| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

جاسم الولائي

 

 

 

 

الأثنين 19/11/ 2007



الرهان

انطون تشيخوف
ترجمة عن السويدية : جاسم الولائي

أمسية خريفية معتمة. الصيرفي العجوز يخطو رواحاً ومجيئاً في حجرة المكتب. يفكر في دعوة أقيمت قبل خمس عشرة سنة. في تلك الدعوة اجتمع العديد من الرجال الموهوبين. تبادلوا أحاديث جادة ومهمة. في تلك الأحاديث ناقش الحاضرون عقوبة الموت. كان من بين الضيوف بعض العلماء والصحفيين. العدد الأكبر منهم قد أصبح حزباً يعارض عقوبة الموت، إعتبروا هذه الطريقة في العقاب قديمة وغير أخلاقية لا تناسب البلدان المسيحية. عدد كبير منهم أكد أن عقوبة الموت يجب أن تستبدل بعقوبة السجن مدى الحياة.
- لا أستطيع مشاطرتكم آراءكم "قال المضيف". إنني لم أجرب لا عقوبة الموت ولا السجن مدى الحياة، لكن إذا كان باستطاعتة المرء أن يحكم بشكل أولي، يرى أن عقوبة الموت أكثر أخلاقية وإنسانية من السجن. الإعدام يقتل المحكوم مرّة واحدة وفوراً، لكن الإعتقال يقتله ببطء. أي جلاد هو أكتر إنسانية الذي يقتلكم خلال بضع دقائق أم الذي يسحب حياتكم من أجسادكم خلال سنوات عديدة؟
- كلتا الطريقتين متشابهتان لا أخلاقياً، "علّق أحد الضيوف". لأنهما تصلان إلى نفس الهدف، هو خطف حياة المرء. الحكومة ليس الخالق. ليس لها الحق إطلاقاً أن تأخذ ما لا تستطيع إرجاعه إذا ما أرادت.
كان بين الضيوف حقوقي شاب ف الخامسة والعشرين. حين طُلب منه رأيه قال :
- أنا مع الرأي بأن الحكم بالموت أو بالسجن مدى الحياة كليهما خال من الأخلاق والإنسانية، لكن إذا خُيرت أنا بينهما، سأختار السجن. مادامت هناك حياة فالإحتفاظ بها أفضل من فقدانها.
نقاش ساخن دار بين الضيوف. الصيرفي الذي كان حينها أكثر شباباً وصرامة، خرج فجأة عن طوره، فضرب بقبضة يده الطاولة وصرخ وهو يلتفت إلى الحقوقي الشاب؛
- هذا غير صحيح. أراهن بمليونين على أنك لن تطيق البقاء خمس سنوات في الحبس.
- إذا كنت جاداً في رهانك، "قال الحقوقي". أراهن أنني سأتحمل ليس خمس سنوات بل خمس عشرة سنة في السجن.
- خمس عشرة سنة؟ رائع، "صرخ الصيرفي". أيها السادة أنني أراهن بمليونين.
- موافق. تضع أنت مليونين، وأنا أضع حريتي مقابل ذلك.
والآن وصل ذلك الرهان الوحشي والذي لا معنى له إلى اللحظة الحاسمة. الصيرفي الذي كان حين الرهان لا يعرف كم من الملايين في حوزته، صار يشعر بالخزي والغباء. وقتها كان مسلوب العقل مأخوذاً بالرهان. وتحت تأثير السكر مزح مع الحقوقي قائلاً :
- فكر جيداً أيها الفتى قبل أن يصبح التراجع مستحيلاً، بالنسبة لي فإن المليونين مبلغ تافه، لكنك ستغامر بخسارة ثلاث أو أربع سنوات من أجمل سني عمرك. أقول ثلاث أو أربع لأنك لن تستطيع المكوث فترة أبعد من ذلك. لا تنسى أبداً اليأس والحزن اللذين سيرافقانك في الحبس، فالحبس الإختياري أقسى بكثير من الإجباري. التفكير في كل لحظة أن لك الحق في التراجع والعودة إلى حريتك كفيل بأن يسمم حياتك كلها. أعتقد بأنك تذنب في حق نفسك.
فكر الصيرفي في كل ذلك بينما كان يذرع مكتبه جيئة وذهاباً، ليسأل نفسه :
- ما الذي كسبته حقاً من هذا الرهان، ما الذي استفدته من أن يخسر الشاب خمس عشرة سنة من عمره، ومن أن أخسر مليونين وكأنني ألقيهما في الشارع؟ هل سيوضح هذا الرهان للناس أن الحكم بالموت هو أسوأ أو أفضل من السجن مدى الحياة؟ بالتأكيد لا. إنها فقط حماقة وغباء لا معنى لهما من جهتي. كل ذلك كان فقط فكرة اقتحمت رأس رجل أصابه المال والتخمة. أما من جانبه فقد كان الطمع بكل بساطة.
أنكر الصيرفي على نفسه الذي حدث بعد تلك الليلة المشهودة.
لقد تحقق أن الحقوقي سيقضي فترة أسره تحت حراسة شديدة. لا يغادر عتبة غرفته ولا يرى مخلوقاً واحداً. لا يسمع صوتاً لإنسان، لا يرى صحيفة أو رسالة. وسمح له بالحصول على آلة موسيقية وقراءة الكتب وكتابة الرسائل والتدخين وتناول النبيذ. وعلى أساس الإتفاق، لا تعود له أية صلة بهذا العالم الواسع، غير أنه يستطيع النظر من خلال نافذة صغيرة أشبه بالكوة. كل الذي سيحتاجه من كتب وورق وأنبذة، يحصل عليها بطلب مكتوب وبالكمية التي يريد. لكن فقط من خلال النافذة. دُرس الإتفاق وتُوقع كل التفاصيل التي من شأنها فرض عزلة حقيقية كاملة. يلزم الحقوقي نفسه بأن يبقى في عزلته تماماً خمس عشرة سنة. تبدأ الساعة 12 من نهار 14 نوفمبر 1870 وتنتهي الساعة 12 من نهار 14 نوفمبر 1885. وأن أية محاولة وإن كانت بسيطة من جانب الحقوقي في كسر شروط الإتفاق، حتى لو كانت هذه المحاولة قبل دقيقتين من نهاية المهلة، يحل الصيرفي نفسه من تنفيذ الإتفاق ودفع مبلغ المليونين.
خلال سنة حبسه الأولى، عانى الحقوقي بقدر ما يتخيل المرء ويحكم من خلال رسالته القصيرة من القسوة والعزلة والرتابة. من جناحه كانت تُسمع أنغام البيانو ليل نهار وبشكل متواصل. لقد تخلى عن النبيذ والدخان وشرع في الكتابة مشيراً إلى أن هذه الأشياء توقظ فيه الرغبة إلى الصحبة، والرغبة هي العدو الأسوأ للأسير. إذ لا يوجد أكثر إضجاراً من أن يشرب المرء أجود أنواع الأنبذة وحيداً دون صحبة ودون نديم. كذلك فإن التبغ سيفسد هواء الغرفة. خلال هذه السنة أُرسلت إليه كتباً بسيطة ومسلية، بعض الروايات التي تتحدث عن الدسائس المعقدة التي يلعب فيها الجنس الدور الأهم، بعض القصص الخيالية والبوليسية والكوميدية.
خلال السنة الثانية صمتت الموسيقى، وقد عبر الحقوقي في إحدى رسائله عن رغبته في الموسيقى الكلاسيكية فقط.
في السنة الخامسة عادت الموسيقى لتُسمع من جديد، ورغب الأسير في بعض النبيذ. الذين تابعوه من خلال النافذة الصغيرة قالوا : إنه لم يمارس نشاطاً خلال ذلك العام، سوى تناول الطعام والشراب والإستلقاء على سريره. غالباً ما كان يتثاءب ويتحدث مع نفسه بعصبية، لم يقرأ. العديد من الكتب التي كانت معه بقيت في أماكنها. كان في بعض الليالي يجلس طويلاً ويكتب، يكتب ويمزق حتى يأتي الصباح حيث يمزق البقية الباقية مما كتب إلى قطع صغيرة. ونادراً ما كان يُسمع بكاؤه.
في النصف الثاني من السنة السادسة شرع السجين يعمل في حماس في دراسة اللغات والفلسفة والتاريخ. أعطى كل اهتمامه لهذه العلوم، صار كالجمرة المتقدة وهو يتابع هذه الموضوعات إلى درجة كان الصيرفي بالكاد يستطيع توفير الكتب البي يطلبها.
خلال أربع سنوات وصله من المجلدات 600 مجلد بناء على رغبته. وفي نفس الفترة، أرسل السجين إلى الصيرفي هذه الرسالة :
"سجّاني العزيز
أكتب إليك هذه السطور بست لغات. أرجو منك عرضها على أناس خبراء. واطلب منهم قراءتها. إذا لم يجدوا فيها أي خطأ. أرجو منك تحقيق رغبتي في إطلاق رصاصة واحدة في حديقة منزلك. هذه الرصاصة ستقول لي إن جهودي لم تذهب عبثاً. عباقرة كل زمان ومكان يتحدثون لغات عديدة مختلفة. في كل هؤلاء تتقد الجمرة ذاتها، وتضيء نفس الشعلة. لو علمتم أية غبطة مرعبة عايشت روحي لكي أفهم هؤلاء".
تحقق رجاء السجين حين أعطى الصيرفي أوامره بإطلاق رصاصتين في الحديقة.
بعد السنة العاشرة، كان السجين يجلس أمام طاولته هادئاً يقرأ النصوص المقدسة فقط. كان هذا الأمر يبدو غريباً بالنسبة للصيرفي. الرجل الذي استطاع قراءة 600 مجلد خلال أربع سنوات، يضيع حوالي سنتين في قراءة بعض كتب الفقراء البسيطة، وهي ليست بذاك السمك كما هي المجلدات. بعد الإنجيل جاء دور تاريخ الأديان وعلم اللاهوت.
خلال السنتين الأخيرتين عاد السجين ليقرأ من جديد دون تحديد وكيفما اتفق من علوم وموضوعات، ثمّ انشغل بالعلوم الأكاديمية، بعد ذلك أعرب عن رغبته في كتب "بيرون وتشيلر". أحياناً كان يكتب أثناء دراسته بعض الكتب الخاصة بالكيمياء والطب، يكتب رواية أو بحثاً في الفلسفة أو اللاهوت. كان في وضعه ذاك كمن يسبح في بحر وسط حطام سفينة.
فكر الصيرفي بعد ذلك وتذكر أن غداً وفي الساعة 12 نهاراً سيستعيد السجين حريته. وبناء على الإتفاق يتوجب عليه أن يدفع مليونين.
إذا حدث ذلك ستكون نهايتي، سيكون في ذلك دماري التام.
قبل خمس عشرة سنة، لم يكن يعرف كم من الملايين هي ثروته. اليوم يشعر بالرعب لمجرد التفكير في سؤال كهذا. أهو ثري بالأموال أم بالديون. لعبة البورصة الخطيرة، المضاربات المرهقة والتعب الذي لم يشعر به طيلة حياته، كما يشعر به في الوقت الراهن، كل ذلك يوشك أن يحطمه. لقد جعل ذلك أعماله تتحول من أسوأ إلى الأسوأ تدريجياً. أما رباطة الجأش والأمان النفسي والثقة ورأس المال الهائل، كلها حولته إلى مصرفي يرتعد خوفاً عند كل صعود وهبوط.
- ماذا أشجب، ومن أدين؟
لماذا لا يموت هذا الرجل؟ لقد أصبح في الأربعين. سيأخذ مني آخر فلس أملكه. سيتزوج ويضارب في البورصة وسيستمتع بحياته. وأنا سأشاهد ما يحدث، وأنظر إليه نظرة حسد وكأنني متسول، وفي كل يوم سيُسمعني نفس الجملة : "أود أن أعبر لكم عن شكري على ما وفّرتموه لحياتي من سعادة، إسمحوا لي أن أقدم لكم بعض المساعدة‍‍!"
لا … إن ذلك لا يمكن أن يحدث. إن خلاصي الوحيد وابتعادي عن الإفلاس والخراب والخزي هو في موت هذا الرجل.
الساعة تدق معلنة الثالثة صباحاً. أصغى الصيرفي. جميع من في المنزل نيام. لا يُسمع سوى صفير الريح وهي تسوط الأشجار المتجمدة يأتي من خلال النافذة. في هذا الوضع حاول العجوز أن يتحرك من دون أن يُحدث جلبة. سحب مفتاح خزانة السلاح التي لم تفتح منذ خمس عشرة سنة. إرتدى معطفه وتوجّه إلى خارج الغرفة. في الحديقة كان الجو معتماً، وكان المطر يثير ضجة فيما تصفر عاصفة متوحشة بين الأشجار لا تتركها هادئة. أجهد الصيرفي نفسه ليرى. لا يمكن للمرء في هذا الطقس أن يرى الأشجار ولا الأرض ولا تلك التماثيل البيض. حين اقترب من المكان الذي يقبع فيه جناح السجين صرخ مرتين منادياً الحارس دون أن يأتيه رد. من الواضح أن الحارس كان يبحث عن مكان يحتمي به من العاصفة، وهو نائم الآن في مكان ما في المطبخ أو المخزن.
- لو تشجعت قليلاً ونفّذت فكرتي، "فكّر لصيرفي". فإن الشكوك ستُثار حول الحارس أولاً.
تحسس طريقه في العتمة باتجاه السلم ثمّ الباب ودخل الردهة. بعد ذلك تلمّس طريقه إلى ممر ضيق. أشعل عود ثقاب. هناك سرير وحيد دون أغطية، وفي إحدى الزوايا لمح موقداً. الختم على الباب المؤدي إلى غرفة السجين مازال على حاله. حين انطفأ عود الثقاب، نظر العجوز بحركة لا إرادية خلال الفتحة الصغيرة إلى غرفة السجين. بصيص شمعة باهت ينير المكان، السجين يجلس أمام طاولته، لا يرى منه سوى ظهره وشعره وذراعيه. نقر الصيرفي بإصبعه على زجاج الفتحة، لم يجب السجين ولم يبد حراكاً. هنا رفع الصيرفي الختم عن الباب باحتراس شديد، وضع المفتاح في فتحة القفل، أصدر المفتاح صوتاً مبحوحاً باحتكاكه مع المغلاق الصدئ، وصرّت الباب. إنتظر الصيرفي متوقعاً أن يسمع فوراً إستغاثة أو صراخاً مفاجئاً. لكن ثلاث دقائق مرت استمر خلالها وبعدها الهدوء داخل الغرفة. لذلك قرر الدخول. عند الطاولة ثمّة شخص كان يجلس دون حراك. كان يبدو مختلفاًعن الآخرين تماماً. كان أشبه بهيكل عظمي تحت غطاء من الجلد بشعر نسائي مجعد ولحية مكبّبة متلبدة. البشرة كانت صفراء كالشمع مع ظلال خضراء داكنة، الوجنتان غائرتان، الظهر نحيف وطويل واليد التي تسند الرأس كثيف الشعر كانت بمنتهى الدقة والنحافة. كان مجرد النظر إليها يثير الرعب. في شعره لمعت خيوط فضية. أمام منظر الوجه الشائخ المتهاوي، لا يمكن لأحد أن يصدق أن صاحبه في الأربعين من عمره. كان نائماً وقد استلقت أمامه على الطاولة رسالة هي آخر ما كتبه بخط يده. ما الذي كتبه بهذا الخط المخرّم وهذه الحروف المتهالكة؟ مسكين أيها الرجل، "فكر الصيرفي". إنه ينام على الأرجح ويحلم بملايينه. لكنني لن أحتاج إلى أكثر من سحب هذا المخلوق نصف الميت وإلقائه على لسرير وقطع أنفاسه بسهولة بواسطة وسادة دون أن يستطيع أعظم المحققين قدرة أن يكتشف أثراً لأي عنف أو مقاومة في عملية القتل، لكن قبل ذلك لأرى ما كتب في رسالته.
"في الغد وفي الساعة الثانية عشرة ستعود لي حريتي وحقي في العيش بين الناس، لكن قبل أن أترك هذه الغرفة وأرى الشمس، أعتقد من الضروري أن أقول بضع كلمات بضمير نظيف وأمام الله الذي يراني، أقول بأنني أحتقر الحرية والحياة والصحة وكل شيء في كتبكم يدعي سعادة الحياة وفرحها. خلال خمس عشرة سنة درست الحقوق بنشاط ومثابرة، ودخلت الحياة الحقوقية، لم أرَ في الواقع لا الناس ولا الأرض، لكن في كتبكم شربت نبيذاً متبّلاً، أنشدت الأغاني، طاردت الأيائل في الغابة لاصطيادها وعشقت نساء مُشْرِحات كالغيوم كوّنتها الخيالات الشعرية لشعرائكم، زرنني في الليالي وهمسن لي بقصص رائعة فتنت وأثملت قلبي. في كتبكم تسلّقت القمم في أعالي إيلباروس ومونت بلانكس، ومن هناك شاهدت شروق الشمس وولادة الصباحات وكيف ينسحب الليل من السماء، من المحيطات وقمم الجبال، مع الذهب والأرجوان رأيت كيف تتجزّأ الغيوم وكيف تكذب البروق. رأيت الغابات الخضر، السهول والأنهار، البحار، المدن، وسمعت غناء جنيات البحر وترانيم نايات الرعاة، ولمست أجنحة الجنّ الشفيفة التي كانت تجيء طائرة إلي في غرفتي، لتحدّثني عن الله. في كتبكم إندفعت ساقطاً في هاوية بلا قرار. في كتبكم أبدعت الهاوية، إرتكبت الجرائم، أحرقت المدن، قدمت المواعظ لأفكار جديدة واقتحمت الممالك.
كتبكم وهبتني الحكمة. كل الأفكار الإنسانية التي لا تكل والتي تكونت عبر قرون تلملمت مع بعضها في تلك الكتلة الصغيرة داخل رأسي. أنا أعلم أنني أكثر حكمة وأوسع عقلاً منكم جميعاً. أنا أحتقر كتبكم وأحتقر كل مسرّات العالم وحكمته. كل شيء لا قيمة له، إلى زوال، شفاف وفاضح، مخادع مثل سراب. ما معنى ذلك؟ إذا كنا فخورين حكماء وجميلين، فإن الموت سيكنسنا جميعاً من الأرض بنفس الطريقة تماماً كفئران الأقبية، وسيأخذ معه سلالاتنا وتأريخنا. تلك العبقرية الخالدة ستحترق أو ستتجمّد في ذات الوقت مع الأرض.
لقد فقدتم عقولكم ولم تسيروا في الطريق الصحيح. الكذب أخذكم من الحقيقة، والقبح من الجمال، ستنذهلون إذا ما بدأت الضفادع والأفاعي تنمو في أشجار البرتقال والتفاح، أو إذا ما بدأت الزهور تنفث رائحة خيول متعرقة. وبنفس الطريقة سأنذهل أنا معكم. أتمنى أن لا أفهمكم. ولإظهار احتقاري لإسلوب حياتكم، أتنازل عن المليونين اللذين حلمت بهما يوماً ما وكأنهما الفردوس، أحتقرهما الآن. ولكي أفقد الحق في الحصول عليهما، سأغادر هذا المكان قبل خمس ساعات من الوقت الذي تم الإتفاق عليه. وبهذه الطريقة سأخرق الإتفاق".
حين أكمل الصيرفي قراءة لرسالة، قبل جبين الرجل السجين وأجهش في البكاء منطلقاً خارج الغرفة،وقد فقد رغبته تماماً في المال وفي البورصات بالذات، وفهم أن مثل هذا الإحتقار حري بأن يُوجه إليه شخصياً. حينها وصل بيته وتمدد في فراشه، لكن الأفكار المتضاربة التي تجمّعت في رأسه، وكذلك الدموع في عينيه منعته من النوم.
في الصباح جاء لحارس راكضاً وقد غطى الشحوب وجه تماماً، وبدأ يتحدّث ويصف كيف أنهم شاهدوا السجين يزحف خارجاً من خلال الكوة الصغيرة إلى الحديقة، ثمّ إلى الشارع وقد اختفى تماماً.
برفقة الخدم توجه الصيرفي إلى الجناح، ولكي يقطع أي كلام في موضوع السجين تناول رسالة التنازل وعاد إلى البيت ليودعها خزانته المقاومة للحريق.

 


 

Counters