|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  13  / 10 / 2022                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

النحات عباس الكاظم:
جدارة «السرير» كمعادل لغياب وطن! (1)

د. جمال العتابي *
(موقع الناس)

وراء الفوز الذي حققه الفنان العراقي عباس الكاظم، المقيم في بينالي القاهرة عام 1998، عن عمله الفني (وطن) وأصبح من ممتلكات متحف الفن الوطني المصري، قصة طويلة تبدأ حكايتها منذ عقود من الزمن، يوم اختار الفنان الهرب من (وطنه) والإقامة في الدنمارك، تسأل عنه الأمهات، حين لا يغيث مدامعهن أحد، يمتن بعد عذاب السؤال عن الأبناء الذين غابوا وهاجروا وماتوا في الغربة.

طعم أيام الفنان عباس الكاظم صار ملحاً في (الوطن) صار شكل الحياة جحيماً، وصار الوطن جرّة للرماد، وحدائقه مرتعاً للجراد، كيف يمكنه أن يفتح باباً لهذه البلاد، والريح عاتية، ومياه الرافدين مزبدة بالموت، هل بمقدوره أن يستعيد ما طوته الحروب في ظل الشعارات، وهو يرى القمر يأسره الموت في سماء مكوّرة محاطة بالتنانير.

كانت هذه الهواجس تحرّك مخيلة الكاظم، كأنه يبحث عن خلاص يتجسد في عمل نحتي من صنع يديه، عمل يريده أن يتكلم، ويبوح، يصرخ، يأخذ المتلقي بعيداً للنساء الغارقات بحزن الغياب، في العمل الفني ثمة أفواه بلا أوجه وعيون، ثمة تكوين معمّد برمال الصحراء، جاء به الفنان من مدن خاويات، يمضغ أهلها الحصى والغبار. وسط أجواء القلق والخوف على وطن محاصر طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي، راح الكاظم يتضور (جوعاً) كذلك، بلا غبطة وبلا فرح، لم يكن مستحيلاً عليه أن يحتوي هذا القلق بمنجز فني حقق جدارته في الفوز بأهم المعارض العربية.

اعتمد عباس في هذا العمل إسلوب أو اتجاه ما يعرف بفن التجهيز، أو التركيب
the art of installation، وهو الفن الذي يعتمد الفكرة، كعنصر أساس فيه، وليس الشكل.

مشاركته في البينالي جاءت مصادفة غير متوقعة لديه، إذ أشعرته إدارة البينالي باعتذار العراق عن المشاركة في البينالي، وطلبت منه تمثيل بلده في هذه الفعالية الدولية، التي اعتمدت حكاماً ونقاداً عربا وأجانب مشهودا لهم بالخبرة. كانت فرصة ممتازة أن يقدّم الكاظم نفسه كفنان عراقي جدير بتمثيل الوطن، الذي سدّوا منافذ هوائه عنه، وأحالوه إلى أشباح تمتد في الظلام، من هنا بدأ التخطيط لفكرة العمل، التي تتلخص بسرير نوم من مادة الحديد، يرتكز على كثيب رملي جلب مادته من الأهرامات المصرية، أما لوح السرير فهو مرآة عاكسة، العمل وسط قاعة مضاءة مفتوحة على الخارج بنوافذ، وأرضيتها من المرمر. ثمة أسئلة عديدة يطرحها التكوين منها: ما الدلالات الرمزية التي أراد أن يوحي بها الفنان في استخدام هذه المواد؟ وما المضامين التي تحملها؟ ثم ما علاقة هذه العناصر بالوطن؟ وما العلاقة الداخلية التي تجمع بين هذه العناصر ذاتها؟

تبدو الإجابات على هذه الأسئلة في غاية التعقيد، إذا ما أردنا الوصول، أو الكشف عن المعاني التي وضعها الفنان في مخيلته، لكن أكثر من عقدين من الزمن مضيا، ونزحت من خلال غفلتنا نماذج وتجارب أصيلة خارج الوطن، واندثر العديد مثلها، بفعل ظروف الحصار والقطيعة الثقافية، أو تجاهلها، وعدم معرفة قيمتها الفنية، تدعونا ضمن هذه الأسباب لقراءة العمل في حالة من اليقظة والتأمل التي تقودنا إلى الوعي الكامل بأهمية التعريف بمنجز عباس الكاظم، وهو من أوائل من ذهبوا إلى الأرض البعيدة، وغادروا البلد يوم نخرته الحراب، وتدثرت مدنه باليتم والفقر والدماء. وإذا تسنى لأي منا أن يتأمل التركيب الفني لهذا العمل، سيجعلنا أقدر على فهمه، إذ ترتقي المهارة التقنية مع البعد الفلسفي فيه، فسيجد أنه صُمم وفق أسس تمتد في عمق المعاني، التي يحملها التراب في عملية الوجود (الولادة والموت). وفي بعده السايكولوجي يبدو التكوين قائماً على حالة (القلق) حالة الاضطراب النفسي في أعماق الفنان من طرف، والقلق على مصير وطن من طرف آخر، الوطن هنا مجرد سرير(هيكل) متداعٍ، قوائمه هزيلة، مائلة أصلاً، وجودها في محيط هش هو الرمل، بمعنى غير مستقرة، مهددة بالزوال أمام أي هبّة ريح، لتتحول إلى غبار متطاير.

مهارة الفنان وموهبته جعلت من الأشياء المألوفة قطعة فنية متكاملة، تستحث الرغبة في البحث عن معنى الوطن، لكن هذا الوطن مجرد هيكل لسرير خاوٍ، سراب، قائم على كثيب رملي.

أما دلالة المرآة البديل عن لوح السرير، فيكسب العمل بعداً فلسفياً أعمق، تذهب بالمتلقي إلى التساؤل عن معنى الرمز من جهة، وعن معنى الوطن من جهة أخرى، المرآة هنا عبارة عن وهم وسراب، يتمثل بالمقاربة بين الشكلين، وفي المحصلة النهائية يبدو هذا السرير غير صالح البتّة للمنام (الاستقرار، السكون، الحب، العاطفة، الخلود للراحة بعد عمل، ولا للحلم والكوابيس بالطبع إذا غاب النوم) بمعنى آخر أن لا حياة تنتظر الإنسان العراقي، إنما حياته تتلخص في شعوره الدائم من الضيق وعدم الارتياح، مع توقع وشيك بالانهيار، وتلك إحدى نبؤات المبدع عباس الكاظم، الذي قدم استشرافه المبكر لمستقبل مرير، وهو ما وقع فعلاً بعد عام 2003.

مهارة الفنان وموهبته جعلت من الأشياء المألوفة قطعة فنية متكاملة، تستحث الرغبة في البحث عن معنى الوطن، لكن هذا الوطن مجرد هيكل لسرير خاوٍ، سراب، قائم على كثيب رملي. الكاظم يشرك جمهوره في التساؤل، لا يدع المتلقي ساكناً، إنما بمواجهة عبر الدوران واللف حول التكوين، لا يكتفي بهذا حسب، بل يزجّ المتلقي هو الآخر في حالة من القلق، والإرباك بسبب ميلان العمل الفني، ليتحول إلى امتثال متجانس لعناصر تخاطب مستقبلاً غير مأمون، وثمة خيط يجمع أو يوصل بين هذه المفردات في هذا الضرب من الفن، إنه لون من ألوان التعزية، لأولئك الذين فقدوا وطنا.

لعل الفنان الكاظم أراد أن يمنحنا فرصة التأمل لما تصنعه يده من أعمال، ربما التآلف بين رؤيتين (الجمالي – الفلسفي) ملتقى زمان ومكان، يفرّان من بين أيدينا، ولا يمنحاننا فرصة النظر إليهما، واسترجاع ما فيهما من تذكارات وأحلام، عنصران أليفان متجاوران في هذا الإنجاز الفني المنظوم، يستمران في حوارهما، الوطن (المعنى) والجمال، لكن ربّ سائل يقول: أين البعد الجمالي في هذا التكوين؟ أين تكمن قيمته الجمالية؟

الإجابة على هذا السؤال تعود بنا إلى أننا نعتقد أن الفنان ينصرف ذهنه على ما في الأشياء من انسجام وجمال، وأنه بطبعه يعزف عن الاستثناء، والواقع أن هذه الفكرة تبدو ساذجة، ولا تنمّ عن حقيقة رؤى الفنان، سواءً في تذوقه الفني، أم في أسلوبه ومضامين وتقنيات عمله، ذلك أن هناك جانبين ينبغي أن نأخذهما في الاعتبار لدى تناول أي عمل لفنان، هما الجانب المتعلق بالأطر العامة وتقنيات الأداء، والآخر المضمون أو الفكرة والموضوع، وما يحمله من أبعاد نفسية وفلسفية واجتماعية، إن أحد وسائل التعبير الفني هو الجمال، والخروج عن هذه الوسيلة يسلب العمل جوهره، ويهدم أسسه الفنية، هذه المعايير لم تكن غائبة عن ذهن الكاظم فجعلنا أقدر على فهم عمله الفني الذي ترتقي فيه المهارة التقنية حد التنغيم، بسبب صلتها بالحياة، لتصبح المعاني الجمالية هو هذا الإسراف في الخيال، ليعيد تأليف المنثور من عناصر هذه الحياة في إثارة الدهشة، وهو عنصر جمالي مهم وأساس، أما العنصر الثاني فيتمثل باللون القريب إلى البرتقالي، وهو لون الرمل، بحبات وحجوم واضحة، والعنصر الجمالي الآخر هو المرآة (السراب) العاكسة لسقوف المكان الجميلة، فضلاً عن قاعدة العمل (جوهره المثير) بمعنى آخر خصوصيته، التي تحمل في حد ذاتها سحره، وسر اكتشاف تلك العناصر.

في هذه التجربة التي قدمها الكاظم تكمن الأجوبة الصامتة للأسئلة، التي تقدمت المقالة، وسيان أن تكون الأجوبة في منطقة الضوء من أبصارنا، أم في منطقة الظل من بصائرنا. وثمة حوار خفي بين الشكل والمثال، بين الوطن المتهاوي، الغائب الحاضر، بين المنظور والمضمر، لكنه حوار محكوم بامتحانات الإنسان العراقي وعذاباته. إن التعبير عن الرؤية بما يوازيها من تأليف تشكيلي يوحي بالجانب الوجودي ذاته، هنا تكمن قوة الفكرة بلغة عباس الخاصة، مثل أشجار سيزان التي لا يمكنك أن تتسلقها، أو تأكل فاكهتها. إن المتلقي يستطيع أن يشف عن تاريخ الفنان عباس الكاظم وتجربته، التي فجرت ينابيع سيرته، التي أراد أن تكون حرة كمولود جديد.

وهو غالباً ما يتخذ المواقف الجدلية من فنه، فينحاز إلى كشوفاته الذاتية في أحيان عديدة، وهذا ما فعله عباس إزاء أعماله الفنية، إن عمله (وطن) رغم بساطة التكوين، إلا أن المعالجة كانت في غاية الدقة والعناية، واستطاع أن يجمع عناصره ويبدع منها تأليفا تشكيلياً جديدا، يحمل أكبر قدر من المجاز التناغمي، والتوازن الإيقاعي، لذلك نال إعجاب الجمهور ودهشتهم، وحقق فوزاً مستحقاً. وبموازاة هذا الإنجاز، ودهشة الفوز، كان حضور الصديق كامل شياع، قادماً من أوروبا ليشارك عباس فرحته بالفوز، أثرا بالغا في نفسه، وهو موقف لن ينساه أبداً لهذا المثقف الاستثنائي. وله دلالاته بعد عقد من الزمن حين عاد لهذا (الوطن) يترصده الموت، والوطن غارق بالأسى.
 

12 - أكتوبر - 2022


(1) القدس العربي 12 اكتوبر 2022
 

* كاتب عراقي

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter