|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  29  / 7 / 2016                                 جاسم المطير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الخاصية الأساسية في تعديل الدستور وضروراته ..

جاسم المطير
(موقع الناس)

منذ صدور الدستور العراقي الجديد عام 2005 وموافقة الشعب عليه باستفتاء شعبي، كان يوجد إلى جانب الموافقة القانونية جمهور من نوع آخر. جمهور بدا قليلاً ونخبة قليلة. بينهما مَنْ نظرَ إلى هذا الدستور بعينٍ أخرى، بعين التعديل الضروري لبعض أو لكثيرٍ من مواده.

قيل في حينه أن بقاء تلك المواد شيء غير حسن، بل يمكن أن يكون ضاراً بــ(كل) الدستور وغاياته. كما يمكن أن لا يكون هذا الدستور نافعا للأجيال القادمة، غير أن هذه الأصوات ظلّت راكدة وراء أبواب مغلقة لمدة عشرة أعوام.

اليوم صار هذا الصوت متعاظما تملأ اشرعته كل مظاهرات الجماهير في بغداد والمحافظات، كما دخلت نفس الأشرعة إلى البرلمان ومكاتب الأحزاب السياسية ،جميعها، بما فيها أحزاب الإسلام السياسي وإلى كثير من مؤسسات الدولة ، أيضاً، بعد اصطدامها، أثناء التطبيق، ببعض بنود الدستور المعرقلة لنشاطها.

صار المواطن العراقي مبعداً، تماماً، خلال سنوات ما بعد نيسان 2003 في ما بعد تصويته على دستور جديد. لم يعد على صلة بزمانه وبعصر جديد يمر به العالم ،كله مما جعل الدولة لا معنى لها والدستور لا قدرة له على عمل شيء لتصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتدهورة في ظل ظاهرة فساد مالي وإداري لا مثيل لها. اصبح الفساد بنظر الكثير من الحاكمين مجرد ألعاب من التسلية تبتلع أموال الشعب بسهولة، يتفرجون عليها إن لم نقل أنهم عاجزون أمامها عن فعل أي شيء لمجابهتها.

غدا المواطن العراقي متفرجاً بوعيٍ عالٍ، ناقداً بشدة، لكن وعيه ونقده لا يقدران أن يفعلا شيئاً أو يتخطيان اختلافات الحكام والبرلمانيين المتكتلين بمجموعات برلمانية طائفية، متمتعتين بامتيازات المحاصصة بكل شيء، من دون أي اهتمام بما اصاب الشعب من مآس وفواجع ، بما فيها دراما التمدد الداعشي بعد احتلال الموصل والحرب القاسية معه.

من المعروف أن دستور أي بلد من بلدان العالم تنحصر مهمته الاساسية في تحديد (التنظيم السياسي) وتعيين شكل (التنظيم الإداري) للدولة ومؤسساتها. بمعنى أن الدستور ينظّم تكوين الدولة وإقامة الحكم فيها داخل اطار مجموعة من قواعد قانونية تنظم السلطة العامة وممارستها من المنتخبين لها أو المعينين في إدارة مؤسساتها، اكتشفها الناس وطبقوها منذ القديم .

لكن التجربة القاسية في العراق المعاصر ،حيث خضعت دولته القاصرة ودستوره الناقص إلى مشاعر العصبيين المتعصبين من القادة ومعاونيهم ومستشاريهم، جعلت حياة الشعب العراقي قاسية إلى حد استحثتْ فيه كل الغرائز البدائية لتغيّم على سماء العراق وأرضه كنتيجة من نتائج الحياة المشوهة، التي خلقتها صراعات ومحاصصات القوى المهيمنة على الدولة بموجب بنود الدستور المشوه ذاته، حين صار قادة تلك القوى ومن يقف خلفهم أو أمامهم مقتنعون أن افعالهم وانفعالاتهم تنسجم مع روح الدستور .

نحن ،الآن، أمام نظرة جديدة ينبغي البحث عنها ، يمكن أن تقود البرلمانيين والدولة والأحزاب السياسية والشعب إلى نقل الواقع الدستوري الحالي إلى واقعٍ جديدٍ، يتضمن دستوراً معاصراً حقاً ، كبيراً وعميقا . ربما تبدو هذه المهمة صعبة يحس بها الناس وقادة الاحزاب والدولة والبرلمانيون جميعا.

لا شيء يصعب في الحياة السياسية والدستورية إذا كان هؤلاء مجمعين بالسير بهذا الطريق، بقناعة ونضج وإرادة حقيقية، لكي تتوفر الفرص الحقيقية لإنجاز مهمة (تعديل الدستور العراقي) المُستفتى عليه عام 2005.

شعبنا العراقي ببساطته أثبت ،بمناسبات تاريخية كثيرة، أنه من نوع الشعوب المتميزة بسلامة التفكير بالرغم من المظاهر العديدة الكثيرة التي يراد عمدا إلصاقها به لزعزعة هذه الفكرة واظهار الشعب بأنه من دون مبالاة.

ما تم اكتشافه منذ مظاهرات الجماهير في الشارع العراقي عام 2011 حتى يوم امس أن الشعب العراقي الكادح ونخبه المتنورة يناضلان من أجل إعادة تغيير واقعه السياسي والاجتماعي من خلال المطالبة العامة بــ(تعديل الدستور) سواء تعديلاً أساسياً أو جزئياً بشكلٍ يتوفر فيه قدرة السيطرة على البناء التحتي للبلاد وتخليصه من التشويهات الضارة بكل شيء يتعلق بالإنسان العراقي وحقوقه ، العامة والخاصة.

إمكانية تعديل الدستور تتوقف على توفير إمكانية واحدة لفهم حقيقة واحدة هي : إن بقاء مواد الدستور، الناقصة ،الغامضة، البائسة، المتناقضة وغير الفاعلة، المتأرجحة في التطبيق كالبندول غير المستقر أمر لا يمكن أن يستمر بعد الآن ، بل يتعين على الوطنيين العراقيين أن ينهضوا بموقف واحد لجعل دستور دولتهم حاملا قيم الديمقراطية والحرية والسلم الاجتماعي.. أن يكونوا بحركة دستورية مستمرة في العمل بتنسيق وانجاز عملية تعديل الدستور، إنجازاً حقيقياً تعم منفعته جميع المواطنين .

الدستور بطبيعته ينظّم ممارسة السلطة. تنظيم السلطة لا يمكن أن يتم إلاّ إذا وفّر الدستور عدداً من القواعد، الواضحة، البيّنة، المحددة لمركز الحكام ودورهم، المحركة لمركز المشرعين ودورهم، و المتفاعلة لمركز القضاة ودورهم .. إن هذا التوفير وفهمه يخلقان ظروفاً طبيعية في النشاط، العام والفردي، لمن يملك سلطة الأمر باسم الدولة وتحديد اختصاصات وممارسات مؤسساتها ، وتعيين اشكال تلك الممارسة على وفق الدستور وقوانينه ، التي توجه نشاط الدولة توجيهاً ديمقراطياً حقيقياً مثلما يريد الدستور نفسه.

قالت الاخبار الصحفية والتلفزيونية في الاسبوع الماضي على ضوء ما كشف نائب عن كتلة بدر البرلمانية، عن انتهاء الجهات المعنية من ترشيح ممثليها لعضوية (لجنة تعديل الدستور) في انتظار المصادقة عليها من قبل مجلس النواب، مرجحاً أن تشمل التعديلات أكثر من خمسين بنداً أبرزها المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها والصلاحيات المشتركة وقضايا الأحوال الشخصية وتقاسم الموارد المالية.

قال النائب عن كتلة بدر البرلمانية، حنين قدو، لوكالة "المدى برس"، إن (الكتل البرلمانية والجهات السياسية رشحت ممثليها لعضوية لجنة تعديل الدستور في انتظار المصادقة عليها من قبل مجلس النواب)، مشيراً إلى أن هنالك (أكثر من خمسين مادة دستورية سيشملها التعديل، ابرزها المادة 140 المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها والصلاحيات المشتركة، وقضايا الأحوال الشخصية وتقاسم الموارد المالية). وعد النائب عن محافظة نينوى، أن تلك (المواد باتت خلافية وتثير المشاكل المستمرة بين الكتل والمكونات ما يتطلب ضرورة تعديلها بموجب الاتفاق الذي توصلت إليه الكتل السياسية حيث ستتولى اللجنة البرلمانية المرتقبة ذلك).

جوهر الخبر يعني أن النواب انفسهم أعطوا الحق لأنفسهم بمعالجة قضية وطنية خطيرة تتعلق بتعديل الدستور بأنفسهم. هذا أمر لا يستجيب، لا روحياً ولا سياسياً، مع رغبة الشعب العراقي المثقل بإساءاتٍ كثيرةٍ من رجال الدولة والبرلمان خلال ثلاث أو أربع دورات برلمانية ، مما يعني أن مثل هذه اللجنة غير قادرة على أن تنال رضا الشعب وموافقته.

ليس من الضروري أن يتم (تعديل الدستور) من قبل أعضاء البرلمان ، خاصة من قبل أعضاء (كتل برلمانية) لأن هؤلاء الأعضاء مقيدون بشروط خاصة، غير الشروط التي يريد الشعب أن تتوفر فيهم يكونون فيها أمام (موقف ازدواجي) إذ أن (تعديل الدستور) ليس مثل حق (تعديل القوانين) .. إن حق تعديل الدستور، حق عام وشامل، اسمى من حق تعديل القوانين العادية مثل قانون الانتخابات أو تعديل قانون الخدمة المدنية أو قانون التقاعد.

شاهدتُ أحد أعضاء مجلس النواب، الذي عرفته بادئاً حياته مناضلاً طلابياً لينهيها مناضلاً برلمانياً، الدكتور مهدي الحافظ، بتصريح تلفزيوني، يقدم رأياً سديداً بضرورة اشراك الجمهور العراقي بواسطة نخبهِ من الكتّاب ورجال القانون والسياسيين والمثقفين المناضلين، للمشاركة بلجنة تعديل الدستور . وجدتُ بهذا المقترح قيمة ملحمية قد تساعد على (تعديل الدستور) تعديلاً جوهرياً من دون الاكتفاء بتغيير بعض ألفاظ بنوده بغيرها، مع إبقاء المواد المتصادمة، المتناقضة، وتقطيع الدستور إلى أجزاء أو أبواب، كل جزء أو باب يمكن أن يحافظ في حدود معينة أو غير معينة على قوتها وقدرتها في حرمان الدستور والشعب من المبادئ الديمقراطية الحقيقية.

إن الدستور، كما معروف، يقيم قواعد تنظيم عام للحكومة والبرلمان ولكل السلطات العامة . كما أن وضع الدساتير وتعديلها قامت وتقوم بالأساس على نظريات ديمقراطية في أوربا منذ القرن الثامن عشر منطلقة من مبادئ السيادة الشعبية ، لكي يكون الشعب هو الذي يفوّض بها آخرين لممارسة سلطته من الناحية العملية، يمكن أن يتجلى ، بذلك، تدخل الشعب في اشكال مختلفة.

تتغير الدساتير بالثورات والانقلابات العسكرية كما جرى بثورة مصر عام 1952 إذ ألغت دستوراً ملكياً وأوجدت دستوراً جمهورياً بديلاً ، ثم توالت الدساتير مع تغير الرؤساء والأوضاع . حدث نفس الشيء بالعراق حيث ألغيت دساتير وأعلنت دساتير بديلة عدة مرات منذ عام 1958 . في سوريا واليمن وامريكا اللاتينية ودول اخرى تغيرت دساتيرها بعدد الانقلابات العسكرية التي جرت فيها. لكن صيغة تعديل دستور ديمقراطي لا يمكن أن تتم وتنجز إلا على أسس ديمقراطية حقيقية.

تجربة تعديل الدستور هي تجربة جديدة ببلادنا. لم يسبق تعديل الدستور تعديلاً برلمانياً ، ديمقراطياً. لا شك ان ضرورات التعديل تأتي من أخطاء تطبيقية انكشفت ببعض بنود الدستور أو بسبب اكتشاف نقص معين أدى الى عدم الاستقرار والثبات على قواعد دستورية معينة وحمايتها من الشطط ومن النزعات الفردية والطبقية والطائفية. بهذا يمكن القول أن (تعديل الدستور) اصعب من (إعداد الدستور) ..

سقطت دساتير كثيرة في العالم ، كما سقطت دساتير عديدة في بلادنا وفي مصر وفي سوريا ، لكن عُدّلتْ الكثير من الدساتير في هولندا وفرنسا واسبانيا وامريكا وغيرها بطرق وأساليب ورؤى ديمقراطية على وفق (نظرية الضرورة) وهي نظرية اشتهرت في أوربا الديمقراطية لا تسمح لأي أحد ، فرداً أو طائفة، أن يحرف الدستور عن فن الاندماج بمصالح الشعب والدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق المواطنة.

رحلة العراقيين إلى تعديل الدستور قد تكون طويلة وصعبة. يتعين عليهم الاعتماد فيها على الشكل الكبير المحمول بـ(نظرية الضرورة) ، تماماً مثل رحلة المغامرين إلى القطب الشمالي معتمدين فيها على (نظرية السلامة).

 

بصرة لاهاي في 26 7 - 2016




 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter