|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  24  / 1 / 2016                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

(يهود العراق والمواطنة المنتزعة)
للدكتوركاظم حبيب
الكتابة الحرة الملتزمة بالإنسان

د. جمال العتابي *

الدكتور كاظم حبيب ،أحد أعلام العراق في العصر الحديث، ذاع إسمه وإنتشر في الأوساط العلمية والأكاديمية ، والمحافل الأدبية والفكرية ، له إجتهاداته وكتبه التي فتحت آفاقا رحبة بميدان إختصاصه ، ومواقفه المثيرة للجدل ، فضلا عن تاريخه السياسي والنضالي . أحاط بهذا الميدان المترامي الأ طراف، لإن الأنسان وفق رؤاه ، قوة عظيمة قادرة على بناء الحياة والتغيير.

عُرف حبيب بموسوعيته المعرفية ، تسعفه ذاكرته الحادة الممتدة في كل ضرب من ضروبها ، وإشتهُر إقتصاديا، يعنى بدقائق هذا الإختصاص،بمنهج علمي رصين إمتاز بالدقة والرصانة والسمو فوق العواطف والأهواء .صدر له أكثر من 30 كتابا وكراساً في الفكر والإقتصاد والسياسة والإجتماع ، والكثير من الدراسات والمقالات المتنوعة. ومن كتبه : العولمة من منظور مختلف بجزأين، الإستبداد والقسوة في العراق ـالفاشية التابعة في العراق ـ ، لمحات من عراق القرن العشرين في أحد عشر مجلداً ، ولهذا الثراء ، أدعو الباحثين إلى دراسة شخصيته وآثاره العلمية ، ومنهجه وإسلوبه وجمع المادة التي كتبها في العديد من وسائل النشر، وفيض مقالاته ومحاضراته التي تستحق العناية والتتبع .

أما كتابه الذي صدر مؤخرا عن دار المتوسط (يهود العراق والمواطنة المنتزعة) ، فيعد واحداً من أهم الإنجازات الفكرية التي قدمها كاظم حبيب ، إذ جاء بصفحاته الثمانمائة غنياً بمادته التاريخية والفكرية، الموثقة بمئات المصادر العربية والأجنبية والوثائق السياسية ، فضلا عن الشهادات الحيّة لعشرات من اليهود، والأرقام والإستبيانات ، معزّزة بالصور والبيانات الرسمية ، والقوانين الصادرة عن الحكومة العراقية ، عبر مراحل تطورها منذ تشكيل الدولة العراقية بداية عشرينيات القرن الماضي .

إن الجهد الإستثنائي والمميز لكاظم حبيب بهذا السفر الخالد يجعل من كتابه هذا ، أحد أهم المراجع في دراسة تاريخ اليهود في العراق ، إلى جانب العديد من الدراسات لكتّاب آخرين ، ويشكل إضافة غنية صححت الكثير من المفاهيم ، وأزاحت الالتباسات والتابوات في هذا الميدان ، كما فنّدت الآراء الخاطئة في محاولات أخرى تناولت (إشكالية) يهود العراق ، وفق منطلقات متعصبة ضيقة ومحدودة الأفق ، وما رافقها من مزاعم وتشويه طيلة العقود الماضية ، وألقت الضوء على الحقائق بنظرة علمية محايدة .

توزع الكتاب على تسعة عشر فصلاً ، بجزأين وخمسة عشر ملحقا ، متتبعاً فيها بدايات وجود اليهود في العراق ، وتطور أعداد نفوسهم بين أعوام 1794 - 1954 ، ثم تناول مدارسهم في العراق ، والبنية الإجتماعية لهم ، ودور المثقفين اليهود في الحياة الثقافية العراقية ، وقدم نماذج متقدمة من مثقفيهم وكتابهم المهجرين قسراً، أو النازحين إلى إسرائيل وبلدان العالم الأخرى ، وتقصّى في مجالسهم الإجتماعية ودورهم في الموسيقى والغناء ، وقدّم معلومات جديدة عن النشاط الصهيوني في العراق ، عبر فصول شغلت حيزا واسعا من الدراسة ، ومواقفهم السياسية من النظام الملكي ، وموقف القوى السياسية الأخرى منهم ، القومية واليسارية على حد سواء ، وخصّص أكثر من فصل لحركة شباط ــ مايس 1941 الإنقلابية ، و(الفرهود) ، وموجات العداء الموجّه ضد وجودهم ، وأفرد لمواقف الحزب الشيوعي العراقي إزاء القضية الفلسطينية ويهود العراق فصلا كاملا، إتسم بغزارة المعلومة ، وملامستها الواقع الذي عايشه المؤلف ، وحيويتها إعتمادا على الجذر الفكري والسياسي الذي ينتمي اليه الكاتب ، مزيلا العديد من الشكوك والاتهامات التي رافقت هذه المواقف حينذاك .وتابع المؤلف أوضاع يهود العراق في الفترة بين 1963 ــ2003 ، وفي الجزء الثاني ، الأهم في الدراسة ، فإنه أعتمد على إستطلاع الآراء لمجموعة من يهود العراق في إسرائيل ، وممن أسقطت عنهم الجنسية العراقية ، وآراء عراقيين من غير اليهود ، معتمداً على منهج الإستبيان ، بالمراسلة وباللقاء المباشر ، ثم عرَّج على تحليل مضامينها ، والتوصل إلى حقائق مذهلة في النتائج .

إن أهمية الجزء الثاني تكمن في مخاطبة الجانب الأعمق والأدَّل في الإنسان :ذاكرته ، ومسارنا الأهم ، إذ نكتشف في هذه الذاكرة معلومات جديدة نرى فيها أنفسنا والآخرين ، حتى نتبين الإتجاه السليم في البحث عبر العقل والإحساس والمعايشة الحية ، ذلك ان التاريخ كما نفهمه ليس رفوفا مرصوفة بالكتب ، بل هو نباهة المعاينة ، لذا جاءت الشهادات دقيقة في تأثيرها، وعميقة في أبعادها .

إن من يتولى التصدي لأحداث التاريخ ، لابد أن يتحلى بأفضل الصفات الذاتية والموضوعية ، وعلى درجة عالية من الوعي والإنفتاح ، ومقدرة فائقة في تحمل المسؤولية ، وخزين تجاربه الإبداعية وأصالتها .لقد يسّر لنا الدكتور حبيب الإطلاع على إجابات عدد من المبدعين الذين تركوا بصماتهم في حياتنا الثقافية والسياسية ، وتدفقت في شهاداتهم الصورة التي لم تفارق مخيلتهم ، صورة العراق الوطن ، البيت ، الأزقة ، أحياء بغداد ومدارسها ومقاهيها ، صورة العنف والقسوة ..لمحات وومضات، فيها فيض من الحنين ، وعذابات التهجير وحرق المنازل ، والفرهود .

إن واحدة من أعقد الإشكالات التي واجهت المجتمع العراقي ، هي (إشكالية الهوية العراقية) وقضية المواطنة ، إذ تعرضت الى التجزئة والتهميش والتخريب مثلما تهدمت الهموم الكبرى لدى الفرد والمجتمع والدولة ، وتعقد الخلاف حولها ، ولعل اخطر النتائج التي تمخضت عن إلغاء الهوية ، تلك التي هددت أسس وبنية الوجود الفعلي للدولة والمجتمع،والخروج عن منطق التاريخ ، وإزدادت تعقيدا حينما تكون السلطة السياسية تمثل أيديولوحيا عنصرية وشوفينية متعصبة ، لاتحترم القوميات والأقليات والطوائف والأديان وتنسف وجودها .

إن حقيقة العراق في تاريخ المعاصر ، بإستثناء فترة الجمهورية الأولى بعد 58 ، تشير الى انه لم يكن تجمعا للأعراق ، بل نافيا لها ، وهو ما أثبتته الوقائع التاريخية عبر مراحل كثيرة من الزمن، وإستفحال النزعة القومية المتطرفة والعنصرية لدى الحركات السياسية القومية العربية ، والتي إتسمت بمواقف تراوحت بين العداء الصريح والكراهية المستترة .

إن الوفاء للمواطنة ، هوأحد الدوافع التي حفزت كاظم حبيب للتحري والتنقيب في العمق ، وفاء لمواطنات ومواطنين عاشوا مع بقية سكان هذه المنطقة من العالم ، سكان وادي الرافدين وكردستان ،قرونا عديدة ، ثم هاجروا ، وهجّرواعن بلادهم ، وحزنا عليهم لأنهم نزحوا الى غير رجعة . أكثر من 118 ألف إنسان عراقي تقريبا هجّر أغلبهم قسرا ، وتوصل الباحث إلى حقائق وأسباب مهمة تقف وراء هذا الفعل ،إذ يؤكد على أن القوى الرجعية والشوفينية العراقية ، لم تكن وحدها المسؤولة عن هذه العملية غير الإنسانية ، وجريمة إسقاط الجنسية العراقية ، بل شاركت فيها الحكومة البريطانية ، والمنظمات الصهيونية العالمية ، والحكومة الإسرائيلية والموساد الإسرائيلي ، إضافة الى الولايات المتحدة الأمريكية .

إن التوصل إلى مسؤولية هذه الاطراف ليس إدعاء من الكاتب ، كما يذكر ، بل سجله الكثير من الذين عملوا سنوات طويلة في جهاز الموساد الإسرائيلي في عدد كبير من الكتب التي صدرت خلال العقود الخمسة المنصرمة ، وإستنادا الى المصادر والمقالات الكثيرة التي نشرها كتّاب ومواطنون عراقيون يهود ، هجّروا قسرا في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق ، كما برّر الكاتب أسباب عجز القوى الوطنية الرافضة للتهجير ، ومنها الحزب الشيوعي العراقي في التصدي لايقاف تلك الإجراءات ،التي تعود للظروف العربية والعالمية المعقدة ، والأجواء المرافقة للتقسيم في الفترة بين 48 - 1952.

إن صيرورة العراق وكينونته، تشيران الى ما لايرقى اليه الشك ، بالتداخل المطلق لتاريخ الأقوام والثقافات والأديان والجغرافيا...وأسهمت هذه العناصر مجتمعة في عملية تشكيل البناء الحضاري ، وهوية المواطنة عبر مراحل التاريخ ، رغم كل المحاولات التي يسوقها البعض بما يتوفر له البعض من (أدلّة) بحاجة الى المزيد من النقاش ، حول تميز أو أحقية هذا العرق أوذاك ، لإثبات التفوق أو نفي الآخر ، أومايسمى بالحقوق التاريخية لهذه القومية أو الدين أو الطائفة ،متناسية المبادىء التي جاءت بها الشرائع السماوية ، وهي تدعو الى العدالة والمساواة بين أبناء البشر .

ليس مأخذاً على القارىء حين يعلن إعجابه بما يقرأ لمادة خصبة وغنية ، وتتوهج ذاكرته بنصوص مضيئة من مصادر المعرفة ، إختلفنا أم إتفقنا عليها ، ودواعي الإعجاب تعود لأن المؤلف هنا منفتح على الذهنية الإنسانية العراقية بعطائها وإبداعها ، فضلا عن السرد التاريخي والتوثيقي الممتع للأحداث ، فالجزء الثاني من الكتاب حمل جذوة لم تنطفىء في أعماق اولئك الذين قدموا شهادات تقطر حزنا ولوعة على وطن أجبروا على مغادرته ، رغم تعاقب الأجيال والأزمان .تلك الشهادات كانت بهاءً ينطلق من نور الإحتراق نفسه .

إن قراءة أعمال كاظم حبيب ومنجزه الفكري والعلمي ، تؤكد حقيقة طليعيته بين الكتاب الذين سعوا بإخلاص وصدق وأمانة إلى تثبيت مواقعهم الفكرية ، بعيدا عن أي مناخ يحول دون تقديم كتابة حرة ملتزمة بالإنسان .


 

* كاتب عراقي

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter