|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  20  / 6 / 2010                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في ذكرى ميلاده الخامس والسبعين
كاظم حبيب .. يلزمنا صوتك .. وروحك الشابة

د. جمال العتابي *

فجأة ، أسعفني الأخ المفكر كاظم حبيب برسالة لا تتجاوز بضعة اسطر ، من حرج شديد كدت الوقوع فيه ، ومن تردد انتابني وأنا أراجع نفسي في كيفية المشاركة بأحتفالية (ماسية) تقيمها وزارة الثقافة لإقليم كردستان ، منتصف حزيران الجاري للدكتور كاظم لمناسبة بلوغه الخامسة والسبعين .

لقد أيقظت فيَ الرسالة تلك بمدلولها وإيجازها ، مئات الذكريات عن حقبة زمنية عشناها معا ، لقد عادت بي إلى سنوات السبعينات ، عندما كنا تحت سقف لبيت واحد نتشا طر فيه العيش والأحلام .

لقد قدم لي كاظم حبيب اختصاراً لكل ذلك الزمن ، ووفر لي جهداً وعناءً في البحث عن موضوع ... هو محوره ، وبطله ، إذ كنا ننظر بأنبهار ودهشة لتلك الفتوة والحيوية لشخصية تتدفق شباباً وعطاءً ، لا تكل في التنقل بين المجلس الزراعي الأعلى ، وأروقة (طريق الشعب) ، و ( الثقافة الجديدة) ، والمهام الحزبية ، وإلقاء المحاضرات على طلبة الجامعة المستنصرية . لتقدم نموذجاً متميزاً وفريداً ، في العمل والمثابرة ، والصبر ، ونكران الذات ، والتواضع ، واكبر من ذلك ،نشر المحبة للناس والوطن .

كنا مجموعة من الشباب ، بدأنا خطواتنا الأولى في عالم الصحافة الفسيح . واغتنت تجاربنا المتواضعة بما تعلمناه من أولئك (المعلمين) الكبار .. إذ كانوا فرسان التجربة التي أضحت علامة متميزة في العمل الصحفي والثقافي . على الرغم من قصرها ووأدها من قبل القوى السوداء . فذهب صناعها الماهرون ، لكن إلى أين ؟ ..
إلى الغربة ، والموت ، والزنزانات . والاختباء ... !!

لم تكن رسالة حبيب البليغة تحمل شيئا من الأسرار ، لأننا اعتدنا الكتابة احدنا للآخر ، بين الحين والحين ، برسائل تقتصر على السلام والسؤال عن الصحة والاطمئنان عليها . سيما وإننا نلتقي كذلك بمناسبات متباعدة ، في بغداد أو في كردستان . نستعيد الماضي بتفاؤل أو بدونه ، ونتحدث عن الحاضر والمستقبل بترقب وحذر .. ! إنها رسالة كالدرس .. فصيحة وواضحة وشجاعة ، شحذت ذاكرتي لأستعيد تفاصيل جلسة على طاولة غداء في احد مطاعم اربيل ضمت الصديقين الدكتور كمال مظهر ، والدكتور تيسير الالوسي ، كنت قبالة الدكتور كاظم، حين سألني بنبرة خجولة عن حال احد الأصدقاء ، وأثنائها مد يده بحذر شديد إلى جيبه وبحرص متناه بان لا يراه احد الحضور ، وأودع لدي مبلغاً من المال ملتمساً إيصاله إلى هذا الصديق . لم أخف فضولي في السؤال عن معنى ذلك ، فأجاب بكل تواضع : ان لديه شعوراً بالتقصير إزاء بعض الشخصيات التي ظلت وفية لمبادئها وحريصة على مواقفها الوطنية . فهذا الإنسان كما يرى ، نموذجا من هؤلاء ، يستحق الرعاية والاهتمام ، مثلما يدعو للاعتزاز كمثال للإنسان العراقي المكافح والثابت الذي لم يغادر انتماءه في أقسى الظروف وأعتى المحن .

ربما لا يشكل هذا الموقف مأثرة كبرى تسجل لصالح الدكتور كاظم من وجهة نظره . ومن المؤكد إنني اجهل مواقف أخرى له مع آخرين تحمل نفس المعنى ، لكنني لا اجهل حتماً مقدار النبل والوفاء الذي يحمله حبيب ، وبلا حدود .. ليس لهذا الصديق لوحده فحسب ، بل لكل العراقيين من أمثاله .

أقول بدون أدنى مبالغة ، إن الدكتور كاظم أزاح عني بهذا الفعل هما كالجبل .. فنفسي ما عادت تجد التفسير المقنع لسلوك الكثير من الأصدقاء الذين غادروا الوطن مكرهين ، وعادوا من جديد بعد سقوط الديكتاتورية ، وأشاحوا بوجوههم عن جمهرة واسعة من المثقفين الذين عانوا من شظف العيش ، واضطروا إلى اختيار الأرصفة لكسب قوتهم اليومي ، بلا طأطأة رؤوس .

أنا متأكد ان شعوراً غمر الدكتور كاظم بالسعادة .. وامتلأت نفسه بالرضا والارتياح . تعادل كل ما قرأه من نظريات وعلوم وتاريخ ، واقتصاد ، وفلسفة . هي ذي اللحظة التي تترجم كل المعارف إلى فعل إنساني حقيقي أصيل ، والى ناتج اجتماعي وأخلاقي بعيداً عن الزيف وكذب الشعارات .!!

على وفق هذه المنظومة الأخلاقية التي تشكل عقله ، فكراً وسلوكاَ ، وتنظم علاقاته بالعالم . وتحدد فهمه ورؤاه للإنسان ، حتى في أسوا حالاته . انه يجد نفسه مضطراً للألتماس من احد أصدقائه للتدخل في معالجة إشكالية تعيد لأهله حقوقهم التي اغتصبها النظام السابق وأزلامه . وهو يترقب وينتظر ، شفيعه بذلك ، النوايا الطيبة . والزاد والملح ، قاعات الدرس المشتركة ، الحيطان المتلاصقة في أحياء مدينته ، رائحة البخور المنبعثة من مراقد الأئمة عليهم السلام ، طقوس العزاء .. المواكب .. التي تطالب بالحرية ... و ... و ...
كل ذلك الإرث الطيب والجميل كفيل أن يحقق أحلام تلك الشريحة المظلومة والمعذورة من أهله .. وهي أحلام لا تتعدى ، سوى العودة إلى بيوتهم التي شيدوها في سنوات الحرمان والكد والأحزان ..

كان نصيبي من هذا السعي إنني أشرت إليه بمناشدة بعض أصدقائه – وهم كثر – يشغلون مواقع مهمة في مفاصل الحكومة . فاكتفى برد موجز : انه لا يحتاج كل ذلك. قرأت في الرد شعورا بالمرارة والخيبة .. وفي قراءة ثانية اكتشفت كبرياء عظيمة تليق بالرجال الكبار أمثال كاظم حبيب . إذ كيف نفسر قوله ( الحياة تعلمنا الكثير، ولا بد لي من الاستمرار في التعلم ) . !!

أي جلال هذا الذي يحيط بك أيها ( الحبيب ) ؟ أي سمو هذا الذي دعاك أن تحلق دائما في الأعالي بأجنحة تخفق بعوالم فسيحة ، وبأنفاس طيبة متواصلة لا تنقطع ، مثل الحياة . . تشم رياح التغيير ، تحمل وصفات لكل الأزمان بدفاتر بيضاء تغمرك غبطة الكتابة ، فهي فردوسك الأثير .

إن سر موهبة كاظم حبيب ، إن كلماته تحيينا . فهو احد رموزنا الوطنية والثقافية ، إذ أثرى الساحة الثقافية بعدد لا حصر له من الأبحاث والدراسات الرصينة ، وأغنى المكتبة العربية بمؤلفات جادة بشتى الموضوعات وبمختلف الاهتمامات ، وسجل له دوره النضالي مدافعا عن قضيته الوطنية ، مآثر عديدة لا تنمحي ، ستظل في ذاكرة الشعب العراقي بعربه وكورده .

وهو رمز من رموز التجديد ، وظل طوال العقود المنصرمة مؤثرا في جمهور المثقفين ، ومحل اهتمام النقاد والباحثين . ولعل السبب يرجع إلى اهتمامه بتطوير تجربته المعرفية من جهة ، والتزامه بقضية شعبه من جهة أخرى ، وهو ما يزال في قمة عطائه ونضوجه .

لم يكن كاتباً عابراً ، ولن يكون فكره كذلك ، فهو منذ كتاباته الأولى يمثل منبرا عاليا لمواجهة كل أشكال الجمود والتخلف على الصعيدين الفكري والسياسي. وقد راهن على التجديد والتنوير بطريقة واعية وناضجة وحضارية ، وصاغ من قسوة الظروف الاقتصادية والسياسية في الحياة آلية دفاع عنها ، في وجه ما يجعلها عبئاً على الإنسان .
يلزمنا صوتك ، يا كاظم ( الحبيب ) ، وروحك الشابة ، لكي نكتمل فيك ، ونضمن مواصلتنا الشوط .

طـبت ، ودمـت وعـشت .
 

* كاتب عراقي


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter