|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  18  / 1 / 2019                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

ليلة البحث عن رشيد عالي

د. جمال العتابي *
(موقع الناس)

تأخذنا نحن أبناء القرى والقصبات الصغيرة نشوة سحرية لإكمال دراستنا المتوسطة في مدارس المدن المجاورة ، على الرغم من صعوبات الطريق والأجواء المعاشية القاسية وغيرها من المفاجآت . هذه المدن تمنحنا بعضاً من نورها ، شوارعها معبّدة بالقار، أسواقها تسهر لساعة متأخرة ، تستيقظ فيها ألوان الفجر بليونتها المائية العذبة ، نتجول فيها أوقات المساء وكأننا نبحث عن كنز ، تداهمنا رائحة الكباب فنقبل عليه إقبال العاشقين ، عدّتنا في سنوات الصبا ، لم تمنحنا أكثر من مفتاح صغير للدخول إلى أسرار المدينة .

بدأت عامي الدراسي الأول 59-1958 في الرفاعي ، فالغازية لم تنل فرصتها بعد من هذا الإمتياز، ننتظر أن تنقضي أيام الأسبوع بسرعة ، نترقب قدوم يوم الخميس ، مشدودين بكل حواسنا للعودة إلى معبد الأمومة ليلة واحدة .إذ تعاودني الرغبة لصمت التراتيل وخفوت الصلاة ، لتستيقظ أعماقي في آفاقها الرحبة ، فليل الغازية صمت وعتمة ، ليس سوى تسبيح للمياه ، وشدو للضفاف والنخل ، أسمع صداه ، وفي البيوت مواقد خابية اللظى ، وبصيص من نور للفوانيس ، لم تعدم سناها بعد ، كأنها تبعث بحداءٍ بعيد ومتقطع ، شوارعها تشاكس البيوت بالغبار حيناً ، وبالوحل حين ينهمر المطر ، والأمهات فيها يلدن دونما ضجة ، ودونما صخب .

الطريق الترابي الى الغازية بضعة فراسخ في الطول على ضفة نهر الغراف اليسرى ، تمر عبره سيارة واحدة بهيكلها الخشبي يُحشر فيها البشر والماشية معاً،وفي أحسن الأحوال هناك سيارتان تجوبان الطريق بين الشطرة والرفاعي . تحمل منتجات الفلاحين وأمتعتهم والدخان يلون سطوح هذه الهياكل .

في اليوم التالي تودعني أمي بتراتيل صلاة الجمعة ،و(صرّة صغيرة) فيها متاعي الذي صنعته بكفيها المزهرين بالوشم . في صباح نازف بالبرق والرعد ،نتوجه للصوب الثاني يرافقني والدي ، وقلبي غارق في الحزن مع موجة المطر الكثيف الذي يستبيح الطرق ، ويستفز الزروع ، ولسع البرد يغوص حتى في الجيوب ، وفي جواربي وتحت جلدي ، لا الأب يثنيني من تأجيل السفر ، ولا أنا أدرك معنى الخطر، عبرنا الغراف بقارب يتمايل نحو اليسار تارة ونحو اليمين تارة أخرى ، في نهر طافح بالوعود والكبت والقلق ، بسلام إتجهنا الى مقهى (عبادي) ،الوحيدة التي تأوي المارين المتعبين من هناك، المقهى توحي بتوجعها الخفي ، وعمرها المكدود ورغبتها التي تتضور عطشاً . مرّت ساعات بسكوت هائل لامتناه ، وانا أراقب صمت عيون أبي العميق ، عيونه المتجهة نحو صوت الباص القادم ، وكأنه يخوض بطوفان ، يستجير بالصراخ من الطين ، مندفعاً بتمرد يقلّبه الموج بلا بوصلة تحدد الإتجاه ، نسمع صرخاته كالبكاء في ليل عيد ، توقفت السيارة بصعوبة على بعد خطوات بعد أن خفت لهاثها ، عانقني أبي مودعاً ، لم أجد صعوبة في أن أختار أي مكان من هذا الهيكل الخشبي (أبوضلوع) ،الخالي من الركاب سوى رجل وزوجته وطفلهما الوحيد ، فأخترت مقدّم السيارة (الصدر) إلى جوار السائق ، لأنها فرصة تاريخية لن تتهيأ لي في الأوقات الإعتيادية .
عمي ما هذا الحديد الذي يلف إطار السيارة ؟ سألت السائق .
- إبني هذا يسمّوه زنجيل يساعد السيارة على الحركة وسط الطين ، لكن أنا أريد أسألك . أنت وين رايح بهذا اليوم الأسود ؟ أبوك ما نصحك ؟
- لا عمي ! لازم ألتحق بالمدرسة غداً .
لم ينتبه السائق لإجابتي ، ونزل بعد ان أصبح الباص أشبه بغريق في خضم الطين وأمواج السيول بعد بضعة كيلومترات من السير ،نادى الرجل ليعينه في الدفع ، أحس بالأرض تميد ، ومحاولات الحركة باتت متعذرة ، ومحرك السيارة يتحول إلى صوت يهتك السماء ،إلى أن خمد الصوت كان الوقت غروباً ، لا شيء سوى هيمنة الظلمة ، وصرير الريح يلطم بالسطوح . توقف المحرك عن الدوران تماماً
- هذا حدنا ..قال السائق بإسترخاء .
يعني شنوعمي ؟
- أجاب دون ضجيج ، ننتظر فرج الله حتى الصباح .

إلهي ...أما من مغيث ؟ توجهت المرأة بتضرع إلى السماء ،لم تغثها القبائل ، ولا النجوم التي توارت وراء السحب سمعت نداءها ، فالسماء كانت تهطل غضباً ،والبرد زمهرياً يطحن العظام ، قرى تنكسر من فرط أحزانها ، كأنها أشباح تمد مخالبها في الظلام ، لا نار في بيوتها البعيدة تدفىء الأجساد ، ولا ضوء غير سورة الريح ، ولا زيت ولا طعام ، سوى شياطين تحرس الدروب ،ها أنا من فرط الخوف يغلبني النعاس مع إنهمار آخر مزنة في الليل .

أصحو على بزوغ ومضة ضوء بعيدة تسرق السكينة ، ما لبثت أن تتحول إلى صوت معاند وهو يقضم المسافات ،ها هو الفرج قادم يسبح في حالك السواد بجنون الحديد ، يوقظ الطين من غفوة مؤقتة ، من يا ترى يبحث عن سر هذا الإنهمار ، ويغامر في أخاديد الوحل ؟ من يهجر دفء بيته الآن ؟ ليسمع شهقات طفل يتضور من ألم الجوع ، وتجهش أمه بصمت لاهب . من يعين عيون أمي المسهدة التي تنتظر خلف النوافذ ، أرق ترصدها فسرق النوم منها تلك الليلة ، (قلبي يعلم) كما ذكرت لي بعد حين .

يلزمني بعض الوقت لإدراك معنى الرصاص والنداء المذعور الذي إنطلق فجأة حين إقتربت سيارة الشرطة منا ، صوت الرصاص إستفز الحقول النائمة ، والمطر الناعم الذي ركد على الأرض قبل سويعات ، ترجل منها بضعة مسلحين مدججين بالبنادق ، حاصرتنا الأسئلة ،ودهشة العيون ، إقتادونا إلى حوض السيارة الخلفي كأسرى ، إستدارت بحركة مجنونة لتنطلق بقوة نحو المدينة ،بين المجموعة تعرفت على وجه صديق لوالدي ، إنه المعلم أحمد فإطمأن قلبي وسكنت روحي ، سألته : ما الذي هداكم إلينا يا أستاذ ؟
- نحن في واجب يا إبني ، إحمدوا الله انه كان السبب في إنقاذكم في هذا الليل المهلك ، قلت وما الواجب يا عم ، فأجاب : نبحث عن (المتآمر) رشيد عالي الكيلاني الذي هرب إلى مدننا ليحتمي بشيوخ العشائر الموالين له ، والمعادين لـ (الثورة والزعيم) ، قلت دعني إذاً يا أستاذ أن أسبح بحمد رشيد عالي وأشكره على فعله هذا الذي أنقذنا ، رحمة على أهلك رشيد عالي ، وأردفت بالقول : لولاه لكنا في التيه ينخرنا البرد وصمت الليل .

في الخميس التالي كنت أروي لأمي التي تنتظرني بلهفة ، معنى حزن ليلة 8 كانون الثاني من عام 1959 عندما كانت طيور الحب تنام . كان وجهها يضمر إبتسامة لا تسمح بالذهاب إلى التأويل ، فقالت ببساطة وعفوية : وليدي ، أبوك أيضا ً كان في تلك الليلة يبحث عن رشيد عالي .

 

* كاتب عراقي

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter