|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  13  / 11 / 2018                                 د. جمال العتابي                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الشيخِ والفلّاح في العراق ..لـ ( حنا بطاطو )
خطوة أولى نحو النضج

د. جمال العتابي *
(موقع الناس)

تُعد المسألة الزراعية في العراق من القضايا الرئيسة التي إهتمت بها الدراسات ، ودار حولها النقاش بين ممثلي مختلف الطبقات والفئات الإجتماعية والسياسية ، طيلة عقود من الزمن في تاريخ العراق الحديث ، منذ تأسيس الدولة العراقية أوائل القرن العشرين ، ونالت المسألة موقعاً إستثنائيا لما لها من أثر بالغ في مستقبل التحولات لتغييرات في التركيب الإجتماعي في الريف العراقي ، وكانت ملكية الأرض والعلاقات الزراعية محوراً جوهرياً في النقاش ، ولسنا نشك بأنه مازال قائماً ومستمراً .

وفق هذا السياق جاءت إطروحة حنا بطاطو (الشيخ والفلاح في العراق 1917- 1958) التي قدّمها لجامعة هارفرد الأمريكية لنيل شهادة الدكتوراه عام 1960 ، والتي صدرت مؤخراً في كتاب عن دار سطور البغدادية ، بترجمة د. صادق عبد علي طريخم ، وتقديم د. سلمان الهلالي .

إن القضية الجوهرية في البحث تتمثل في تتبع قضية حيازة الأرض في العراق ، ودراسة الأسباب والقوانين التي حافظت على مصالح الأقطاعيين ، وأصحاب النفوذ من الشيوخ في إقطاعيات واسعة جدا، فضلاً عن تثبيت سلطة الشيخ وما أعقبها من تطورات سياسية وإجتماعية وإقتصادية ، وإعتُمد هذا المفهوم كقاعدة أساسية ، عند الإشارة إلى العوامل التي أسهمت في تطور بنية إقطاعيات (الشيخ) شبه الأقطاعية ومنها العامل الخارجي المتمثل بسياسة حكومة الإحتلال البريطاني منذ عام 1914 ، والتي تستمد قوتها من وجود مراكز قوى متعددة ، ومحافظتها على توازن مناسب بينها . بإختصار شديد يمكن القول ان موضوعة الأرض (الملكية الخاصة) ، هي أساس سلطة الشيخ ، وهي مفتاح سلوكه السياسي والإجتماعي ، ووظفت حيازة الأرض بأبشع ما يمكن من وسائل مادية للإبقاء على الواقع المتخلف .

حسناً فعل المترجم حين رفد المكتبة العربية بدراسة مضى عليها أكثر من خمسة عقود من الزمن ، مركونة في مكتبات جامعة هارفرد، لم تتيسر للقارىء العربي قراءتها بلغته ، سيما وان المنجز المهم لبطاطو (تاريخ الطبقات الإجتماعية القديمة والحركات الثورية في العراق) ماثل أمامنا بعلميته وموضوعيته الفائقتين ، وبذل المترجم جهداً كبيراً في الشرح والتوضيح والتحقيق ، معتمداً مصادر عديدة في ملء فجوات كثيرة تخللت الدراسة .ومعالجة بعض الإخفاقات فيها ، وتقودنا هذه الملاحظة الى التنويه إليها ، والتوقف عند بعض الإشكالات التي واجهت المؤلف والمترجم معاً .

إن أولى الإشكالات ، تلك التي تتمثل في العنوان (الشيخ والفلاح في العراق) ، الذي يوحي ضمناً ، ان الدراسة ستعنى بعلاقة الشيخ والأرض في عموم العراق ، وبإطاره الجيو - سياسي الذي تشكل بعد قيام الدولة العراقية أوائل القرن العشرين ، إلا أن الإطروحة خلت من تقصي المسألة الزراعية في (شمال العراق) ، سوى ملاحظات قصيرة وسريعة عن شيوخ الأراضي الجبلية ، وإكتفى الباحث بالإشارة إلى بعض الأسماء التي أسهمت في المشهد السياسي لتاريخ العراق الحديث ، كـ (محمود البرزنجي ، وأحمد أغا البارزاني –
ص 54) ، فهذان الشيخان يمسكان بالقيادة السياسية والدينية لقبيلتيهما (ص35) ، وركزت الدراسة على وسط وجنوب العراق ، أو ما يعرف بمنطقة السهل الرسوبي ، والأراضي الي تسقى سيحاً .

كما أن إختيار مفردة (الشيخ) ، بما تحمل من رمزية ، فإن لها أكثر من دلالة في البحث والمعنى ، فإعتمد بطاطو المتداول في اللغة العامية ، في إحالة منه لطبقة ملاكي الأرض من إقطاعيين ، ورؤساء عشائر ، وموالين للإنكليز ، وللسلطة الملكية الجديدة .لذا نعتقد ان عنوان الإطروحة باللغة الإنكليزية ، كان ضروريا أن يثبت في غلاف الكتاب الأخير، لنتجنب التأويل والوقوع في لبس تفسير المفهوم ، وهو تقليد دأبت عليه البحوث الأكاديمية ، وشرط تلتزم به الترجمات لإستشعارها بأهميته الحيوية .

وحصل كذلك مع تسمية الأراضي الأميرية بـ (الميرية)، المعروفة بالأراضي المملوكة للدولة ، وأحسب ان هذه الملاحظة لاتفوت المترجم ، في إستعمالها الصحيح الوارد في النص ، رغم ما بذله من جهد متفحص في شرح العديد من المصطلحات ، وتجدر الإشارة الى ان قانون تسوية الأراضي رقم 50 لسنة 1932 ، وما تلاه من قوانين ، كانت خاتمة المطاف لنهب أراضي الدولة والفلاحين والمالكين ومتوسطيهم ، ومنح هذا النهب الصفة القانونية الثابتة ، بتنظيم سندات وسجلات الطابو على أساسه ، بمعنى آخر هو تفويض الأراضي لمن تجاوز عليها بلا بدل ، وبمساحات غير محدودة ، وإنتزاع الأراضي المفوضة من المالكين الآخرين والزرّاع الفعليين ، ومنحها لرؤساء العشائر .

كان يمكن للمترجم ان يقدم النص كما كتبه بطاطو دون تعليق أو شرح ، إلا انه تلمس الطريق الصعب في الترجمة ، فإنغمس فيها وإستعان بالمصادرللنفاذ إلى جوهر الدراسة ، وتنفس إجوائها ، وتأمل أبعادها ، محاولاً الإضاءة والإستبصار ، إلا ان محاولته تلك قادته الى التدخل في التوضيح والإضافة والتعديل ،أو الإجتهاد بلسان الكاتب ، وأحياناً يذهب إلى التأويل ، كما ورد في (
ص 181-182) ، إذ يقول في هامش (2) : يريد حنا بطاطو أن يبين ان المهاجرين إلى بغداد لم يحصل عندهم ذلك التعاطف مع أتباع الحركة الوطنية والثورية ضد العهد الملكي بسبب الموروث السلبي الذي يحملونه ضد المدينة ، والتي إرتبطت بذاكرتهم بالإبتزاز والسرقة والربا والإحتقار وغيرها . فتبدو المقاربة ضعيفة جداً بين ما توصل اليه بطاطو ، وبين ما ذهب اليه المترجم هنا .لاحظ الفعل (يريد ) !!!ولنا في هذا اللون من الترجمة أصول وتقاليد تستحق الصيانة والإثراء المستمر .

ولئن كان بمستطاع الدراسة أن تلتقط الصلات بين الشيخ والفلاح ، ومحاولة الباحث النزوع الى التجديد في البحث بمناخه الخمسيني ، غير انه تجاهل الكثير من المصادر العربية والعراقية تحديداً ، وهي دراسات مهمة لأسماء معروفة في الإقتصاد الزراعي وتاريخ العراق ، سيما بعد قيام الجمهورية الأولى عام 1958 .

وفي الدراسة خلط بين تسميات ومفاهيم ، بين الشيخ والإقطاعي ، وبين رجل العشيرة والفلاح ، أو بين العشيرة والقبيلة ، ومن التعسف أن يطلق بطاطو تسمية رجال العشائر على المهاجرين من الريف الى المدينة ، وهم فقراء الريف من الفلاحين المعدمين ، بما يحملونه من إرث تاريخي في التخلف والحرمان . الأمر الذي جعل من الهجرة ظاهرة إجتماعية خطيرة لنتائجها الكارثية على المجتمع المدني ، والتي توّجت بخطوة إرتجالية وشعاراتية لبناء مدن كبيرة في أطراف العاصمة بغداد لمهاجري الريف ، بدلاً عن تحسين الظروف المعاشية لهم ، والنهوض بالواقع الزراعي على أسس علمية صحيحة ومتأنية .

وفي معرض وصفه لطبقة الشيوخ ، يقول بطاطو: انها طبقة أمية إلى حد كبير (
ص99) ، بينما يقول عن الشيخ موحان الخيرالله (من شيوخ الغراف) إنه كان مثقفاً ، ولم يقدم لنا دليلاً على مستوى ثقافته ، سوى انه ترأس المجلس العراقي للعشائر العراقية لدعم فلسطين (ص99) ، وتؤكد الحقائق التي يدل عليها الواقع السياسي في العهد الملكي ، على تمتع الشيوخ بإمتيازات كبيرة في مجلسي النواب والأعيان ، وفي الحكومة ، بغض النظر عن المؤهلات الدراسية والفكرية لهؤلاء .

إن إطروحة حنا بطاطو كانت الخطوة الأولى نحو التوسع والعمق ، وحث الخطى إلى النضج المرتقب والأرحب ، فإن تخللتها هنات هنا وهناك ، فهي لا تشكل عامل إحباط وصمت ، وقدر الناقد أن لايصنع سدودا تحرف التيار عن مساره الصحيح ، فتجربة الكاتب والمترجم إضافة إلى الإبداع التاريخي المنجز .

 

* كاتب عراقي

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter