|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  6  / 6 / 2020                                 جاسم المطير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..
(3)

جاسم المطير
(موقع الناس)

فهم الذات و لذتها
مظفر النواب ، شخصية نضالية، امتلك نظرة عميقة الى واقع العصر ، في القرنين العشرين ، و الحادي و العشرين . كان من دعاة (التغيير) ، تغيير عالم الفقراء ، داخلياً و خارجياً.. الكفاح ضد كل معتدٍ و اعتداءٍ وتأمين العيش الكريم للفرد و المجموع و تجاوز معطيات الحياة العابرة و النضال من اجل مجموعة القيم الانسانية ، المضادة بأفكار و مواقف كارل ماركس من الحياة .

سألته، ذات مرة، لماذا اختار (الماركسية) دليلاً في حياته السياسية ، اجابني: أن هذه النظرية هي القادرة على تمكين الحياة و الطبيعة و الأخلاق أن تنحني، جميعها، أمام الإنسان الباني لحضارته السامية ، تحت وظيفة العدالة الاجتماعية الكلية .

جاء مظفر النواب الى الحياة ، ليس مواطناً عراقياً ، اعتيادياً ، انما جاء ليبلغ طلعة شبابه الواعي، كائناً من (كبار الناس) بامتلاكه قوة الذات الإبداعية و تحدّيه عالم التناقضات السياسية و الاجتماعية، جاهزاً للعمل الجماعي و مستعداً للتضحية بحياته من أجل جماعته، التي بها يضمن تأمين الاحترام الشامل لوجوده الإنساني . وسيلته الأولى كانت الكتابة الشعرية ، التعبوية و التحليلية ، بخيال زاهٍ و قدرة خيالية في تبين الموقف و الأسلوب في هذه الحياة . اختار في الحالين ، اعني في (الموقف) و في (الأسلوب)، طرازاً احتجاجياً لكشف و اكتشاف طبيعة حركة التقدم الإنساني الى امام . لم يذم الله لأنه خلقه في مكانٍ بائسٍ و في زمانٍ بائسٍ .. كلاهما ، الزمان و المكان أخبراه أن أسفار حياته ستتلّون، بألوانٍ مختلفةٍ ، اغلب لياليها تنغيص الحياة و جميع نهاراتها لا تبتعد عن هابيل ، المقتول و لا عن دهر قابيل ، القاتل .

كل شاعرٍ حق يكون شعره من دونِ خوفٍ ، بصخبٍ او من دونِ صخبٍ ، لكنه يرجّ القاعة او ساحة الإنشاد و يزأر بها هادراً و هديراً . تنطلق قصيدته ذات الزعانف لتهز قلوب و عقول قرّائها . ذلك الشاعر هو مظفر النواب او تفجّر بموضعه او كما يمدّ دجلة ماء كثرته على جانبيه .

لعل اهم ظاهرة عجيبة واجهتني بيوم قراء تي قصيدة (للريل و حمد) كانت ردّة فعل حفزتني ان اجعل نفسي في خط النار ، بالكتابة عنها بشيءٍ كبيرٍ من انطباعاتٍ انفعاليةٍ، قوية الانتعاش و التأييد ، من فرطِ شعوري بذكائِها و حساسيةِ مفرداتِها ونوعها التجريبي الجديد. تأصلتْ هذه القصيدة بما حملته من تكنيك ذوقي عال . كان ذلك قبل حوالي ٧٠ سنة . لكن شيطان الكتابة ما ألقى بي في بوتقة الكتابة عن بيئتها الانتقالية ذات الجاذبية السيكولوجية – الفنية إلّا اليوم فقد اكتملتْ عندي ، إلى حدٍ ما ، فرصة التجهيز لمهارة القدرة الكتابية الملموسة.

حين فكرتُ بالكتابة كان شكل و محتوى تعاسة الانسان العراقي مختلفاً عن واقعها الحالي ، بل يمكنني القول أن كل شيء قد تغيّر . معنى ذلك احتمالية تغيّر شكل و محتوى صوتي و نظرتي عن (الريل) و عن (حمد) ، و عن قصيدة مظفر النواب ذاتها ، خاصة وأنها ، القصيدة ، كانت دليلاً لكثرةٍ من الشعراء الشعبيين لرفع قصائدهم الى نفس مستوى هذه القصيدة ، او ربما كان رنينها يصدح في أوراق كتاباتهم ، او ربما ابتعد عنها آخرون من كتاب الشعر الشعبي ، عن القصيدة الشعبية الجديدة ، حين ضعفتْ عقولهم امام ضغوط و همم تعليلات رجال دين و رجال تقاليد ليست عندهم قوة الصمود امام ترقية ابتكارٍ تجديديٍ ، متناغمٍ يضمن سهولة (التغيير) و (التطور) في الزمان الشعري ، النوّابي، الجديد بعد ان اقتحم الريل وحمد ، شعراء المدينة العراقية و اريافها ، وتماسكت اجتماعيا اغلب قصائد الشعراء الشعبيين الشباب . لكنني اعترف و اقول ،كثيراً، أنني ما خادعتُ نفسي بمحاولات الكتابة، لكنني ما وجدتُ نفسي قادراً ، طيلة ٧٠ سنة ، على الدخول الى مثل هذا النوع من الاستكشاف . وجدتُ أنني مرتهن ، بهذه المحاولة و معها، حملتها و حملتني ، كل هذا الزمان الطويل ، مع كل شرور الحكام المتعاقبين على دست الحكم العراقي و مع كل دفائن القوى المعادية قلوبهم لمظفر النواب و أشعاره ، الشعبية و الفصحى . حتى جاء يوم من ايام عام ١٩٩٦ حين التقينا مجموعة من العراقيين و الفلسطينيين ، بداري في منطقة الشميساني في العاصمة الأردنية . كان بينهم الباحث الدكتور سعدي الحديثي و الشاعر عبد الوهاب البياتي و الناقد محمد الجزائري و ٣ رفاق من شباب حزب الشعب الفلسطيني و ثلاثة شباب من أقربائي (عمار و علاء و سامر) و غيرهم . كما كان الشاعر الفلسطيني (وليد ابو بكر) قد حضر بصحبة صديقه العراقي (محمد الجزائري) و غيرهم من أصدقاء آخرين لا تسعفني سفائن هموم الزمان من تذكرهم . لم تكن هناك أية قضية ، سياسية او ادبية او سياسية او غيرها خارج نطاق الكينونة الحوارية في ذلك اللقاء ، كانت جلسة عشاء و سمر و موسيقى و غناء . حتى حان ، بالمصادفة ، وقت مجيء لحظاتٍ حواريةٍ حول مظفر النواب و أشعاره . كان العرض بادئاً بأحاديث الرفاق الفلسطينيين الثلاثة من أعضاء حزب الشعب الفلسطيني ، الذين سبق و ان تعهدوا بإقامة لقاء شعري - موسيقي يضم مظفر النواب و سعدي الحديثي في احد ملاعب كرة القدم بالعاصمة الاردنية ، عمان، بعد نجاح الندوة الغنائية - الفردية ، التي أحياها الدكتور سعدي الحديثي في المعهد الملكي الأردني . لكن أصول محاولة شبان حزب الشعب قد تقطعت برفض السلطات الاردنية .

كانت الأحاديث ، في تلك الليلة ، تتشعب باتجاهات عديدة . عن بلايا العراقيين في بلدهم او تلك التي تكفخ هامات الفقراء المقيمين بالأردن البعيدين عن الأدب و السياسة عموماً. كان موج النقاش يهدر بين الجميع الى ان وصل الكلام ، على لسان الشاعر الفلسطيني الضيف (وليد ابو بكر) حين اراد ان يبرهن على فحولةٍ نقديةٍ، شعريةٍ، بإلقاء قصائد اشعار مظفر النواب في رحاب الهازم و المنهزم و رحاب تقسيم قصائده بين السيء بـ(أكثرها) و الجيد بـ(أقلها) حسب مراجعه التفاعلية الذاتية ، حتى احتسب نفسه رجلا ً ماجداً قبل ان يختتم حديثه بملخص القول: (ان اعناق قصائد مظفر النواب الفصحى لا تصل الى مستوى الشعر) و (ان دنيا مظفر الشعرية تتوسل في الشعر العامي فقط..). ثم طعن مشاعر الجالسين ، من دون ان يدري ، حين قال : (ان صوت مظفر النواب غير مسموع الا عند القليل من العراقيين الريفيين) ..! .

شَعَرَ جميعُ الحاضرين ان الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر قام بتهويل بعض عباراته النقدية ، بقصد تصغير مكانة مظفر النواب الشعرية . لم يكن يتوقع ، هذا الصديق الفلسطيني ، ان يهب الرفاق الفلسطينيين الثلاثة من أعضاء حزب الشعب ، واقفين - على حيلهم - مشيرين بنوع من عصبية الكلام الى باب البيت، طالبين منه مغادرة المكان ، على الفور، أما إذا رفض فأنهم سيغادرون المكان . كان الزئير يخرج من الهامات الفلسطينية الثلاثة باستنكار أقوال الشاعر الفلسطيني وليد ابو بكر ، عن شخصية مظفر النواب ، الذي يسمو ، بنظرهم و بأوصافهم الى مرتبة المناضل من اجل حقوق الشعب الفلسطيني برمته. لم تنفع محاولاتنا مع الرفاق الثلاثة و إصرارهم بمغادرة الشاعر وليد و كان من فضائل تلك اللحظة إذعانه الى قرار الثلاثة المحبين لمظفر النواب و لشعره ففيهما يجدون خيراً للإنسانية الفلسطينية . هكذا زفّتْ ريح الشبان الثلاثة بسحبها و ترابها بالسيد وليد ابو بكر الى خارج هذه الجلسة ، لانهم وجدوا قوله امواجاً بعيدة عن سفينة الشعرُ المظفري و القصيدة النوّابية .

في مرات عديدة جلستُ حائراً، امام اوراقي و افكاري ، حين كنتُ أفكّر بالكتابة عن دليلٍ من أدلة النبوغ الشاعري عمّا اكتشفته في نهج مظفر النواب واحتراساته. غرس مظفر نهجاً تجديدياً احرق فيه عهود كتابة الشعر الشعبي . وجدتُ في عملية هذا الحرق ، منذ النظرة الاولى ، منذ القراءة الأولى، ان هذا الشاعر ، بالذات ، يخفي دهراً جديداً من الشعر الشعبي ، المرتدي ثوب (الريل و حمد) . شربتُ مرارة حيرة الكتابة حين قرأتُ ، قراءة ليست عابسة بالرغم من ان مكان القراءة كان دامساً . قصيدته ( للريل و حمد) . كان ذلك في عام من أعوام منتصف الستينات في اثناء وجودي مع هذه القصيدة الشعبية ، ذاتها، و مع ناظمها ، الشاعر مظفر النواب ، بمكان الحزن و الوجوم في نقرة السلمان . كنتُ قد قرأتها ، قبل ذلك الوقت ، مرات عديدة . صنتها و حرستها ، كما تصان الأموال و الشواهد الثمينة . وجدتُ ان هذه القصيدة قد ارتفعتْ ، بنفسها، و بالشعر الشعبي، الى ارفع منزلةٍ شعريةٍ فيها صناعة ماهرة و باهرة تخلو ، تماماً، من اي شكل من أشكال (التصنع الشعري) ، ليس في شاعرية مظفر النواب اي نوع من أنواع تقليد الآخرين . بمعنى ان البراعة المظفرية كانت صادقة بولعها التام بالإبداع التجديدي.

اجد من المسؤولية الأدبية ان أحدّد، في ما يلي ، كتلة البناء الأساسية، التي استخدمها الشاعر مظفر النواب في قصيدة الريل و حمد إذ قوّمها على ذهنية انعاش المؤثرات الحسية و تكثيفها التفاعلي ، لدى القرّاء ، كما يلي :

اولاً : أبدأ بعنوان القصيدة .
لم تكن كلمتا (الريل و حمد) مجرد ايراد اسمين مجردين (الريل) و (حمد) و لم تكونا محاولة خدعة لقلوبِ قرّاء حائرين او مضللين .. لم يكن هذا العنوان الشعري تقليداً، انما كان حُسناً من محاسن القصيدة النوّابية الأولى . أوجد لذّة السمع عن احدى وسائط النقل بين المدن العراقية . كان (القطار) يوفرها بكل غضونها و اصولها . يجد الناس في القطار (لذّة ) الانتقال به من البصرة الى بغداد او الناصرية او الى الديوانية او من بغداد الى الموصل و كركوك . تتوسع (لذّة الانتقال بالقطار) اكثر و اكثر حين يسعف الحظ ، من دون تردد، عندما يتدبّر المسافر ركوب (القطار) الى تركيا و الى أوربا ، بحسب بعض حظوظ المتمكنين برحلات أوروبية ، للدراسة الجامعية او للبعثات الدبلوماسية . كان كل مسافر الى لندن او الى باريس او فينا او برلين او غيرها يشعر انه انسان وهّاج مثل السندباد البحري ، الذي كان يطل على الدنيا من ابواب الرحلات .

لا شك ان مظفر النواب اراد من عنوان قصيدته (للريل و حمد) أن يصبح (خبيراً) ليس بمعنى ان يحمل اسماً من اسماء الله (الخبير) ، لكن بمعنى اخبارنا بالأمر بصورة غير قابلة للتفسير او للتأويل ، اي انه (اخبر) قرّاءه بحقيقة لم يكونوا يعرفونها، اي أتاهم بنبأ جديد . كانت القصيدة من اول بيتها حتى اخر واحد فيها تحمل (أنباء) جديدة بمفردات جديدة، استلّها من مزادته اللغوية الشعبية ، الغزيرة . كاشفاً عن حالة من حالات (الحب الاليم) التي خسرت فيها الحبيبة عهداً و أماناً من حبيب أعطاها عهداً و أماناً ، بمصابٍ باطنٍ حَدَثَ بمقلوبِ حالٍ لا يراه الناس وفاءً لعهد و أمان .

ثانياً : الاستبدال ..
الاحتمال الكبير ان الشاعر مظفر النواب استبدل كلمة (القطار) العربية بكلمة اخرى ليست عربية هي (الريل) لشيء من الإثارة فيها و لأن دهرها ركب اعمار الناس الصابرين على ضيم الاحتلال البريطاني ، كلّه . خَبَطَ الشاعر مظفر النواب خياله ليكشف (آلام) كلمة (الريل) و ظلمها . أنعمتْ هذه الكلمة على القرّاء بصدمة الانتباه الى استخدام كلمة (الريل) و هي ليست عربية في الشعر الشعبي العربي ، لكن القصيدة جعلتها حجّة ذكية من حجج التجديد المظفري. صارت حجة (الريل) بعد 70 عاماً من وقوعها ، تتجوّل في عديدِ اللقاءات التلفزيونية، المحنكة و غير المحنكة ، التي يقوم بها ، بهذا الزمان ، برنامجيون ، تلفزيونيون، للتعرّف على طقوسية العاشقيْن المنتسبيْن للريل و حمد ،بقصد تقييم القصيدة و ترويجها وشرح تفاصيل جبريتها بعالمٍ حقيقيٍ، ليس عشائرياً و لا طائفياً و لا معادلاً لشيءٍ مفقودٍ من الانتماء الى ثقافة اجتماعية ، ليست مكتملة ، بالمجتمع العراقي .

ثالثاً: ثبات المرأة..
جرى التأكيد في مطلع القصيدة عن ثبات المرأة في حبها وهي في (قطار الليل) و هو بكل الحالات ليس قطار السرور او قطار اليوتوبيا ، بل هو (قطار الهموم) يدمج وظيفة طقطقاته مع تفكير الراكب و رهبانيته و أحلامه بالترف و حسابات الصراع الضحل في تفاؤله و الأسطوري في تشاؤمه مع الاستهلاك اليومي ، المترف او الزاهد ، بمعظم المدن و الأرياف العراقية ، في اطار الكفاح اليومي الصعب ، للإنسان العراقي ، من اجل (البقاء للأصلح) و مقاومة الوقت العصيب . إنه قطار من نوع لا يغتفر عن ذنوبه و لا يعتذر لأية عاشقة ولهانة تسيّرها عيوب الزمان . بينما تنظر اليه المرأة بمعزف المتعة و الهوى في المرور بــ(غطار الليل) بثنائيةِ احساسٍ لا تضيع على كل عراقي او عراقية من وارثي حسرات العشق . إنها ثنائية فولكلورية عراقية متنافسة و متوازنة ، ثنائية سماع (دكَ الكهوة) و (شم رائحة الهيل)، اجمل ثنائية بالريف العراقي ، خالية من العيوب و الآفات .

رابعاً: تكرار اللازمة ..
كانت كلمات القصيدة مبنية على اللازمة المتكررة (هودر هواهم .. ولَك .. حدر السنابل كَطة) . كلمة هودر في هذه اللازمة تشير بوضوح الى المغالبة و العناء ، انطلق بها الشاعر الى كربة الهموم المتسربة الى قلوب الحبايب ، الذين يعشقون بعضهم بعضاً . كل كلمة من الكلمات الست ، بهذه اللازمة ، تحمل طاقةً منعشةً بالسماعِ الانفعالي ، المعبر بذكاء ، عن عميقِ ما في آفة الحب من قوة حاسمة و مهارة تكتيكية قوية . هنا ، اختار مظفر النواب طريقةً حسيةً، تعبيرية، فائقة ، جاذبة ، الى خيرٍ ، مسرّته موجودة و ناطقة ، تحت سنابل الارض . ان مظفر النواب بلازمته الشعرية ، كشف وفاء المرأة العاشقة لحياة من تحب من خلال ارضاء من تحب .

خامساً : العجب و الاعجاب..
ربما كان الكثير من (مفردات) القصيدة يثير (عجب القرّاء) بنفس القدر مما وقع عندي من اعجاب في اعلى درجات المتعة الشعربة . أراد مظفر ان ينحت من قصيدته ( تمثالاً) رمزياً من تماثيل العشق الانساني ، في العراق الحديث . كان قد اختار معوله النحتي بالشكل الدلالي و المعنوي داخل او حوالي كل (مفردة شعبية) من مفردات القصيدة ، المتميزة بمعانيها الفطرية او الدلالية . بصراحة تامة اقول ان رياح القصيدة قد اعجبتني ، مثلما أعجبتْ آلاف الشبان و الناس المولعين بقصائد العشاق ، التي تعبر عن معنى خاص ، و تكشف عن ذكاء الشعر العراقي و نهوض عقلانيته الفلسفية على وفقِ نهجِ مظفريٍ خاص . ربما كان في هذا النهج (أمرأً) موجهاً إلى شعراء آخرين بعد قصيدة الريل و حمد باتباع نهجها، لرفع كمال الشعر الشعبي و الفصيح ، أيضاً ، في الزمان اللاحق .

نعم .. أقنعتني القصيدة المظفرية بمذاهبها ، منذ اول يوم رؤيتي ابياتها متزينةً بعظمة معانيها و انا أواجه شعوراً غامضاً ، غلب عليه (الخير) الذي سيؤدي ، بكل تأكيد و يقين ، الى عملٍ شعريٍ ، شعبيٍ ، وجيهٍ ، و بصيرٍ ، خلال قراءتي الاولى في عام ١٩٦٠ كأنما كنتُ راكباً على عفةِ حصانٍ اضطربَ خوفاً من الوقوع الى تحت و انا استجد بإشعار جديدة (النظر) و (الشعور) و (الاثواب) ما وجدتها لدى جلال الدين الرومي و لا عند ابي العلاء المعري ، الشاعرين المحبوبين ، خفيةً ، بذاكرتي ، و لا عند المتنبي ، الذي كانت ابواب معاني قصائده مغلقة امامي، لصعوبة مفرداتها و فروضها العقائدية . تجاوز الشاعر مظفر النواب (حدود) المهام الإبداعية ، المتاحة من خلال نموذج صياغة لغوية عالية التاهيل و الحركية في التقريب بين علاقتين، إذ حقق تناغماً عظيماً بين اللهجات الفراتية و الجنوبية لإيجاد مفاهيم لغوية واحدة ،معتبرة، عند أهالي مساحة، جغرافية، عراقية، واسعة . كما سجل في اللغة الموسيقية لهذه القصيدة، تطبيقاً شمل قدراً غير قليل من التصميم اللغوي، المقرّب بين المفردتين ، العامية و الفصحى .. لقد قلب أنماط إنتاجية صناعة الشعر العراقي ، بقصيدته، المعتمدة على نظامٍ شعريٍ متفوقٍ .

لعل زمان اختفائي في لواء الناصرية عام ١٩٦٠ -١٩٦١ حيث اناط الحزب الشيوعي بي مسؤولية قيادة اللجنة المحلية في الناصرية . كنت هارباً من عنف السلطة البوليسية بمدينتي ، البصرة . قرأت القصيدة القادمة على ظهر مجلة ثقافية بغدادية ، و هي مجلة من بنات عم ثقافة الحزب الشيوعي العراقي ، الذي تفرغتُ للعمل ، سراً، بخلاياه في مدينة الناصرية . كان انحيازي لتلك القصيدة من دون إفاضة بأسئلة تبدأ بكلمات لماذا و كيف و ما معنى ..؟! و غير ذلك من الأسئلة الأخرى . غارتْ القصيدة في نفسي حال قراءتها . تبرّج عجبي عن سبب وجود فيض عواطف الشاعر النواب حيث أعجبته ، أيما أعجاب، قصة المرأة ذات اللوعة بطرف القصة ، الاول. ها هو مظفر يقول ، او انه ادرك ضرورة الصيحة العالية : (يا ريل بلله بغنج من تجزي بام شامات .. لا تمشي مشية هجر كلبي بعد ما مات.). اي كلام شعري - شعبي هذا..؟

لم يكن كلام القصيدة مجرد كلاماً بجانب كلام ، بل هو كلام فوق كلام و من تحته كلام . هكذا كان ظمأ القصيدة لا يشبع و حواس شاعرها لم تبلغ حدود نهاية القصيدة . ظل خيال شاعرها يتدفق بما حمله و يحمله قلب العاشق من وادٍ خصيبٍ متأهبٍ لاستقبال و احتضان الفرح او استقبال صدى فرح قديم . هنا أشير الى جمالية المقالة التي كتبها الشاعر الجمالي ، الشعبي ، (ريسان الخزعلي) ، الذي استحق – بنظري - درجة النجاح العليا في امتحان مقالته المنشورة في جريدة طريق الشعب في ٢ نوفمبر عام ٢٠١٨ عن قصيدة (الريل و حمد) حين دقّق و أبصر أهم مزايا ،شاعرية مظفر النواب، بسطورِ التناسب الهندسي في نبضات قصيدة شعبية واحدة، اخترعت لأحفاد البابليين عقلاً شعرياً جديداً ، لصبغ حياة الناس بصبغة المدنية المعاصرة ، خاصة و ان ناظم القصيدة كان حذراً جداً من الوقوع في محاباة الفلسفات الشعرية غير الأصيلة . وجد الشاعر الخزعلي ان المصنوع المظفري قد اختصر الوقت و الأساليب امام الأجيال الشعرية القادمة .

هنا في هذا البيت الشعري القصير جعل القاريء مع الشاعر - الناقد ريسان الخزعلي ، واثباً من على كرسيه بشيء كثير من هدى و رشد . كأن ناّابي ئماً آفاق على صوتٍ حادٍ لا يريد ان يرثى قلبَ عاشقٍ لم يمتْ، بعد . رسم الخزعلي بمقالته صورة تؤكد (بقاء النوع) الانساني الأفضل ، من العشاق و المحبين .

البيت الشعري النوّابي غطّى على سمع القارئ و بصره، بتلك النفقة الشعرية الصادرة من العمق القلبي المسحور بالإخلاص . لَهَجَ مظفر النواب بعبارتين حملتْ جوانحهما نوعاً من الشوق العاطفي العالي في اللفظ و المعنى، من خلال لوعة الرجاء الى القطار ان يحن و يشفق بما وهب من كلمات من مثل كلمة (تجزي) و هي كلمة جنوبية - فراتية بمعنى (تَمرّ) تجنب الشاعر استخدامها حتى لا يتكرر قول (المرور) اذ ربما يحدث (ضرراً سمعياً) على جمالية استهلال القصيدة ب (مرينة ... بيكم حمد ..) . كما ان مجيء مصطلح (مشية هجر) كان فيه رزق و ملائمة لفظية بين الفصاحة و العامية. حيث صار هذا البيت الشعري حاملاً (طلباً) عميقاً، منتظراً (جواباً) عميقاً حتى لو كان ارتجافاً قلبياً ، مجرداً و شديداً ، لان قلب العاشقة لم يمتْ ، بعدُ. رغم ان العشق ، بطبع العشاق ، يخشى الرفق و السلاسة إذ المعروف عنه واقعه ، بشواهدِ شواظهِ الاليمة ، اللاذعة ، خاصة في حالة الفراق المُبهم في حقيقته، حين ينتاب العاشق او العاشقة شوق يخمد ، مرة ، و يفور مرة اخرى ، مما يحرم العاشق او العاشقة هناءة النفس و راحتها . ربما اراد الشاعر النواب ان يقول بأولى قصائده الشعبية : لن تظل المرأة العراقية مستعبدة ، و لن يظل الشعب العراقي مستعبداً اذا عرفتْ المرأة العراقية طريقها الى نيل الحرية . مثلما كان الزعيم الهندي غاندي يملك معجزة (الحرية) الخالدة في بلاد الهند العظيمة و قد حققها بنقلها الى اعلى و أعمق من جبال هيمالايا و إلى جميع سكانها .

سادساً : جاءت العبارة الشعرية ، التالية، محرومة من الابتسام لأن زمان العشق صبّ على المرأة العاشقة ، مصاولةً قاسيةً جداً ، تتلخص بقول مظفر النواب : (جيزي المحطة بحزن وونين يفراكين.. ما ونسونه بعشقهم عيب تتونسين . .. يا ريل جيم حزن أهل الهوى امجيمين .). ما اراد مظفر النواب آلوقوف امام وثنية اللغة العامية و هي منظومة لغوية شمولية بين الناس من سكان القرى و الارياف ، على وجه التحديد. انما تحول قلم مظفر النواب الى دعامة (التكنوقراطيا) ، كي يقدم لغةً اخرى ، عاجلةً، ليست وثنية. اراد ان يكون شعره خفّاقاً، فيه ادانة للظلم البشري ، لكنه ، بنفس الوقت ، حاملاً قيمة عليا، على ضوء القوة الزمنية ، الاخلاقية ، القادمة الى القرن العشرين من قرون سقراط و أفلاطون و ابن خلدون . حيث الثورة الحقيقية هي ثورة ثقافية ، اخلاقية ، اجتماعية ، تزعزع جميع ما هو ليس فضيلة إنسانية .

اختار مظفر النواب ، مرةً اخرى ، كلمة (جيزي) بدلاً من كلمة (مرّي) . الاولى خشنة يتضح فيها فعل الامر واضحاً بالصوت الاقوى من كلمة (مرّي) التي ليس فيها نفس مكمن انتفاضة الغضب في حديث الأنين مع (عربات) القطار ، حين وجد ان من الخير تسميتها بروحها الشعبية السارية (فراكَين) و هي جمع مفردة (فاركون) الأجنبية باللهجة العامية ، التي هي واجمة بدون ترجمة (
fargon) عن اصل كلمة (عربة) باللغة الانكليزية ، وهي الكلمة الأكثر شعبية و استخداماً من الكلمة العربية، في تلك الفترة من فترات تطور الحديث باللهجات المحلية . بذلك احس الشاعر النواب باستراحة (أهل الهوى) الذين ينطلق من صدورهم أنين الأحزان.

من هذا المنطلق، أرى خيالاً معلوماتياً – تكنوقراطياً آخر في المشهد الشعري لقصيدة الريل و حمد و هو ان انفراد الشاعر مظفر النواب بالمصنوع في شعره الشعبي بشرف قصيدة (الريل و حمد) كان قد قدّم مثالاً واضحاً على موهبته الخالدة في عالم البناء الشعري - الشعبي. حيث حوّل (الفطرة الشعرية) إلى (طاقةٍ فكرية) . بمعنى ان طاقته الفكرية كانت اختراعاً انسانياً ، من اختراعات مجهوده الذاتي، مبعداً نفسه عن (التقليد) و عن جميع شوائب الصنعة الشعرية ، الفنية ، التقليدية ، مؤكداً ، بذلك ، ان الدنيا تكشف ، دائماً ، عن جمالها ، عن طريق الضرورة . كذلك فأن مظفر الشاعر ، من وجهة (نظر) و (فعل) مظفر النوّاب ، نفسه، خلق مقياساً مهماً في العلاقة بين الشاعر و الدولة . الشاعر على وفق نظر النوّاب لا يحتاج الى الدولة و مقاييسها للاعتراف به ، بل ان مقياس القيم الاساسية يقوم على ابداع الشاعر ، نفسه ، و تجديده للمطروح الشعري . التجديد الشعري الحقيقي لا سلطان عليه غير سلطان الشاعر الفذ. لا شك ان القول الصحيح ان الدولة العراقية في كل مراحلها لم تعترف بالأدباء العراقيين الحقيقيين من امثال مظفر النواب و محسن الكاظمي و معروف الرصافي و سعدي يوسف و محمد مهدي الجواهري و عبد الوهاب البياتي ومئات غيرهم . بل انها اعترفت بأقل من هؤلاء عطاءً او مزيةً شعريةً او سمعةً وطنيةً او نضاليةً و منحتهم ، بجميع العهود ، ايضاً ، خاصة في عهد الدكتاتور صدام حسين مكاسب معيشية ضخمة بإغداق الأموال و الألقاب عليهم و غيرها لأن شعرهم كُرّس لمرضاة كبرياء (الدولة العراقية) او السير وراء سياسة الحكومة بمنتهى التبعية ..

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter