|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  27  / 7 / 2020                                 جاسم المطير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..
(20)

جاسم المطير
(موقع الناس)

اراء فاطمة المحسن بالمغامرة المظفرية الشعبية
اليوم، أجد نفسي ، عطشاناً ، لسماعِ صوتٍ نسائيٍ، عراقيّ، من وسطٍ حيويٍ تحتشدُ فيه قوةٌ شبابيةٌ، فيها زهير و سعد و فرات و فاطمة وغيرهم من شبانٍ مرتجين و شاباتٍ مرتجياتٍ. جميعهم من عائلةٍ ذيقاريةٍ واحدةٍ تقودهم (أم زهير) الملاية في عاشوراء، الشاعرة المغنية بأيام السعادة و الأعياد .. تملك العائلة تاريخاً من عجائب النضال العراقي و غرائبه، في ميدان السياسة و ساحة الثقافة و في شوارع الشعر و الفن . كلهم ينشطون و يعملون من اجل إنقاذ الحرية و ما بها من قيم و حقائق، بمستوى مدن و أرياف مدينة الناصرية و جميع الحدود الذيقارية و ما نجم او ينجم عنها من أزماتٍ متأججة ، بين كبار الملاكين و فقراء الفلاحين . دعوني أُسمّي العائلة بأنها عائلة زهير الدجيلي وأما الصوت النسائي فأنا أعني صوت اخته ، فاطمة المحسن .

في هذه العائلة الصديقة حشدٌ من جيلِ النضالِ، المسرور، بالرغمِ مما يأتي عنه من كآبةٍ و سجونٍ و مضايقاتٍ نائحةٍ أخرى من افرادٍ على ميمنتها أو على ميسرتها ، حين كان ابنها الشاعر الشعبي زهير خزعل الدجيلي يمسك بقشته في سجن (نقرة السلمان) ليكتب اشعاره على حديد الكلبجات و القضبان ، مع إحساسٍ شديدٍ أن في عنقهِ قوةً تسحبه إلى كلِ مكانٍ بالوطن العراقي فيه منصة لشنقِ أصحاب الأصوات المرتفعة بالبصاق على وجه الحكومات الظالمة .

بين افراد هذه العائلة وجهٌ جميلٌ غامرٌ بالهدوءِ و الطيبة . في نفس الرأس خُلِق عقلٌ قادرٌ على تجاوزِ خوارقِ الاضطهاد الحكومي لشعب العراق و شبّان العراق. الشجاعة سجيّة من سجايا إنسانيةِ العائلة و كلِ فردٍ من افرادها . تحلّق امام عينيها أحزان شعب العراق ،كله، شعب أريد له ان لا يكون تكويناً إنسانيا ، بل من اتباع الحيوانات المجترة، يأكل و يشرب و لا يفكر.

وجه الفتاة يحمل اسماً صحفياً معلناً، فاطمة المحسن. انكشف واقع الحياة برؤيتها المتقصّية لبضع سنواتٍ وجدتْ فيها: (أصول التطور الواعي في الشعر الواعي ..). هذه الفاطمة من نوعِ نساءٍ لا تقول رأيا من دونِ معرفةٍ .

قيل لها، ذات يوم: أين إلهك..؟

أجابت:

إنه في الشِعر..

لم تحدّد جواباً، هل كانت تعني الشعر الشعبي المجمّر بنضال العراقيين من اجل استقلال بلدهم ، أو الشعر الكلاسيكي العراقي المثمر أم ذلك الشعر المُعفّر بتجديداتِ أناشيدِ عن المطر ، بدر شاكر السياب..!

حين نظرتْ الى سطور قصيدة الريل و حمد ركّزت بصرها على حقيقتين:

الأولى: فتاة الهور تمرق بأثوابِ قوسِ قزحٍ بين البردي .

الثانية :ان الشاعر مظفر النواب اكتشف كنزه بالشعر الشعبي من قصة حب شهودها طيور ترتحل على طول المواسم .

من خلال اكتشافها لهاتين الحقيقتين توصلتْ إلى حصيلةٍ شعريةٍ وصفتها فاطمة : (انها قصيدةٌ خَلَبَتْ لبّ العراقيين) من خلال (ذلك الضعف في الحب، النقص الذي يدعيه الإنسان لنفسه، والعطب في السنوات حين تخترم فتوة العمر، ومن يقل غير ذلك فهو واهم).

تمنّت الدكتورة فاطمة المحسن أن تدخل إلى صلبِ ازمةِ الحرية ، بطريقة الوعي التام و بدورِ المراقب الاجتماعي - الثقافي . إنها ، فعلاً، تملك موهبةً ثقافيةً – نقديةً ، بمستوى الكفاية الأدبية ، مما وفّر لها استجابة مباشرة لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة أوروبية . كان اهتمامها مركزاً على ان يكون الأدب العراقي معروفاً خارج حدود العراق. وجدتْ الدكتورة فاطمة ان آيات ارتباط (الحب) مع (العدالة) هو الشيء الأول، الأكثر إلحاحاً بمواجهتهِ، في عصر الموهبة المدنية المعاصرة . هدف المدنية هو (تنويع) المحدثات و (تبادل) التأثير المشترك بين الثقافات كافة ، خصوصاً ما يتعلق بموروث الشعر الشعبي و تجديده ،على اعتبار ان (التنويع) و (التبادل) يشكلّان نعمة أصيلة في المعالجة الأدبية الاجمالية.

حين اطلعتْ و قرأتْ قصيدة ( للريل و حمد) باعتبارها تجديداً لحالةِ الشعرِ الشعبي، العراقي ، في ظروف تنامي حركة الناس الفلاحين ، إثر صدور قانون الإصلاح الزراعي ، بُعيد 14 ثورة تموز ١٩٥٨ ، وجدتْ ديباجةً تغييريةً ، جديدةً، يمكن ان تكون نقطة البدء في مسيرة من مسيرات التاريخ الأدبي في العراق.

هذه الديباجة عن (الريل و حمد) أوضحتْ موقفها في حالةٍ بعيدةٍ عن (النظر الساكن) محوّلةً إياها إلى قضية اجتماعية (متحركة) بكثيرٍ من مشكلات الحب ، في ريفٍ متخلفٍ جداً بعلاقاته الاجتماعية ، لم يدوّن عهداً عن حرية القول و التعبير إلّا حين دوّنها الشاعر مظفر النواب بقصيدةٍ شعريةٍ ، منزّهة ، الى حدِّ التصوف .

الصورة المعتبرة ،هنا ، تجسّدت بظاهرةٍ طليعيةٍ دبّرها عقل الدكتورة فاطمة ، العلمي، عند استخدام ثقتها العقلية او عقليتها الموثوقة ، بما أوصل تجربتها الى رؤيةٍ مرنةٍ عن تداخلِ الريل و حمد .

فكّرتْ، عميقاً ، عن صلة ألتوافق بين الحياة و العقل ، الحياة المقيدة و العقل الحر . مما يؤدي - بنظر فاطمة المحسن - الى تجميد العقل و الحرية ، كليهما.

تُرى : هل يحتاج العشاق العراقيون الى حدودٍ لاحتماليةِ وقوعِ الحبِ بين المحبين..؟ لماذا يحتاج المحبون العراقيون الى وسيطٍ ثالثٍ بين الحب المجرد و ألحب الواقعي ...؟

على العموم انشغلت الدكتورة فاطمة بمناقشةِ قصيدةِ (الريل) باعتبارها حرية من حريات المصالحة بين الاشكالية المتعارضة ، بين رجل و امرأة ، خُلِقا في أم شامات، القرية الجنوبية، حيث الأوضاع الاقتصادية - الاجتماعية تسحق الحرية الفردية و المشاعر العاطفية بحتميةِ مواجهةِ إرادة ( حمد) القادرة على حملِ قصصِ الغرام و الحب و رميها بعيداً عن الناس و المجتمع .

حاولتْ الدكتورة فاطمة المحسن من خلال دخولها برأيٍ حول قضيةٍ اجتماعيةٍ لم تجدْ لها كمالاً و لا اكتمالاً في المدن و الارياف العراقية . ما هو مقبول في المدينة هو ، نفسه، مرفوض في الريف و ما هو مقبول في الريف مستبعد قبوله في المدينة . مثل هذه الميكانيكا الحياتية في المجتمع العراقي ، الريفي و المدني ، صعبة الدرس و التمحيص لما بينهما من تناقضات ، حتى في الاهوار الجنوبية ، أيضاً، تجعل قرارات الناس ليست واعية او انها ليست إنسانية .

ليس زيفا ولا اثارة حين أقول ، أن زمان الريل و حمد كان أفضل من زماننا الحالي ،حيث ضمائر الناس ، كانت يقظة ، كانت متحفظة ، تشعر بالبراءة في وقتها ، مثلما تشعر بالخطيئة عند وقوعها إذ تتضمن اخبار الكثير من المدن العراقية والارياف الملحقة بها، سواءً في الجنوب و الوسط او في محافظات اقليم كردستان ، في هذه الأيام ، عن خطايا لا يتحملها عقل الانسان العاقل ، حيث اصبحت قرارات (حمد الجديد) أو ( الأب المتجدد) أو ( الشقيق المستجد) هو القتل بالرصاص او الذبح او الاختناق حرقاً . اخبار فردية او عائلية ، مفزعة و مفجعة ، صارتْ أكثر عدوانيةً ضد الحرية الإنسانية، المنفتحة بين الرجل و المرأة . هناك بالوقت الحاضر ازمة عصبية، ازمة ضميرية، ازمة مغالاة دينية ، تستدعي علاجاً عاجلاً لوقف قوى ظالمة ، تنكّل بإنسانٍ يمارس الحرية أو بإنسانٍ يدعو لها أو بإنسانٍ لا يضحي بها و لا يتخلى عنها او لا يحافظ على قيمها . مع مرور الأيام ، خلال ستة عقود مضت، تشجع الناس العراقيون و قطعوا عهداً مع انفسهم على ان ترقية الانسان حسب رواية مظفر النواب بقصيدة (الريل) لا تتم إذعاناً لإطلاق الرصاص ، انما استجابةً لدواعي الشعور بالحب و بالسلم الاجتماعي وبالكرامة المصانة بالعدل و القانون و ليس بالحرمان .

تعالوا نتعاهد بالقول : النسل المتربع على عرش دجلة و الفرات من شمال جباله، حتى قرنة شط العرب ، ينبغي ان يولد من جديدٍ، متخلصاً من كل سرطانٍ اجتماعيٍ ، خبيثٍ . هذا النسل يجب ان يكون له ذرية جديدة ، محتشدة بالحب التام و السلام التام ، لتشيد هياكل الحرية في أجواء ام شامات و جميع الفضاءات التابعة لها على جميع شواطئ الرافدين ، كلها.

من يرفض انضمامه الى هذه الذرية ليس سوى من يريد نشر الداء الخبيث بين البشرية.

الضرورة ، هنا، تشير اليها فاطمة المحسن، مع انها لا تستثني حالات التجارب في ارتباطات الحب الإنساني، حيث كان ثمنه المباشر هو الهجرة بأسهل الأحوال . التعقيدات تغدو بسيطة في أم شامات ، بمعنى انها لا تواجه العقل المختص بالقتل ، كما هو الحال في نهايات الكثير من قصص الحب العراقية في المدن و الارياف .تنشرها (مصورة) كاميرات القنوات التلفزيونية ، بهذه الأيام ، كي يسقوا المشاهدين كأساً من الإرهاب الجديد و القتل الشنيع.

لم تعد قصص الحب في روايات خان الخليلي و زقاق المدق و بين القصرين ولا من نمط قصص غيدة و حمد او قيس و ليلى ، موجودة في بعقوبة او النجف او ناجحة بدون نهاية فاجعة . في الغالب نجد معروضها في مراكز الشرطة أو في المحاكم و غيرها . اما قصص الحب الانكليزية و الفرنسية ، منذ العهد الفكتوري حتى الآن، فلا وجود لها بين أفراد الطبقة الرأسمالية العراقية الحالية و توابعها ، البالية . صارت قصص الحب الريفي تنتهي بنهايات دموية ، بإمضاءِ عصاباتٍ تدعو الى نيل الموروث المزيف من أقوالٍ عن حياةٍ أبدية يقال انها قائمة على حسابٍ بعقابٍ و ثوابٍ ..!

هكذا تهب ، اليوم ، عصابات دينية مسلّحة بسلاحٍ خارج نطاق الدولة ، تعاقب الحب و المحبين ، بالرمي المنفرد او الجماعي – العائلي – العشائري.

قالت الدكتورة فاطمة بأحد مقالاتها :

(لم يبق من القصيدة الشعبية السياسية الجديدة التي وضع أصولها النواب، سوى صوت الحب الرومانسي، العاطفة البكر التي لا تعرف سوى هرطقات الجسد ولغة عشقه الحميمي. الشحنة الحسية المتوترة لفطرة الطبيعة وروائحها الحريفة.

رأى مظفر عددا لا يحصى من طيور القصب، ولم يكن بعيدا عن رؤية بورخيس وقبله فريد الدين العطار لهذه الطيور التي لم تكتشف في رحلة النهاية سوى نفسها. أشك بأن مظفر عشق يوما، ولكنه حلم بالعشق، وأحصاه، وتفلسف في لغة الجسد الصغير للمرأة وهي تجعل العالم على مقاسها مصغراً بأسمائه وأفعاله.

تاريخ قصيدة الحب بالمحكية العراقية ارتبط بالريف، وريف الجنوب تحديداً ،وتلك معلومة تبقى ناقصة إذا تذكرنا الشعر البدوي ، كما نبهت الدكتورة فاطمة . و(لكن النواب الذي كتب الكثير من قصائده بالمحكية الجنوبية، مثلما كتب بعضها بلهجة بغداد مدينته، انطلقت تجربته من وعي بعالم الفلاحين المنسيين في الجنوب، حيث يربط المثقف هدفه بالتنكر لارستقراطية ثقافية، تضع للناس مراتب في الحب والحرية.).

هكذا اكتشفَ البغداديون وكل العراق معهم، جمال تلك العوالم المكتنزة بالشعر. كما اكتشفتْ الدكتورة فاطمة المحسن حقيقة أن هدف مظفر لم و لن يكن بعيداً عن فكرة ربط المعاصرة الأدبية بالحداثة السياسية، تلك التي ترى إمكانية نسج العالم بخيط الأيديولوجيا. حيث قالت السيدة فاطمة :

انطلقت شرارة الحداثة في الشعر الشعبي العراقي،مع رحلة الزورق الذي حمل مظفر إلى الهور،على عهد قاسم، وكان الإصلاح الزراعي قد زاد عدد المهاجرين، وقوى شوكة الإقطاعيين، وتلك قصة أخرى ليست موضع قولنا. بيد أن رحلة مظفر في هور العمارة، قد أسكنته المكان، ولم تكن مجرد فرجة وإلهام ومسايرة، لمن كان يمثله مظفر الشيوعي، بل كانت اكتشافاً وانتقالاً باللغة الشعرية من فضائها الفصيح إلى منقلب أكثر التصاقا بالمعنى. اختلفت العلاقة بين المثقف ومتلقيه وموضوعه، قلب النواب العلاقة بين الفنان وفنه، فقد مثّل دور المتلقي حين كان تلميذا في مدرسة الفلاحين، وفي العودة إلى درس اللغة البدئي، وتصويتات ما قبل الكتابة.

لم يعد الدال محالا على عالم ثقافي، بل كان المدلول هو الفكرة التي تسكن لغتها وتحتضنها وتنافس وتزيح "الثقافي" منها، وترجعه الى أصله الأول، باعتبار الثقافة ملكاً لكل الحضارات، البدائية منها والمتمدينة.

بقي شعر مظفر منذ " مضايف هيل" 1959 " عشاير سعود" 1961، "جايتنة مزنة"1962 وحتى "الريل وحمد" وسواها من القصائد، بقي هذا الشعر يتداوله رفاقه من المثقفين في حيز محدود. ولكنه انتشر بين طلبة المدارس والجامعات في وقت لاحق، نهاية الستينات وبداية السبعينات، بفضل مجموعة أخرى انتسب اليها النواب فكراً، حين انشق الشيوعيون على أنفسهم إلى فرقتين، فكانت قصائد مظفر ملهمة ومستكملة صوت التيار الذي سمي "الكفاح المسلح" . .

رغم ان مظفر النواب لم يكتب سوى ديوان واحد وبضع قصائد تنتسب إلى الثوب البنفسجي ، نفسه ، الذي غطى جلد الريل وحمد . لكن شاعريته الشعبية غدتْ مدرسة تتلمذ عليها أبناء كثّر ، ممن اتقنوا اشعار الخيمة الشعرية، الشعبية ، التعبوية ، مستفيدين فائدةً كبرى مما زرعه مظفر النواب من نبات شعري جديد و متجدد في التربة العراقية الطبيعية المسقية بتفاصيل نضالية كثيرة متلاحقة منذ نصب خيمة الريل و حمد عام 1960 في فاركَون مغطى بقطار الآلام ، قطار الليل ، حين سمع دكَ القهوة و شم رائحة الهيل عند عبور سكة ام شامات بحزن شديد .

صعدت السيدة فاطمة الى متاعب الشعر الشعبي رغم شبابية الشاعر المجتهد مظفر النواب لكنني سمعتها تقول فرضا من فرائضها :

(بدا شعر النواب وكأنه زرع طالع من تربة الطبيعة، ولكن المفارقة فيه أبقت الكثير من صوره ونبرته عصية على سماع الناس الذين يتمثل صوتهم، عصية على الفلاحين الذين يكتب عنهم. فمظفر بلمساته التجريدية، وصمت كلماته ونظام تقطيع بيته وميزان موسيقاه، وابتعاد قصيدته عن البنى اللغوية للنموذج السائد في الشعر الشعبي الجنوبي، غرّب قصيدته عن أهلها، قدر ما عمل على المكوث في العلا )..

سألتُ نفسي قبل دقيقتين: ماذا تريد ، يا جاسم المطير ، ان تستخرج من سطور مقالتك و انت تتابع سطور الدكتورة فاطمة المحسن ..؟

صحيح جاء هذا التنبيه ، بوقتهِ و مكانهِ .. فقد اثقلني البحث عمّا موجود في بطنِ قصيدة الريل . من المؤكد أن فاطمة، لن تمر مروراً سريعاً، على جميع ما يستحق التأني لسببين رئيسيين :

الأول.. ان أبحاثها و مقالاتها ، جميعها ، توقفها خاشعةً امام العين العلمية .

السبب الثاني ان ورشة الدكتورة تتحرك فيها عقليتها الأدبية ضمن أساليب البحث العميق عن الحقائق ، التي تدرّبتْ عليها و لم تنأى عنها استناداً لتوصية من النابغة الذبياني .

الدكتورة فاطمة مختصة بقضايا الشعر العراقي و متابعة لكل الزعازع ، التي مرّ بها.. يعني أنها عنتْ بأحاسيس و حركات الشعر العراقي، منذ ما قبل مراحل دراستها الجامعية و الأكاديمية ، بكثير. لم اجد شيئاً ، لديها ، يتعارض مع رؤيتي في جميع ما كتبته عن ( الريل و حمد). سواء كانت كتابتها عن المقبول ، المعقول او عن المبذول ، المرذول، المصاحب لخلاخيل بعض قصص الحب في الريف العراقي. كذلك لم تغفل قصائد مظفر النواب و اشعاره السياسية ، التي مرّغتْ و ما زالتْ تمرّغ خياشيم الحكّام الطغاة ، خشماً، خشماً، من العراقيين و من خشوم الحكام العرب ، ايضاً ، ممن مرّغوا أياديهم بالرديء ، و الرديء جداً من الأفعال .

من حقي ان اقول ، الان ، انني لا أستطيع إظهار العنقاء الشعري من الريف العراقي . فالسيدة فاطمة ، هي ، بنظري، سهمٌ معرفيٌ ،غالبٌ، خرج من الناصرية و بغداد عارفاً بالعلوم الكاشفة أكثر مما اعرف . هذا ما وجدته واضحاً في كتابتها عن الريل و حمد . دخلتْ الى جميع الأماكن الفنية و الفكرية بهذه القصيدة . عرفتُ أن صوتها ليس عنيفاً ولا عنفياً ، لكنه كان شديد القوة في التنبيه . كانت فاطمة المحسن متمكنة جداً من وضع يدها و عينها على كل ما هو مليء بمحاسن الشعر الشعبي العراقي و كشف الرديء مما جرى في أم شامات . انه تصميم رؤيا شعرية قديرة و قول من أقوال الضرورات الريفية ، العراقية.

نعم.. أنا أعرف الصحفية العراقية النجيبة ، الدكتورة فاطمة المحسن . اعرفها مرجلاً صحفياً ، خصيباً. كما اعرف انها مثل الشوكة تخرس افواه كل التيوس. انها قادرة - عن علم و فهم - التمييز بين كل ما هو لونه أخضر (أحم) في قصص الحب و السلام و بين حمرة دموية صارت (أحوى) و مصاحبة لتلك القصص. على أية حال انها تزيد الخضرة اخضراراً في ما تكتبه عن الشعر و الشعراء ، خاصة إذا ما تعلق الأمر بشاعرٍ ليثٍ ، مثل مظفر النواب. انك لن تجد في كتاباتها اي نوع من تجديف الاستمتاع بالرومانتيكية ولا مجرد التطلع الى المعرفة الغريزية ، انما تجد كتابتها مليانة بالحرية الفلسفية ،المتحررة من قيود المواقف و المواقع الكلاسيكية.

يُروى لي الكثير عن شجاعتها الفكرية . لكنني لا احتاج الى ما يثبت لي شيئاً من شجاعتها فأنا اعرفها منذ أن نحرتْ شيئاً اسمه ( الخوف) من قاموس حياتها و من صحاح عملها وقتما كانت شابة صحفية نشيطة . بل يمكن الاعتماد على صوتها الشجاع في التعرف على حقيقة شجاعة الشاعر مظفر النواب ، كما لو كان النواب ، بنظرها ، شاعراً ، ثورياً، جبلياً وليس شاعراً مدنياً .

لقد تحوّطتْ فاطمة ، ليس بحمايةٍ من حمايات هذا الزمان الرديء . لم تتحوّط بخواص الذهب و المجوهرات أو بالغالي من الملبوسات و المنسوجات ، لكنها تحوّطتْ بالعلم . نهلتْ من مختلف العلوم لكي تزداد قوّة في خواصِ معارفها لتصبح واحدةً من صاحبات المعرفة الشعرية بهذا العصر، مما ساعد في سقاية بذور العطاء المُعلّى في الشعر الشعبي العراقي على يد مظفر النواب وقصيدة الريل و حمد، التي صارت ، في قلوب الشباب العراقيين و الشابات محفوظةً عن ظهر قلوبهم مثل عبارة يحفظها الناس منذ المدرسة الابتدائية : غليان الماء لا يتم إلّا عند بلوغ المائة درجة ..!

ربما يجامل البعض من الذين يحفظون بمسيرة بدنهم اشعار مظفر النواب من دون فهم كامل بمعانيها او لمعاني بعض مفرداتها. ربما يكون هذا القول صحيحاً من الناحية النسبية لأن اغلب الشعر النوّابي هو من السهل الممتنع .. الشعر الشعبي المظفري عميم على جميع محبيه مثلما هو لؤلؤة مضيئة في خزانة الشعر الشعبي العراقي الحديث.

اختم معرفتي بما وصفتْ الدكتورة فاطمة المحسن نهج الحضور الشعري – الشعبي ، بما قالته بعبارة تحذيرية واحدة :

(لعله انقلاب أوصل الشعر الشعبي العراقي إلى مرقى المنافسة مع الشعر الفصيح. وظهرت صحبته الأغنية الجديدة. ولكن الشعر المكتوب بالمحكية العراقية بقي يتأرجح في ميزان الثقافة العراقية بين السمو والابتذال. وليست السُخرة التي استخدمته فيها السياسية الحربية، وعبادة الفرد، وراء ابتذال الشعر الشعبي وحسب، بل الجماهير أيضا. هي الجماهير، حين يقصدها الشاعر يضع شعره بين شفرة سيفها البتّار. ما جناه المغنون على شعر مظفر، كان ويا للمفارقة، قد حفظ مكانته بين الأجيال الجديدة، فتلك الألحان المهلهلة، والأصوات التي تشبهها والتي غنت قصيدته، أسهمت على نحو ما، في بقاء صيته على ما كان عليه، رغم ابتعاده عن العراق).

ثم قالت الدكتورة فاطمة كلامها الطيب عن شعر النواب الفصيح: (ان النواب خلق له شهرة موازية بين العرب، ولم ينافسه في أي لقاء منبري في الخارج سوى الجواهري ودرويش ونزار قباني. ولكن العراقيين من النادر أن يتذكروا هذا النوع من الشعر، فالنواب يبقى في تصورهم شاعر القصيدة الشعبية الحديثة الأول، ولن تغير صورته قصائد كتبها بالفصحى وصفقت لها الجماهير العربية. وهذا الزعم هو تورية أو مجاز، أو اختصار، لما يمكن أن يرى قارئ شعره من توتر بين جمالية قوله وحمولته السياسية.).

 

يتبع

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter