب أن نتجنب أوهام تصف حركة التمرد التي يقودها مجلس إسطنبول على أنها "حركة شعبية" بزغت "بذاتها" من "العمق السوري"، متوجسة "نبض الشارع" (!!!)، فلا بأس من إستعراض تاريخي سريع لبداية الاحداث. ومن المعلوم أن البداية كانت باطلاق الدعوات عبر الانترنيت، تكرارآ للسيناريو المصري، للتجمع والتظاهر، ولكنها لم تأتي بأي نتيجة ولم يخرج للشارع في موعدين متتاليين حتى متضاهر واحد. عندها تقرر اللعب على المكشوف، بادارة حملة إعلامية مكثفة ضد النظام السوري، مستغلة لحادثة إعتقال مجموعة من الأطفال الذين دفعوا للكتابة على الجدران، ويا لها من سادية يشرك فيها الأطفال في لعبة كهذه. تبعها خروج المتظاهرين في 18 آذار. وقد طغت على جميع المظاهرات منذ البداية الشعارات السياسية والطائفية والدينية المنددة بالمسيحيين والشيعة والعلويين، وكتحصيل حاصل، التوعد والشتيمة لايران وحزب ألله و"عملاء" إيران في العراق. وفي حمى الشعارات العدوانية، لم يأت ذكر للمطالب الشعبية أو الخدمية. كما أن السلاح قد رفع من قبل منظمي التظاهرات منذ اليوم الأول للتظاهر، حيث سقط يومها مدني واحد و25 رجل أمن. وتتواصل الأحداث المأساوية في سوريا متناسقة مع التدخلات الاقليمية السافرة. فقبل أن يتحرك الجيش النظامي السوري لاستعادة جسر الشغور من المتمردين، وقبل أن تبدأ حركة اللجوء إلى خارج سوريا، شرعت تركيا في نصب معسكرات للاجئين السوريين على أراضيها. ثم وبعد أن فشل المخطط التركي في زعزعة الاستقرار في المناطق السورية المحاذية لحدودها وإنتزاعها من سيطرة النظام السوري، بادرت قطر في تأسيس مجلس إنتقالي سوري على غرار المجلس الانتقالي الليبي. ومن المفارقات التي تناقلتها وكالات الأنباء حينها، هو أن تعيين برهان غليون رئيسآ للمجلس الانتقالي كان قد تم دون علمه في البداية ثم جرى "التفاهم" معه فيما بعد من قبل القطريين.

القوة الأساسية التي تقف وراء حركة الاحتجاج السورية ، وذراعها التنفيذي والعسكري الضارب، هي حركة الاخوان المسلمين والتيارات السلفية السورية. ولا يغير من هذا الواقع شيئآ، أن يرصع المجلس الانتقالي بشخصيات علمانية لا حول لها ولا قوة، يسهل التخلص منها بعد إستلام السلطة كما حصل تمامآ في ليبيا. وقد كان المجلس الانتقالي منذ تأسيسه عرضة للتناحر الداخلي والانقسام الذي كان سببه الرئيسي فضاضة التيار السلفي الذي لم يراعي ضرورات التقيد بشعارات مشتركة للمجلس وفضل عليها شعارات مثيرة للفتنة الدينية والطائفية. عدا الاخوان المسلمين والسلفيين، هناك حضور للقاعدة ومتطوعين من بلدان مختلفة يقاتلون على الأرض السورية، وأعتقد أن أي متابع للشأن السوري قد إستمع لتصريحات رئيس الوزراء الليبي والتي يعترف فيها بوجود متطوعين ليبيين في سوريا، كما أن النداء الذي وجهه أيمن الظواهري كان واضحآ ولا لبس فيه.

لا ريب في أن هذه التيارات المهيمنة على حركة الاحتجاج في سوريا والرجعيات العربية الداعمة لها، ليست مؤمنة وغير معنية أساسآ بالديمقراطية وغير مؤهلة لا عقائديآ ولا سياسيآ لبناء نظام يقوم على أساس إحترام الحريات الشخصية. يسخر الكاتب ستيفن كوانز من أن يضع الخليجيون أنفسهم في جبهة واحدة مع"المناضلين من أجل الديمقراطية" في سوريا، ويشبه دعواتهم هذه بتلك التي كانت تجاهر بها (الوول ستريت جورنال) في توصيفها لنقابة التضامن البولونية في الحقبة الاشتراكية بأنها "الوجه الحقيقي للاشتراكية في بولونيا"، هذا مع أن (الوول ستريت جورنال) لم يكن ليقدم أي دعم إعلامي للتضامن لولا إدراكه بأن سياسة التضامن تقوم بالأساس على معاداة الاشتراكية.

وختامآ، أستذكر كلمات قرأتها منذ أربعة عقود؛ ماذا يجمع بين رأس السمكة المتفسخة الجائفة، وبين ذنبها....وبين زعانفها....وأحشائها...الجيفة...الجيفة بلا ريب وبلا حيرة.. أما الذين لا يشمون أو الذين يضعون البهارات والتوابل على السمكة المتفسخة، فلقاؤنا معهم بعد الأكل...ورب قيئ لا يفيد ولا ينقذ من التسمم.
 



* مدير مركز تطوير وأبحاث - روسيا ألإتحادية
 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter