|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  6  / 6 / 2010                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

درس ( سعودي )

د. جمال العتابي *

لم تتوقف هستيريا العطش لا راقة دماء انصار ومؤيدي الحزب الشيوعي ومناضليه فحسب ، بل امتدت لمساحة اكبر من ذلك... فطالت جمهورا واسعا من المستقلين ومناصري تموز 1958. ورموزا من قادة الحركة الوطنية وامتلات المعتقلات بالاف من ابناء الشعب العراقي بمختلف انتماءاتهم، وفئاتهم .. ومستوياتهم الاجتماعيه والثقافية . اذ كانت السجون تضم خيرة ابناء الشعب من مفكرين ومثقفين واساتذة جامعات ، واطباء ومهندسين وعمال وفلاحين .. وضباط من الجيش العراقي .. وشهدت الاشهر الاولى من عمر الانقلاب تصفيات جسدية خسرت فيها الحركه الوطنية ابرز قادتها ومناضليها يتقد مهم سلام عادل وجمال الحيدري وابو العيس والعبلي وطالب عبد الجبار ، وعبد الجبار وهبي وسجل الشهداء حافل بقائمة طويلة من هذه الاسماء الخالدة .

في الوقت نفسه ، لم تكن بعض الانظمة العربية خالية من مظاهر الاستبداد وخنق الحريات في ذات الفترة التي اجتاحت فيها الريح السوداء ارض العراق .. لكن لابد لكل متابع منصف ، عاش احداث تلك المأساة بكل ابعادها.. ان يعيد لذاكرته مواقف بعض تلك الدول من العراقيين الذين تمكنوا من الافلات من همجية السلطة .. و وحشيتها وبعض هؤلاء (الفارين) أخيار القوم وعلمائه , الذين لا يملكون الاعدتهم ، العقل والكتاب والادب .. والوطنية وسمو الخلق . وشرف الانتماء للعراق . لم ينتموا يوماً ما لحزب اًو طائفة او قومية . بل كان انتماؤهم الاكبر .لعلمهم وللانسان .. فلم يتنازلوا عن هذا الخيار ..فالوطن الذي يطارد النحوي الكبير مهدي المخزومي, والناقد علي جواد الطاهر , او ابراهيم السامرائي , وخالد الجادر التشكيلي البارز .. الوطن الذي استل حكامه سكاكينه الحادة لقطع رؤوس تلك العقول .

يريد ان يبني سجناً اخر بديلا عن هذا الوطن ينتزع في كل مبدع . وكل قلب يحمل حب الحرية والانسانية . فاختارت هذه الكوكبه ارضا لا تجد فيها تهديدا او حقدا .. اذ كانت الظلمة تعتصر العراق ، والوجوه متيسسة ، تعلن الحداد على بلد يستباح ، بطغيان الدم والدمع ، وشد خريف الاسفار قبضته، واستحال الناس غرباء..

فتحت ( السعودية ) ابوابها لتستقبل هذه النخبة من العلماء .. كانت تعرف جيدا تاريخهم العلمي ومنجزهم الفكري . ومكانتهم الاكاديمية في الوسط الثقافي او الجامعي . لم يكن يعنيها .. اسباب هجرتهم واختيارهم المنفى . بل ان الجامعة وفرت كل امكاناتها للافادة من خبرات هؤلاء الاساتذة . مع ان تقارير مخبري السلطة, لم تتوقف من ملاحقتهم . ومن هؤلاء المخبرين من له علاقة مباشرة بالحكومة هناك.. اذا قدم لها النصح بعدم استضافة التدريسين في الجامعة باعتبارهم ( شيوعيين ) هدامين.. فلم تكن ادارة الجامعة السعودية او المسؤولين في الدولة من السذاجة ان يفرطوا بهذه المواهب العملاقه . فكان الرد : انهم يتمنون استقبال عدد اخر من ( الهدامين ) اذا كانوا من نمط الطاهر والمخزومي . الجامعة هنا تجاوزت العقد والامراض التي تشكو منها العقول وتصرفت بمهنية عالية واكاديمية عالية لانها بحاجة حقيقية لهذة الخبرات . فكان لها شرف احتضانهم ورعايتهم لهم بما يليق بهم . هذا الدرس ما زالت ذاكرتي تختزنه بحرص شديد لم يغادرني طيلة عقود من الزمن فيه من العبر والمعاني بما يكشف او يوضح لكثير من اولئك (الجهلة) الذين لا تشكل لديهم الخبرة ، والعقل ، والكفاءة، والنزاهة معنى .. فهناك وجوه كثيرة لا تريد ان تقول للعراق .. وداعاً ، ولن اعود اليك . بل تظل متمسكة به ، حتى وان اًشاح وجهه عنها .. يتطلعون لان ياخذوا دورهم الحقيقي في عملية البناء وادارة مؤسسات البلد وفق تلك المعايير ، بمعانيها الانسانية الواسعة .. لا المقاييس الضيقة .. الميتة التي تفرط او تستهين .. بمبدعي العراق..
 

* كاتب عراقي




 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter