|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  20  / 1 / 2016                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

مقدمة

الابن يقتفي أثر أبيه

د. جمال العتابي *

شمران الياسري (أبوگاطع)، الكاتب والإنسان والمناضل، والنجم اللامع في سماء الإبداع في الكتابة الصحفية، عاش حياة قصيرة، لكنه امتلك تجربة كبيرة، كوّنت شخصيته الصلبة. عاش حياته مكافحاً للظلم، ومناصراً للحق، باحثاً عن الحرية والعدل. كان في جميع كتاباته متوحداً مع واقعه وشخوصه، يعيش تفاصيلها ودقائقها، ساعده في ذلك، قدرته الفائقة على التعبير بلغة الريف الجنوبي، واتسمت كتاباته وموضوعاته بالصدق والصراحة فاقترنت حكاياته (احچيها بصراحة) كعلامة مسجلة باسمه لا غير، في الإذاعة العراقية منذ تموز 1958، أو في صحافة الحزب الشيوعي العراقي، مناصراً للإنسان في سعيه لتحقيق أحلامه في مواجهة الطغيان، والبحث عن الحرية، وأكاد أجزم بالقول، إن تأريخ العراق الأدبي لم يشهد كاتباً لامعاً قبل أو بعد (أبوگاطع)، استطاع أن يتبوّأ موقع الريادة لجنس أدبي فريد بين صنوف الإبداع الأخرى، فكان له جمهوره الواسع، ومحبوه، ومتابعوه من مختلف المستويات الاجتماعية والمراتب الثقافية. بعبارة أدق، إنه كان يضيف لعالمه الواقعي ما لا يستطيع أن يقدمه هذا العالم.

شمران الياسري، يمتلك عيناً خفية، وأخرى ظاهرة، الخفية هي عين الرؤية، عين الخيال والبصيرة، التي ترى ما وراء الظواهر، فمرّن نفسه في وسط عائلي ريفي، مكتنزاً بالحكايات والميثولوجيا، والنوادر والأشعار والقصص، محصّناً بأخلاقيات الأسرة العريقة الطافحة بالمُثل والقيم النبيلة.

إحسان شمران سليل هذا الانتماء، عاش فيه، وتأثر به، ممتلئاً بسجاياه، ونهل منه، وتفتّح وعيه مبكراً على أحداث عقد من الزمن بكل تحولاته وتعقيداته، كان فيه الوالد شمران في قمة نضجه الأدبي والصحفي، وهذا العقد أو أكثر بقليل، كان قصيراً بالنسبة لإحسان، لكي يتمكن من المسك بمفاتيح تجربة الأب، ومعرفة أسرارها. إذ ما يزال صبياً يافعاً، حرمته الديكتاتورية من التمتع بطعم الأبوّة السحري، وعانى كبقية أفراد العائلة من آثار الملاحقة، والنفي القسري لأبيه، حتى أغمض شمران عينيه في حادث سير مؤلم. لكنه لم يغمض عينيه عن متابعة الأثر الأدبي والإنساني الذي تركه (أبوگاطع)، فكان له منبع معينبالحياة، في عتمتها وقسوتها في آن أو في بعض إشراقاتها في آن آخر..

من هنا تأتي محاولة إحسان في الكتابة عن هذا الأثر الكنز، وهي محاولة ليست يسيرة أو سهلة، فـ (إحسان) هنا (الابن). عليه أن يكون مختلفاً عن الكتّاب الآخرين، الذين سبقوه في دراسة منجز شمران الياسري، من وجهات نظر نقدية وتحليل تجربته الأدبية. هذا الاختلاف الذي أعنيه هو الذي يتوجّب على إحسان الخوض فيه، والغور في أعماقه، ليمنح جهده سمة الإضافة والاكتشاف الجديدين، وفق المعايير النقدية. بمعنى آخر، تقديم تجربة شمران بروح أخرى تعتمد الاستقراء النفسي للتجربة الذاتية الإنسانية، وتجسيد أهميتها في الواقع الذي يمتاز بوجود دلالات فلسفية - اجتماعية مختلفة في تحديد ماهية العمل الأدبي، أو الأثر الفني، إذ كنت أتطلع إلى رؤية هذا الإشعاع الداخلي الذي اقترن بالأعمال الأدبية باختزالات العالم المرئي واللا مرئي في تجربة شمران.

كان (أبوگاطع) يؤلف لغته اليومية الواضحة من نسيج الأحداث، فهو غير معقد التركيب، كما يكون قريباً دائماً من جمهوره، مقروءاً بيسر من قبلهم. من هنا اعتمد إحسان موضوعة (التحريض) كثيمة أساسية في التناول، لأن اللغة في هذا الميدان، هي الأكثر إثارة والأشد إنارة بين كل وسائل التعبير الفني، إذ تحمل صور الأحداث والأفكار من المحيط السياسي والفكري، أو الثقافي، كما أنها تبني الجسور وتعقد الصلات الحميمة بين فئات المجتمع، بين المدينة والريف، عبر جملها الملونة، القصيرة، ذات الإيقاع السريع المؤثر، أملاً في إيصال المضامين والإشارات، والأطروحات السياسية، والفكرية والاجتماعية والاقتصادية لها. عبر الوسائط الأبسط استخداماً، والأوفر قدرة على الإبلاغ والمكاشفة.

إن القراءة هنا قائمة على الصلة والانتماء الأسري، ولا يغيب عنها الوعي الاجتماعي والسياسي المؤمن بصدق التجربة الحياتية، وقدرتها على الحركة والنمو، لغة وأسلوباً وفكراً وموقفاً وفناً.

إن حكم الارتباط هذا، يسّرَ لإحسان ما لا يتوفر لغيره من ملامسة حرارة التجربة، بحسٍ نقدي، أو قيمة نقدية، فعبّر عن هذه الطاقة المختزنة في كتابات شمران الياسري، بكتابات (التحريض)، ووصفها بـ (البناءة)، لأنها مادة فنية معبّرة عن ظروف مرحلتها التأريخية، مدركاً أهميتها في خلق حالة التوازن الضرورية لعملية التقويم والإصلاح.. إذ قادنا إحسان إلى هذا الفهم، ورفع مستوى يقظة المتلقي في التمييز بين عمليتي الهدم والبناء، إذ لم يلجأ شمران في كل كتاباته إلى التشهير والفضائحيات، أو التنكيل والإساءة لأحد، حتى في رموزه واستعاراته، فجاءت لغته محمّلة بأقصى القدرات البلاغية، والصياغات البسيطة المبتكرة.

أُحيي بحرارة إحسان شمران الياسري، وجهده الذي فتح الباب واسعاً لدراسات أخرى، لإغناء منهج البحث في منجز شمران الياسري، وأشكره على تلك اللمحات الجميلة التي قادتنا إلى معرفة المزيد في حياة (أبوگاطع) المضيئة دوماً.

 

* كاتب عراقي

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter