|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  6  / 4 / 2011                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

جيل من الشباب اكتملت تجربته ونضجت في "طريق الشعب"

د.جمال العتابي *

في الفترة المزدهرة من حياة الشباب يبدو كل شيء في الحياة ممكناً، في هذه المرحلة ثمة تدفق في العروق يحمل طاقة الحياة كلها، واكتشافاً للدنيا من جديد، يتجاوز براءة الطفولة، وسذاجة بعض الاشياء التي لا معنى لها، في تلك المرحلة اصبح كل شيء ساخناً حاراً له معنى ودلالة.

وبفعل تلك الدفعات القوية المفاجئة من دفعات الحياة، يبدو المرء في نظر نفسه قادراً على كل شيء، وبذلك تتسع احلامه ومشروعاته، بما تحمله من مفاجآت كذلك، او ربما تتضاءل، وتفقد بريقها اللامع.

احلام السبعينات من القرن الماضي تتسم بحب متوهج بهيج. لعمل كبير وجدنا انفسنا مجموعة من الشباب يجرفنا نحو التفاؤل والحيوية، لا مجال فيه للحزن والاحساس بالكآبة والتعاسة، ودون شعور بلحظة (الصدمة). كنا مستغرقين بالاستمرار والعمل بسر السعادة والحب والتغلب على المصاعب، نكتشف معاني جديدة رحبة في اداء رعيل من السياسيين والصحفيين والمثقفين بظل وارف ينتشر في موقعين، يطل احدهما في ركن قصي على شارع السعدون، اقرب الى ساحة الجندي المجهول (الفردوس)، ويتسع امامه في الصوب الآخر شارع يؤدي الى فضاء ابي نواس المزدان بالخضرة والماء والمقاهي والناس حتى ساعات الليل المتأخرة.

هذا الموقع تشغله جريدة "طريق الشعب" الضاجة بالحركة طوال ساعات النهار، اما الآخر فهو (مطبعة الرواد)، البعيد عن الزحام، والضجيج والاضواء.. لا توحي اشجار الكالبتوس المحيطة به من جهة اليمين والمساحات الخضراء التي نبتت فيها سوى بمشاعر الترقب والقلق. في هذا المكان شيد الصحفي (جوزيف ملكون) مبنى لجريدته (الاخبار) التي كانت في طليعة الصحف التي تصدر ايام العهد الملكي بطراز معماري جميل، يدلل على ذكاء صحفي متميز ومهنية عالية، في زمن كانت فيه الصحف العراقية تصدر عن مطابع انتشرت في زوايا قديمة من شوارع في محلة جديد حسن باشا والحيدر خانة، والمتنبي، والزهاوي، وبأدوات بسيطة ومتخلفة تعود لعهد قديم في صناعة المطبوع، فكانت (الاخبار) نموذجاً راقياً في سنوات الخمسينيات بإستخدامها التقنيات الطباعية الحديثة، مستثمراً مواصفات المكان بإسلوب هندسي عصري ومتحضر في حينه، بما تيسرت له امكاناته المالية الجيدة.

لم تعكر اجواء (الرواد) سوى تلك الابنية المجاورة التي تبدو لنا معتمة ومظلمة كسواد شاغليها، ورعب اقبيتها السرية التي تعود لدوائر الامن العامة. فعلى مقربة من المكان، مارست اجهزة النظام ابشع الجرائم في تصفية خصوم الديكتاتورية. ان مجرد التفكير في هذه (الجيرة) كان يسمم حياتنا، ويدعنا نشعر بالقلق او العجز عن تحقيق احلامنا التي كانت وحدها تنير ذلك المكان بالرغم من كل تلك المصابيح الشاحبة التي تتوزع في الشوارع المحيطة به، والتي لم تضئه اضاءة كاملة، وظل محاطاً بالاسرار وعلامة الاستفهام.

وحتى اولئك الذين يروحون ويجيئون يومياً ويحملون في وجوههم اشراقات امل لمستقبل غامض، ويجهدون انفسهم في معرفة الاسرار بقلوب عامرة بمشاعر الحب، كانت بعض سمات وجوههم تشي بخفايا نجهلها نحن (الصغار)!. لقد شهدت (طريق الشعب) و (الرواد) جمعاً لا نظير له في الصحافة العراقية، ووجد بعض من هذا الجمع شهرة منحتهم التفوق والامتياز، ولبعض منهم المزيد من العذاب، فاية مفارقة تلك.. المزيد من الاسئلة عن الخير والشر، الحديث والقديم، الحاضر والمستقبل، الوهم والحقيقة، المعرفة والجهل، القبح والجمال، الانتصار أم الانكسار والهزيمة، الصمود أم التراجع، (التحالف) أم المواجهة والمعارضة؟؟

تلك أسئلة لا حدود لها، كانت على ألسنة كل ذاك الجمع، الفريد. لقد دونت وكتبت أقلامهم التجربة وأرخت لها، بكل ما تحمل من دلالات ومفاهيم، وفتحوا أبوابها بمفتاح العقل حيناً، ومفتاح الحلم والوهم حيناً آخر.. لكنها في المحصلة تلتقي عند معنى عميق للوطن، ودور للمعرفة الإنسانية الراقية، واستقرار الحياة بمتعة أكبر في البحث عن ينابيع الصدق، وتفهم الأشياء بعمق ونبل.

التجربة بمضمونها وجوهرها كانت طريقاً أرقى إلى تعميق الحياة وتنويعها، وتوسيع أفق الإنسان، وخلق صلة واسعة بينه وبين العالم، ومنح كل لحظة من الحياة مذاقا جديدا.

أما أولئك الذين يرسمون ويغنون بتذوق، يدفعهم تدفقهم الجديد، حمى اكتشافات تنبعث من أقلام رصاص وفرش للرسوم الملونة ليقدموا فاكهة لا تشبه الفواكه، فإنهم يريدون إزاحة ثقل الإحساس بالمرتقب. بإحالة كلمات السياسيين إلى تصاميم وأشكال فنية جديدة وجميلة. هم الفريق الفني الذين يكتفون بشعور السعادة الداخلية، إذ وجدوا فرصتهم الحقيقية في التعبير عن قدراتهم الإبداعية ببراعة ورهافة إحساس، فقدموا نموذجا في التصميم والإخراج الصحفي متقدما على زمنهم، وأكثر تميزا وجمالا بالمقارنة مع صحف أخرى تصدر عن مؤسسات النظام الإعلامية التي توفرت لها ظروف مالية وبشرية كبيرة جدا.

جيل هؤلاء ينتمي إلى جيل متحمس وصاخب، اكتملت تجربتهم ونضجت في أجواء (طريق الشعب)، وقدموا محاولات جريئة في ابتكار الشكل أو الحرف، يتقدمهم صادق الصائغ، ليث الحمداني، سامي العتابي، محمود حمد، يوسف الناصر، عبد الرحمن الجابري، مصطفى أحمد، (كاتب المقال)، صفاء (أبو الصوف)، إبراهيم رشيد، التشكيلي حميد، فلاح حميد، وآخرون.

وفي الغرف السابحة برائحة رصاص الحروف، تختلط رائحة (الثنر)، والبنزين لإزالة صدأ مكائن (اللاينوتايب)، بأصوات العمال وحوامض المونتاج وتحضير الأفلام التي غيرت ألوان اصابع علي الجبوري، وانتشال هادي، ومنى سعيد، وبيمان، وافقدتها ملمسها الرقيق بفعل عنفوان فرح العمل.. فكانت الجريدة بفضل هؤلاء عملا فنيا صادقا، ودرسا في الجهد والمثابرة، له اسبابه الصادقة المقنعة.

تلك سنوات ظلت تنبض بأسلوب وسحر جديدين، وإيقاع روحي، يعيد صياغات بطعم فريد. لمجاميع بإنسجام مذهل، ورغبة أكيدة ومعلنة بوضوح كاف. لم يرتكب صانعوها خطيئة ما لتنهبهم المنافي فيما بعد، أو يأكل الدود الأجساد الغضة منهم، أو يدفع الوهن في تفكيرهم للندم... أو الضحك، أو الحزن، والخيبة، لتبحث الأسماء في أكثر المضان غرابة وشرودا.

التجربة لنا كانت مثل ومضة عابرة، لكنها لم تنطفئ. نرنو إليها بأبصارنا، نريد لها المزيد من الاشتعال والتوهج، وأن تعيد لنا صبانا وشبابنا. لقد عصرت قلوبنا، صدقها وحماسها.


 

* كاتب عراقي




 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter