|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة 13/4/ 2012                                د. جاسم الصفار                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 


 

 الذاكرة والتوبة

د. جاسم ألصفار *
Jaaltimimi5@gmail.com

كان ذلك على ما أذكر في صيف عام 1989، كنت عائدآ إلى موسكو في إجازة من مكان عملي في ليبيا، وقد كانت ألأجواء هنا مشحونة سياسيآ يرافقها ململة وسكون يسبق ألعاصفة وحالة من ألترقب ألحذر لمسار تطور مشروع ألبيرسترويكا ألغرباجوفي. ومع أن مكان إقامتي في روسيا ليس ألعاصمة، بل مدينة صغيرة تبعد عن موسكو 140 كم، فقد قررت ألمكوث بعض ألوقت في ألعاصمة ليتسنى لي ألتعرف على ألوضع عن كثب وألمشاركة في ألفعاليات وألأنشطة ألثقافية وألاعلامية ألتي تنظم في موسكو.

الكتابة عن تلك ألفترة ألتي سبقت إنهيار ألاتحاد ألسوفيتي سأتركها إلى فرصة أخرى، وسأتوقف هنا عند موضوعة أثارت إهتمامي كثيرآ في ذلك ألوقت. وهي، ما ألذي يدفع ألناس هنا نحو ألتغيير، دون أي وقفة تأمل في ألبديل؟ إنه ألخوف من ألعودة عن ألتغيير كما حصل في زمن غير بعيد، أزيح فيه داعية ألتغيير نيكيتا خروشوف عن سدة ألحكم. ألخوف من ألردة هو ألذي حول كل ألمناسبات ألاجتماعية في ألعاصمة ألسوفيتية إلى منابر لشحذ ألهمم وإعادة شحن ألذات وشحن ألاخرين وألاندفاع نحو ألتغيير ككتلة شعبية عمياء، تتحرك كما أصبح يعرف فيما بعد (بوحي القلب).

ألمضي بوحي ألقلب، وألذي أصبح شعارآ إنتخابيآ للليبراليين ألروس في أواسط تسعينات ألقرن ألماضي، كان ألسبيل ألأمضى لخداع ألجماهير ألروسية وخلط ألأوراق أمامها. فبدل ألسعي لتشييد أساس ديمقراطي يصحح تجربتهم ألاشتراكية، دفعوا بوحي ألقلب (وليس ألعقل) نحو تقويض نظامهم ألاقتصادي ألاجتماعي، قبل بناء ألأسس ألسليمة وألراسخة للنظام ألسياسي في روسيا وألذي كان نتيجته قصف ألبرلمان بألمدافع.....وعلى أي حال فهذا موضوع آخر.

في تلك ألأيام ألتاريخية، إقترح علي أحد ألأصدقاء ألقدامى زيارة واحدة من صالات ألعرض لمشاهدة فلم (ألتوبة)، وهو عبارة عن دراما للمخرج ألجورجي تنكيز أبولادزة. ومع أن تاريخ تصوير ألفلم (1984) قد سبق ألبيرسترويكا بعض ألوقت، إلا أن عرضه في تلك ألفترة جعله واحدة من ألفعاليات ألثقافية ألمحرضة على ألتغيير باعادته لصقل مفاهيم إنسانية قديمة قدم ألانسان عن ألخير وألشر وألشرف وألضمير......

أحداث هذا ألفلم وكأنها خارج ألزمن، مع إيحاء باهت بأنها في ثلاثينات ألقرن ألماضي. تبدأ أحداث ألفلم بمراسيم وفاة ودفن دكتاتور يجد ألمشاهد في شكله ملامح هتلر وموسوليني وستالين وبيريه (رئيس ألكي جي بي في ألحقبة ألستالينية). وبعد إتمام مراسيم ألدفن وألتوديع، يستيقض إبنه في صباح أليوم ألتالي ليجد جثة أبيه في حديقة ألبيت. تعيد ألأسرة عملية ألدفن من جديد، ولكنهم يتفاجئون بتكرار نفس ألظاهرة في صباح أليوم ألتالي. وبعد بحث وترصد يلقى ألقبض على أمرأة، كانت تقوم بمفردها بنبش ألقبر وإنتزاع ألجثة ثم سحبها إلى حديقة بيته.

وأثناء محاكمتها يتبين أنها كانت واحدة من ضحايا ألدكتاتور ألذي قضى على والديها منذ طفولتها، فقررت ألانتقام لأبويها بهذه ألطريقة أللتي ترتقي في بشاعتها إلى مستوى جريمة ألاضطهاد نفسها. وفي ألمحكمة بررت ألمتهمة فعلها بأن ألدكتاتور يجب أن لا يتوارى عن أنظار ألناس وأن لا يغيب منسيآ في باطن ألأرض. ولكي لا تقوم للدكتاتورية قائمة، يجب أن تحفر صورتها في ذاكرتنا.

فألضحية ألتي يغيب عنها جلادها وتنساه تكون عرضة لتكرار ظاهرة ألجلد، خاصة عندما تكون هناك أجيال قد تطبعت على نمط حياة منظم بآليات دكتاتورية. كما أن آلة ألقمع لها مؤسساتها وأزلامها ومفكريها وكتابها ومثلها. وإذا نسى شعبنا ألدكتاتور وألمآسي ألتي عانى منها بسببه سيكون متصالحآ مع ظاهرة ألدكتاتورية بل ومنتظرآ لها. إنها ألبيئة ألمناسبة لتوالد ألدكتاتوريات.

لقد إستيقضت في عقلي هذه الأفكار حالما إطلعت على خطاب عزت الدوري الأخير بمناسبة 7 نيسان وتصريحات السياسيين وبعضهم نواب في البرلمان العراقي على خلفية هذا الخطاب والتي كان في بعضها تجنبآ لذكر أي إدانة لممارسات وأفكار البعث بقيادة الدوري. ثم تذكرت زيارتي لبغداد في ربيعي أعوام 2010 و2011 وكيف أن شباب في مقتبل العمر وغيرهم رجال لم يتجاوزوا العقد الرابع كانوا يترحمون على نظام صدام حسين ويذكرون حسناته (!!!) مقارنة بألوضع القائم.

إنها أجراس ألخطر تقرع من جديد لتذكر ألمثقفين ألديمقراطيين ألعراقيين بأن ما يقدمونه من أجل قطع دابر ألردة وعودة ألديكتاتورية ما زال أقل من ألمطلوب. وربما يكون من ألمناسب لهذا ألغرض إنشاء صندوق بمساهمة شعبية وبدعم من ألدولة يقدم كافة ألتسهيلات ألممكنة لاحياء ألفعاليات أثقافية ألمناهضة للدكتاتورية بما فيها ألاصدارات وألنشر وحزمة من ألحوافز ألمشجعة وألتأسيس لجائزة سنوية لهذا الغرض. 



* مدير مركز تطوير وأبحاث - روسيا ألإتحادية
 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter