|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  2  / 8 / 2010                                د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ريسان الخزعلي...
يتوسد الماء في طريقة الغناء

د. جمال العتابي *

يمضي بنا ريسان الخزعلي في مجموعته الشعرية الاخيرة (طريقة في الغناء) التي صدرت عن (دار ميزوبوتاميا) للطباعة والنشر، الى موضوعة رئيسة تضمنتها اغلب قصائده التي توزعت على تسع وعشرين قصيدة، عمقت احساسه بـ(الماء)، وشعوره بالانتماء الى جذوره الريفية. فهناك ثلاث قصائد تتصدرها عناوين: (بلاد النهرين، ذاكرة مائية، عزف على نهر الهدّام). وتكاد لاتخلو جميع قصائده من توظيف هذا الرمز بدلالاته المتنوعة، وبتسمياته المختلفة:

الغناء الذي يوصل /النهر/ بالشوارع (قصيدة سرجون) الماء يكفي، التمر يكفي، (بلاد النهرين) الماء لم يزل في الغيم (بلاد النهرين) وثانية.. ماؤك اسود تحت الضفائر (عزف على الهدام)

الهدام.. نهري وطفولتي

وانت في متحف الانهار

ادفع المشاحيف/ محملة بالبريد السياسي

وانت طيع كالنهار (ايقاع النهار الطويل)

كيف اهتديت الى النهر والنهار/ وكيف خلطت الماء بالضوء

                                                    (نزهة من كسل)

ان سر الماء لم يأت بوجه الصبية الناحلة

                                 (تلويحة للصبية الناحلة)

والماء ابعد مايكون (خواطر.. بعيدة عن السهل)

وتزدحم قصيدة (ذاكرة مائية) بعشرات الامثلة التي يكرر فيها الخزعلي، مفردات: الماء/ الطوفان/ نوح/ سليل الانهار/ اعالي القصب/ غريق الماء/ طوق من الماء والنفاش/ اظفار نبات الماء/ المندائيات قد عرفن النهر وسادتنا/ فأين الطريق الى ذاكرة الماء/ خذني الى مستقر المياه الاخير.

وحين نتفحص القصائد الاخرى.. نستطيع القول ان ريسان ليست به حاجة الى تقديم توضيح لما يجري حوله، او ما خبره في الحياة، فأدراكه لمعنى الماء نابع من احساس مباشر وخبرة وثيقة بها. فهو إدراك حيوي حسي نابض، ان يقرن الحياة بالماء، بين احساسه الدافق به، وهو احساس صارخ، وبين هو حقيقة في ذاتها، بين انغماسه في الحاضر بكل احساسه، وبين ماضٍ وما يحيط به من قداسة لايريد له ان يندثر.

الماء يفيض على قصائد الخزعلي، لانه مصدر الثراء والنماء والخصب. هل ثمة رؤية اخرى يحملها ريسان للنهر والماء.. او صورة اخرى لهما حزينة وباكية، والالم الاسود.. والزفرات.. والالم.. ربما يستعير ريسان الاستنتاج الذي يقدمه العلامة طه باقر في دراسته (مقدمة في تاريخ الحضارة العراقية)، ان طغيان مياه الرافدين لايحمل سوى الحزن لساكني وادي الرافدين منذ فجر التاريخ..

بلاد النهرين في دفتر الرسم

بلاد النارين في دفتر الارض..

                                        **

بلاد النهرين..

هذي دماء الشهداء مياهك..

الصورة لاتعبر عن ألم الشاعر، اذ يشكو الخراب. انما هو ألم شعب يعيش على هذه الارض.. فالعراق صورة لذلك الصراع التاريخي الذي اتخذ ميدانه تلك الارض..الماء (الرمز) الاكثر حضوراً في قصائد ريسان. منها هو ينظر الى العراق كخارطة مرسومة على الورق، لكنها وهم وخديعة

              تقول الخديعة: بلاد النارين

                 الماء لم يزل في الغيم

                  التمر موسمه جفاف

                  والنفط ليوم السعادة

ان مياه دجلة والفرات بنظره لاتمنح السعادة والحياة، وتجرف الجفاف. او تزدهر الحقول بهما، ان مياه النهرين ليست سوى دماء الشهداء، وحبات التمر، رؤوس حان قطافها، والنفط حجارة ابرهة.

    بهذا التكثيف، ينقل الخزعلي جو المأساة، وضياع الاحلام، في البحث عن زمن مفقود: ماكان سرجون حانة للعابرين/ انه حانة لليساريين ليلا/ فأين الطريق/ اليه ثانية

                                                **

                      هكذا.. تعودنا ان نحتفي بالموت فقط

مزيج بين السعادة والألم، غناء ينطلق من قاع نفس المغني، كأنما تنشق روحه، وهو ينطلق هامساً مرة، وصارخاً مرة اخرى، باكيا في معظم الاحيان، بآهات مجهشة:

                     فما من تلويحة خطرت

                     وما من مجيب

                 ورثنا الطفولة منقوصة

                 ورثنا المشيب

ان انغماس الشاعر في هذه الأجواء.. لم يعد امراً غير مفهوم للناقد والمتتبع لمنجز ريسان الخزعلي طوال اربعة عقود من الزمن، فقد بدأ ريسان شاعراً شعبياً. وأمعن في استلهام الموضوعات الشعبية ومفرداتها. لذا فان قصيدته تكتظ بمفردات (البردي، والخريط، المشحوف، القصب) وباعتقادي ان (شعبية) الخزعلي ضمنت له قبول شعره عند فئات واسعة من المجتمع، على تباين نصيبهم من الثقافة ذلك يعود لقدرته الفائقة في التعبير عن الروح الشعبية العراقية، بما فيها من شحنة عاطفية ومأساوية هائلة. فكل مفردة لهذا الشاعر تنبض بتلك الروح العراقية التي تأتلف وتتصارع في نفوس العراقيين.

لقد استطاع ريسان ان يستفيد من بيئته المحلية، ويتجنب الوقوع في اخطاء غيره. معتمدا موهبته في الاقتصاد باللفظ، والابتعاد عن العواطف المسرفة، الاقتراب الحميم من الموضوع المحسوس، ونقاء التجربة وصفاء الشكل. فقدم قصيدة لاتستهلكها الصنعة الفنية، والمبالغة المضنية، في اصالتها الجنوبية الساحرة (قصيدة نهر الهدام). فاكتست بملامح الوطن، وعذاباته، وعبرت عن موهبته، التي لم تربكها تعقيدات الحداثة.

وريسان رغم استغراقه في هذا الموضوع، فأنه يحاول التخفيف من تلك النزعة، دون ان يعني ذلك اعراضاً كاملاً عنها. فيكاد يكتب عن كل شيء، يستوقف اهتمامه فيتوجه اليها بمقاطع، تظهر مدى حساسيته وقدرته على الاستجابة لدوافع الشعر فيه، فاهتمامه بازمات الانسان. لم ينسه تناول قضايا اخرى، في (قصائد اقرب الى الوضوح).

موضوعات شتى، تتفاوت قيمها الفنية، ولونها التعبيري. فهي غنائية تارة، صارخة الذاتية، واخرى ملحمية تصل الى ذروة التوتر، او قصصية وصفية. والتعبير يختلف حسب هذه الاحوال. وشعري نابض بالحياة والقوة كما هو في قصيدة (رثاء فاشل):

                كفاك فارغتان

               الا من اصابعها

              وقلبك يملأ الخراب بالازهار

              يملأ النهار بالاسماء.

وسردي يصل الى بساطة النثر:

              مرة../ حل الغجر في قريتنا

              واشاعوا طريقة في الغناء..

وهكذا/.. استبدل الرجال عاداتهم في الوصال

وفي قصائد اخرى نشيد صارخ، مزيج من الشعر الغنائي والسياسي. في نبرة واضحة لاتستر فيها على انتمائه الصريح، يبتعد الشاعر فيها عن ذاتيته، ويتجه الى الموضوعية. فينتقل من الاهتمام برؤاه وهواجسه، الى الاهتمام بالاخرين، الى الانسان في صراعه الاجتماعي. فيظل على اخلاصه لقضيته

       عصب نابض على كف/ الرفيق الجديد/

       عصب على هيئة 75

       كان صلباً/ وقد توازى مع الغيمة العالية

       كم تبدو السماء بعيدة خارج النافذة؟

       وكم هي الارض واسعة

       قرب ساحة الاندلس

شعر بمعنى لا يغرق في الغموض، رسالته ان يقدم قضيته بقيم جمالية. وهو حافل بالرموز، التي تتحول عنده الى معالم ثابتة. ومحببة له، مثل (ساحة الاندلس).

    ويبلغ التعبير اقصى مداه في التعبير عن القضية

    كيف استدار الموج تجاعيد تحت / هدب المعين

والتصقت ظلال الماء../ في خدين من حنطة؟/

ان الرصاص الذي كان يطلقه شرطة الوطن

يستدير الى قلبك حيث تجلس النجوم..

وماكان يصيب غير الشيوعيين!!

في قصيدته تلك لغة واضحة ملموسة، لكنها في اعماقها تكتسي بشفافية من الرموز والاسرار، يبتعد فيها عن الانفعال الكاذب. مع مسحة من الحزن والمرارة. انه يجمع بين الحقيقة والجمال لايخفي احتجاجه على الاستبداد وسلطة القمع. وهو في النهاية حزن يوجهه عقله الناصع ووعيه الدقيق، انها تجربة جيل ارعبه الانكسار. لم يتذوق الا طعم الهزائم والخيبات، وتبدد الاحلام:

               كنا نشم رائحة الخبز في البريد السياسي

              ونرى الشمس قرب عقدة المشنقة

              هل كنا واهمين؟.

هنا نجد القصيدة، مقتصرة في التعبير، شديدة الاحتراس في اللغة. الرمز يحتمل عدة تأويلات (الخبز، البريد السياسي، الشمس).. الصورة المكثفة البسيطة، تشير الى واقع خفي وراء المرئي والملموس. لكن عواطفه الحساسة كانت اقوى من ان تخفي حذره وقلقه الشديدين ولايستطيع الشاعر ان يخفي كذلك فجيعته من مستقبل بلا وضوح. مثلما القارىء لايستطيع ان يمنع نفسه من المشاركة فيه.

ان اشعاراً غنية بهذه الصور والمخاوف والافكار التي تعبر عن ازمة حقيقية مع الواقع. فتولد الكلمة لديه وتحيا وسط الاخطار المميتة، والمحدقة بها.. فلم يعد الصمت ممكناً. بل اعلان الاحتجاج:

مللنا وعود السياسيين/ بلا نصاب

مللنا التظاهرات/ يقمعها شرطي الوطن

مللنا الثورات/ تأكل ابناءها

مللنا الاضرابات/ تنتهي بالوفاق

مللنا النقابات../ عمالنا موظفون

مللنا الجبهات../ ستراتيجية كانت

مللنا التنظيم السري../ بيوتنا مكشوفة

مللنا ومللنا....!

ان التعبير عن حالة الجزع التي تصيب الشاعر، امر مشروع لايدخل ضمن خانة (التطرف)، فعندما يصبح نظام المعتقدات متجمداً لايخترق.. وتتراكم الاحداث في عصر متفجر كهذا يصبح كل حاجز بين حرية الشاعر والعالم غير محتمل.. فيسعى الى تدمير الحواجز. لاسيما تلك التي تفصل الانسان عن ذاته وعن الحقيقة التي ينبغي ان يعيها.. لذا غدا العذاب والألم والموت في الشعر اشياء أليفة، واصبح القلق المهيمن على الشعراء مصيرياً. فدخلوا مناخ المنفى، المنفى الداخلي، والغربة الروحية التي ارهقتهم.

يعبر عنها الخزعلي:

أرى مطراً في بستان غيري/ اباركه

واقول الثمار ثماري/ غير اني انظر الى كفي/

لا أرى الا خطوطا/ يسمونها شارة الحظ/

في المجموعة الشعرية استعارات جميلة لعناوين مجموعات شعرية او قصصية، يقول عنها الخزعلي: ثمة قصائد حتمتها طريقتي في الغناء الى حسب الشيخ جعفر، احمد خلف، خليل الاسدي، محمود النمر، حسين حسن وهم يعرفون لماذا؟ هذه الاستعارات احالها الخزعلي الى قصائد بما يوحي بقدرة الشاعر على تطويع تلك العناوين الى قصائد تنبض بالحياة.. فقصيدة (بساتين الخراب).. تستعير عنوان مجموعة قصصية للقاص المبدع احمد خلف.. (الخراب الجميل).. فقلّب القصيدة على وجوه مختلفة وبطريقة محكمة:

- مازال تيمور حزيناً (نسبة الى تيمور الحزين)

- لقد مات الاب قبل الاوان (نسبة الى موت الاب)

- بوابة بغداد تجهل (منزل العرائس)

- و(خريف بلدتنا) تعلل بالسماء

- نحن ارتضينا (بخوذة لرجل نصف ميت) وهي اول قصة نشرها احمد خلف في مجلة الآداب، نهاية ستينات القرن الماضي.

لقد تمكن الخزعلي من ترتيب القصيدة ترتيباً منطقياً. دون ان يبتعد عن منطقة الشعر، وقدم تجربة مثيرة ناجحة، لاتخلو من الحيوية، وقصيدة مكتملة بالرمز والاشارة والايحاء والصور الجميلة. لا أبالغ في القول حين اشير الى ان ريسان قدم قاموسا شعريا جديداً. يضاف الى التجارب الشعرية المهمة.

ماذا تبقى للحب في قصائدك ياريسان في عالم خرب منهار؟ سوى تلك القصيدة الخجولة التي اسميتها (صبابة). هل مازال منك قدر من الحب لتغني للحبيبة غناءً حلواً، عذباً؟ أم انك لاتستطيع ان تتوحد مع العاطفة الا من خلال الحزن ايضا؟.

ساويت بين مرارة هفوتي

وحرارة في لهفتي

من قال انا افترقنا؟

حزني عليك اجيئك، ومن صبابتي ابكي، ويكرر المقطع في آخر القصيدة ليقترن مجيء الحزن بالقتل والموت والنهاية

حزني عليك.. اجيئك

ويجيء حزنك.. مقتلي

القصيدة هنا لاتفيض بالماء.. بل بالاكتئاب والتعب والحنين، فيها عاطفة متأججة دافئة، لكنه حب يسعى ثقيلا نحو الموت.

هل نقول في الختام ان عهداً شعرياً جديداً لريسان قد ولد بصدور هذه المجموعة. ام انه اشبه بقدوم فجر جميل.. هل يمكننا ان نمنح الخزعلي لقب شاعر الماء بعين جديدة؟ اترك الاجابة للقراء..

 

تنويه: بين الاقواس عناوين قصائد

 

* كاتب عراقي




 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter