|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  15  / 8 / 2020                                 جاسم المطير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..
(24)

جاسم المطير
(موقع الناس)


الخصوصية المكانية والتجريدية الزمانية بين الناقد ريسان الخزعلي و الشاعر مظفر النواب ..
يجتذبني ما يختلج في اشعار الشاعر الشعبي ، العراقي ، ريسان الخزعلي ، نوع خاص من بينات الوفاء الشعري ، تفجّرُ ، عنده، طاقةً شعريةً كبرى. كما تجتذبني منه تحقيقاتُ لواعجهِ الإنسانية ، ذات المثالية الخاصة ، تتقاذف من أعماقه حين يأنس ، وجودياً، مع حريةِ و ظاهريةِ اشعار مظفر النواب ودورها في اضاءة الطريق للتعلم عن طريق المماثلة الشعرية و المحاكاة الفعلية .
غالباً ما اجد قلادةً شعريةً أمامه ، على ورقةٍ حمراء أو على صدرهِ تكلّم علوم الكمّ الشعري و تعبّر عن فهم حداثة ميلاد قصيدةِ عقلهِ ، بالأسلوب المظفري . يركّز رؤية ناظريه على الانشغال بدراسة الاكتشاف العام عن طرق (التفاعل) و (الحوار) مع الآخر.
شيء مؤكد: ان الحوار الدائر حول الشعر الشعبي العراقي، ليس هو بحجم او عمق حوارٍ، دار بين الفلاسفة ، بكل انحاء العالم ، حول (نظرية التطور) لصاحبها تشارلس دارون (1809م -1882م) المعلنة من قبله في الفترة المتتالية من 1839 حتى اكتملت عام 1870 ثم استمر النقاش حولها حتى اليوم .
كما ان الحوار الشعري حول القصيدة الشعبية هو اقل، بكثير، عن الحوار الدائر بين الصحفيين العراقيين و مدير التقاعد العام حول إشكاليات الرواتب التقاعدية في العراق. اما قضايا الحوار عن (النفط العراقي) فهو اكبر أنواع الحوارات العالمية ، منذ اندلاع الثورة الفرنسية حتى اليوم .
إن الأسلوب الدارويني في (الحوار) ، بل حتى في (التفكير) هو نوع فعّال يحتاجه الشعراء الشعبيون في التعرّف على (بيئة) الشعر الشعبي لفهم اسلوب (التطور) بالقصيدة الشعبية ، لكي نتحقق ، واقعياً، عن حجم الانتقالية التطورية في جينة الشعر الشعبي ، الحادثة في خواص الشعر الشعبي ، منذ ظهور الجينة الولادية في قصيدة (الريل و حمد). يقينا ان الشاعر – الناقد ريسان الخزعلي قام بدراسة العمليات التغييرية في جينة الشعر الشعبي وقد قدّم استنتاجاتٍ عديدةً و اعتباراتٍ معرفيةٍ، بمقالاتٍ دراسيةٍ ، أوصلتْ الشعراء الشعبيين الى رؤىً نظريةٍ نافذةٍ، شديدة الأهمية ، عالجها ،عملياً، في بعضِ قصائده الشعرية – الشعبية – القصيرة .
يسعى هذا الشاعر ،اجمالاً، بحالةٍ ذهنيةٍ متوقدةٍ، لضمان بقاء ما هو (الأصلح) من أسس الشعر الى معلمي و متعلمي الشعر الشعبي ، من أبناء الجيل القادم. اهتمامه الأول قامَ على أسلوبٍ من أساليبِ تحليلِ الوضع السياسي العراقي ، بقصديةِ معرفةِ مدى تأثيره على الوضع الأدبي العراقي ، على جميع الأحداث الاجتماعية – الثقافية المركبة لإثارة (الانتباه الشعري) في تركيز المنظور على قضيةٍ واحدةٍ، معينةٍ. تماماً مثلما فعل مظفر النواب بقصيدته (الريل و حمد) ، حيث ابتكر خبراً تكوينياً عن علاقةِ حبٍ لم تنتهِ ، لا في قرية أم شامات و لا في قطار الليل .
لم يكن مظفر النواب عالماً من العلماء، الخبراء، في علم اللغةِ العربية. كما لم يكن رجلاً مختصاً بالتكيـّف المعرفي، الاجتماعي. لم يكن مالكاً أية تكويناتٍ في العلوم السيكولوجية. كان وثيق الصلة بالثقافة العراقية و بالمثقفين العراقيين و بالنضال الجماهيري. كانت كل تقاليده الاجتماعية متكيّفة مع روحهِ الابتكارية – الشاعرية . لذلك ، استطاع بنجاحٍ ، مذهلٍ، ان يحقق قدراً كبيراً من العمل الشعري – التاريخي في سياق تجديد الشعر الشعبي . انشغل الشاعر مظفر النواب بصوغِ مفهومٍ عن احداث الحب و الغرام في قريةٍ من قرى جنوب العراق فكان عطاءه ابداعياً ، مستخدماً (لهجة) شعرية، شعبية، قريبةً من التكيّف مع ( اللغة) الفصحى في زمانٍ يشهد أول وجودٍ لتطور ثورةِ 14 تموز 1958 ، مقاطعاً تاريخ التراجعية الإنسانية في النظام الملكي السابق للثورة ، بما يخص التطور المادي التاريخي في المجتمع العراقي. يبدو واضحا للجميع ان كثيراً من الشعراء العراقيين أرادوا ان يكونوا شركاء مع التجربة المظفرية ، في تحديث الشعر الشعبي و السير على هذا الطريق بعد ظهور المنظورية المظفرية، في القصيدة الريلية . من بين هؤلاء كان الشاعر ريسان الخزعلي متطابقاً مع البنية الشعرية المظفرية.
كما انغرستْ الخبرة المظفرية عند عشرات من ناظمي الشعر الشعبي او محبيه في داخل سجن (نقرة السلمان).. انخرط في هذه الأخلاقية الشعرية عدد غير قليل من السجناء منهم زهير الدجيلي و هاشم صاحب و ناظم السماوي وقد حاول الشاعر الفصيح خالد الخشان كتابة أكثر من قصيدةٍ شعبيةٍ باسمٍ شعبيٍ مستعار ، جرى توزيعها على السجناء باسم مستعار . كل من قرأها ظن ان شاعرها مظفر النواب ، نفسه .

أنشأ الشاعر (ريسان الخزعلي)، لغته الشعرية على نفس اسلوبية مظفر النواب.. تطوّرتْ و تغيّرتْ و تراكمتْ على مدى زمانٍ تاريخيٍ، ليس قصيراً، ليصبح علامة مظفرية (مستدامة) ، ليست (طارئة) ، في الشعر الشعبي الحديث . استطاع ، بشعرهِ و فكرهِ ، تجميد (الخطابية الفضفاضة) لدى كثيرٍ من شعراء آخرين ما تعلّموا تبادلية التجربة الذاتية ، مع التجارب المظفرية ، فاستخدموا وسائلَ ليستْ من شعرِ الادراك الحسّي في (الريل وحمد). كانوا تأويليين من غير ادراك. كانوا غائبين عن فهم الرؤية المظفرية.. كما كانوا غافلين عن كيفية صنع الأسلوب التفاعلي التبادلي مع الرمز الطليعي في قصيدة (الريل و حمد).
هيأ الشاعر ريسان الخزعلي ،نفسه ، للبحث عن إيجاد الحلول الملائمة و الصحيحة لكثيرٍ من تعقيداتٍ تواجه مراحل الشعر الشعبي ، من مشكلاتٍ أو من مهاراتٍ، كان منظور اشتقاقها من صلب عمليات المعرفة الشعرية – المظفرية . قلادته تضطرب مع اضطراب آليتهِ المتصوبة نحو (كتابة) قصيدةٍ من الشعر الشعبي ، بلا حدودٍ جادةٍ بين القلب و العين، بين المشاعر و تدوينها على الورق ، بين كل ما ينفث صدره من آهات. آهاته متدربة على ان يمشي و يلتقي ، دوماً، مع آهات الشعب العراقي الكادح:
• وجد الشاعر ريسان ، نفسه ، من نوعية شاعرٍ قادرٍ على التعامل مع بوليسٍ فاشيّ الهوى و الدَرَبَة على القتل و التعذيب.. بوليس لا يملك أي قسمة من المشاعر الإنسانية، لأنه من صنفِ خنازيرِ الاهوار الجنوبية الهائجة. مهما كانت قوة هذا البوليس فهو ليس اقوى من صوت الشعر الشعبي وتكويناته التعبوية لسكان الاهوار نفسها .
• وجد الشعر الشعبي قادراً على التعامل مع صخورٍ مسننةٍ بيد (بوليس – ديمقراطي) مسيطر على جميع معتقدات النظام أو معتقدات الطائفية بالنظام الجديد ، بعد التغيير عام 2003 .
• وجد تجربته قادرة على استيعاب تجارب أدباء و فنانين يجيدون تكرار العبارة أو الكلمة (المقدسة) ، لكنهم لا يجيدون فهم معانيها ، خلال ال17 سنة الأخيرة .
هذه القدرة في احتواء همومٍ كثيرةٍ عن (الشعر الشعبي ) ساعدت الخزعلي في أن يمضي، بامتداد شغله الشاغل ، بما يكتبه من مقالاتٍ نقديةٍ او إيضاحيةٍ في المسارات التنموية الثقافية ، لدى جميع أصحاب النزعة المظفرية في الشعر الشعبي، قرأتها منشورةً على صفحات الانترنت و في مقدمتها موقع الحوار المتمدن .
من خلال مطالعاتي لما يكتبه هذا الشاعر - الناقد عرفتُ أنّ من خالجيةِ عطائهِ الفكري انه أنتج اكثر من ٢٠ كتاباً ، لم تتحرك صفحات أي واحدٍ منها بين أصابع يدي، لوجود سببين في خلق هذه الإشكالية :
(1) السبب الاول ان القرّاء العراقيين، المغتربين في بلاد الغرب ، لا يجدون أي رجلٍ من المكتبيين العراقيين يفكّر او يخطّط لتزويد المثقفين العراقيين، المنتشرين في قارات العالم، بتوفيرِ فرصة الاطلاع على حركة نشر الكتب العراقية و اضطرابها. لا أحد من مدراء وأصحاب دور النشر العراقية، يفكّر في حمايةِ ثقافتِنا العراقية، بتوفير صحاح ما يصدر ببغداد من كتبٍ و دراساتٍ ، لتطوير مستوى معلوماتية المثقفين العراقيين في البلدان البعيدة .
(2) ربما اختلطتْ نفس القضية على اكثر المؤلفين العراقيين جديةً ، منهم المؤلف الشاعر - الناقد ، الصديق ريسان الخزعلي. لم يفكر في كيفية اجتياز تلال الصعاب المانعة على أهم نقطةٍ من نقاط التواصل معه ، كعلاقة طبيعية بين (قارئ) و (كاتبٍ) مفضلٍ ، عنده . انه يعرف جيداً ، اكثر من غيره ، اهتمامي المخبوص بمتابعة الشعر الشعبي .غير انني لم اطلع على كتابه .
بالرغم من انني اواجه هذين النقصين الثقافيين في تطوير المعارف الثقافية ،الفردية ، مما يجعل الحاجة ماسّة في داخل الوطن العراقي و خارجه الى علم النفس الثقافي ، بتحليل جميع أسس مشكلات الشعر الشعبي العراقي واكتشاف المهارة الفنية الشاملة ، المنظورة بالطبيعة المميزة بقصيدة (الريل و حمد) حيث عَقَدَ الناقد ريسان الخزعلي جميع أفكاره الغزيرة ، المقدمة ، من قبله، جزءاً ، جزءاً لتتكامل ،جوهرياً، في عمليةٍ انتقاليةٍ، مركزية.
بات معروفاً ان معارض الكتب العربية - اكثر من 20 معرض سنوياً - غنيةٌ بعرضِ انتاجاتِ دورِ النشرِ العربية، لكنها لا تلاعب أيادي العراقيين، المغتربين، في دول الغرب الأوربي – الأمريكي – الأسترالي وهم بالملايين. ربما 4 ملايين عراقي بالأقل.
صفوة ما اريد قوله : ان التفاعل بين القرّاء و الكتــّاب معدوم ، تماماً ، مما يجعل العراقيين المغتربين بلا مرجعية معرفية ، عراقية. ربما يجري نشر كتاب عراقي مهم ، داخلياً، لكنه لا يصل الى النخب العراقية خارج الوطن. أو ربما يصل احد العراقيين المغتربين الى تأليف كتاب يمكن ان يكون علامة قياسية بشأنٍ ما من الشؤون العراقية، لكنه من الناحية المنطقية لا يكون مفيداً ، حقاً ، ما لم يصل الى المواطن العراقي في الداخل .
هذا الراي عن ضرورة توفير الحدث التواصلي بين الداخل و الخارج كان على امتداد اكثر من قرنين من الزمان من تاريخ الأفكار الأدبية في سوريا و لبنان و مصر كانت فيه ظاهرة ادباء المهجر وصفا من ابرز اوصاف العملية المعرفية ذات الدلالة المرجعية في ميدان اللغة و الشعر خصوصا . ان مصطلح (شعراء المهجر) أو مصطلح (مدرسة المهجر) كنا ندرسه يوم كنا طلابا في المدارس الثانوية العراقية . كما كنا نعرف ان هؤلاء المهجريين هم شعراءُ عربٌ ، عاشوا ونظموا شعرهم وكتاباتهم في البلاد، التي هاجروا إليها وعاشوا فيها، ويُطلق اسم شعراء المهجر عادة على نخبة من أهل الشام وخاصة اللبنانيين المثقفين الذين هاجروا إلى الأمريكيتين (الشمالية والجنوبية) في ما بين 1870 حتى أواسط 1900، وقد اعتاد الناس تسمية أعضاء (الرابطة القلمية والعصبة الأندلسية) بشعراء المهجر، بينما في الواقع هناك الكثير من الشعراء المهاجرين الذين لم يكونوا اعضاء في تلك الروابط والنوادي الأدبية.
لكننا ، اليوم بعد أن صرنا في ( المهجر) لم يعد بإمكاننا دراسة او حتى مجرد الاطلاع على شعراء او ادباء ( الوطن) . كثير من ابناء الجيل العراقي المغترب يكشفون عن جهلهم التام بالشعر العراقي او الادب العراقي لانهم لا يعرفون من هو محمد مهدي الجواهري و لا و لا مظفر النواب ولا الدكتور مصطفى جواد و لا كوركيس عواد و لا رباب محسن الكاظمي و لا الدكتور علي جواد و لا مئات غيرهم .
ينتقل ، الشاعر – الناقد ريسان الخزعلي ، منفرداً، الى كشف الرمزية المظفرية في أولى قصائده : الريل و حمد ، فيتبعها و يصبح جزءاً منها ، لا يقل (الوضوح) عنده في قصائده و كتاباته عن (الوفاء) إلى القصدية الثقافية في تفاعلات الرجّة الشعرية ، المظفرية، المهتمة بعملية الرمزية الخيالية في بعض ابيات القصيدة الواحدة أو في جميعها . كذلك اهتمامه بدور المفردة اللسانية لكشف الطليعية المظفرية ، المكملة الى الطبيعة الرمزية المنظورية واستكمال الرمزية الطليعية.
ترى هل كان فهم قصيدة (الريل و حمد) ذا مطالعةٍ تراثية أم انها جاءت نبتاً تجديدياً في العقل النقدي – الخزعلي و في دراسات نقدية أخرى ..؟ هل هي مادة من مواد التراث العربي لأنها تعاملتْ مع قرية ام شامات ، مع رائحة الهيل ، مع سمعية دكَات القهوة ، مع لعبة الطُفّيرة ، مع خصوصياتٍ كثيرةٍ أخرى عند مخاطبة الريل .
هل تغلّبتْ النظرة المتجددة ،الحية ، على أشياء الماضي و استمرّت جذورها باقية ، موجودة ، في الريف ، بالرغم من تجمّد اغلبها في المدن الكبرى ..؟
غيرة الشاعر الوطني مظفر النواب لم تحجب اشياء الماضي عن حاضرها و لم تحجب اشياء الريف عن المدينة . ان المادة ( الجذر الريفي) قد تكاملت بلحظتها الحاضرة النقية في تلاحمها مع (الريل) أي القطار المتميز بالحركة . كل ذلك جاء من شاعرٍ ، واعٍ، متفتحِ العقل. اقتنع ريسان في الحال ان نموّه الشعري لن يتوقف ، طالما حقّق وجوده الشعري – النقدي ،بما توخّاه شاعر القصيدة المظفرية .. لعله شَعَرَ ان عليه واجباً ادبياً كبيراً، كما على شعراء كثّرٍ أخرين هو ان يحقق مصيراً منطلقاً من اساسيات (قصيدة الريل) حين عمّق مطالعته و فهمه لكائنات و تكوينات أبيات القصيدة وازداد وجوداً بمعرفة معانيها . غلب عليه اعتقاد شخصي بأن تجربته الابجدية – الشعرية لن تكون بعيدة عن وجود قصيدة (الريل) و أبجديتها ، انما يجب ان تكون الأبجدية الخزعلية جزءاً من الابجدية المظفرية ، بل انه وضع قياساته الشعرية على ذات البيئة المظفرية .
لكن جاء زمانٌ آخر .. زمان غدت كل تفصيلاته اليومية هو ممارسة سلطوية لقمع صوت الشعب بالحديد و النار، بطريقةٍ غيرِ إنسانيةٍ، مما أدّى الى وقف المحاكاة المظفرية في الشعر الشعبي العراقي. انه زمان المحاكاة الانتهازية و الاستخدامات النفعية الشعرية في هذه المحاكاة.
اصبحت (القصيدة الشعبية) في ادنى مستويات انحطاطها ، مثلما غدت مطلقة الصلاحية في المدح لشخصية الدكتاتور في اعلى مراحل اهتمام الطبقة النخبوية الخاصة ، من ذوات البدلة الزيتونية . جرى هذا الاهتمام في زمان سيطرة صدام حسين بدءاً مع قيام الحرب العراقية – الإيرانية . صارت القصيدة موضع اهتمام أصحاب المناصب الحزبية – الحكومية العليا ( الوزراء و المحافظون و المدراء العامون ) من الباحثين عن تجار الكلام الشعري بمعدل نشر يومي لا يقل عن 50 مقتطف من قصيدة شعبية في صحيفة (العراق) اليومية و 100 قصيدة في الراديو و التلفزيون و 1000 قصيدة ، بكل يوم من أيام الأسبوع الواحد في اجتماعات حزب الحكومة بفروعه المختلفة ، في بغداد و المحافظات . كل يوم تسجد (قصائد) الشعر الشعبي ، لتمجد الرئيس الدكتاتور من قبل (موظفين) و (عمال) و (حرفيين) و (مزارعين) و اصحاب (معامل) الرعب البوليسي و مستأجري الدكاكين الانتهازية ، كلهم ارتدوا ثياب العشائرية العروبية .
لو كان ابن بطوطة حياً يتجول بين مدن العالم لكان يحمل تسجيلات و سيديات و يوتيوبات عن الشعر الشعبي العراقي 1980 – 2003 لبيعها في جميع المدن الناطقة بالعربية ، لكان محتواها يثير العجب العجاب من تحوّل و تحويل جميع أصحاب المواكب الحسينية و دعاة السلطات العشائرية و رؤسائها إلى شعراء شعبيين يمتدحون البعثيين و دكتاتورهم و يمجدون كل جريمة قتل . ربما يتظلم ابن بطوطة لأن احداً من السواد الأعظم في بلدانٍ مرّ بها ، ما وجدتْ في السيديات و التسجيلات و اليوتيوبات عاملاً يدفعهم الى شرائها .لانهم صاروا يعرفون ان الشعر الشعبي و شقيقه الفصيح صار ( كلاماً كذاباً) يباع في كل نوادي بغداد الصدّامية بالأكوام .. ( كومة بفلس) . ما ظهرتْ في فترة حكم صدام حسين منظومات شعرية ، سوى الغوغائية الناشزة ، سوى منطق الشعر الشعبي الموازي للسلطة الدكتاتورية ، لكي تحفّز هياكل حزبية على القتل بالحروب ، و قمع الانتفاضات الشعبية بالنار و الحديد، المتبوعة أو المسبوقة بالشعر الشعبي، الميت، الهجين.
ظل العراقيون في كل مكان من بلاد المنفى العالمي يعبّرون عن وعيهم باجتماعاتٍ شعبيةٍ تستلزم إعادة التذكير بضرورات دراسة تكنيك قصائد الشاعر المنفي مظفر النواب. كما كانت اشعار الشعراء المتناظرة مع صوت مظفر النواب تقال، بسرية تامة، في لقاءات سرية، داخل العراق. نشأ خلال الحقبة نفسها ، جيل جديد ، استخدم خصائص (التغطية الشعرية) بأقوالٍ باطنةٍ على اقوالٍ ظاهرةٍ .. ظلّت (التغطية) قائمةً خلال حقب ما قبل انتفاضة 91 و ما بعدها.
من الصعب جداً ان تقوم ثقافةٌ واعيةٌ، قادرة على بحث التفاعلات الحياتية ، الواقعية ، بالمجتمع العراقي بعد حملةٍ بوليسيةٍ فاشيةٍ أعقبت فشل الانتفاضة الشعبية عام 1991 في الجزء العربي من العراقي و نجاحها في الجزء الكردستاني العراقي حيث كانت بيئة الانتفاضة ، مختلفة ، أختلافاً جذرياً. صارت 3 محافظات كردستانية بُنىً معقدة ، مستحدثة في (إقليم) ، الى حين سقوط النظام الدكتاتوري في نيسان عام 2003 .
كانت في عموم الثقافة الشعبية ، داخل الوطن و خارجه ، مزيّة رمزية مظفرية ، قد بلغتْ أوجها في مشروع بناء القصيدة الشعبية. لم يكن للشاعر مظفر النواب مشروع خاص ، لممارسةِ ثقافةٍ جديدةٍ بمستوى الشعر الشعبي و بيئته الجديدة . ربما تكون الأسباب واردة في مضمون مناقشات وحوار في لقاءٍ تمّ بين مظفر النواب و تشومسكي ، في الدار الثقافية – الشيبانية العامرة بولاية أمريكية ، منتظرين نشره من قبل الدكتور عزيز الشيباني. هو الذي يقرر الوقت المناسب لنشره حيث ينتظره عدد كبير من محبي النواب و تشومسكي ، بعد أن كانت تفاعلات اللقاء من صنع الشيباني بناء على اقتراح و رغبة مظفر النواب و ترحيب فريد من قبل الفيلسوف تشومسكي ، في اثناء زيارة مظفر النواب للمعالجة الطبية تحت رعايته .
لا اشك ان صديقنا النشيط ريسان الخزعلي كانت له مسارات عديدة في التنمية الثقافية – الشعبية ، الذي يشتمل على تطوير ثقافةٍ من اول تجاربه في الكتابات النقدية، التحليلية. ربما يكون كتابه الأخير قد تناول فيه تفسير و تظهير جوانب مميزة و محددة في ثقافة الشعر الشعبي من اجل تحقيق التطور المعرفي الإنساني الفردي .
تشاركتْ، صراحةً، منظورات مختلفة، احتوتها مقدمتان بقلم مؤلفه في كتاب واحد ، يتمثل فيهما ، بجلاءٍ تام ، معالم العلاقة بين النقد و الخطاب اللساني، بين ريسان الخزعلي و مظفر النواب . ثم تكوّن خطاب شعري - شعبي من المعرفة، الثقافية، السريعة، المباشرة، في الاتصال الأدبي – المعرفي بين مضمون المقدمة رقم 1 و المقدمة رقم 2 ومجموعة الاوصاف العلائقية بين الأستاذ و التلميذ ، بين مظفر و ريسان ، حيث المعرفة الشعرية العليا و المعرفة الحوارية المشتركة.
عرفتُ ان كتاباً استقصائياً أصدره الناقد ريسان الخزعلي بعنوان : (الأسرار القصية في الشعر الشعبي) ، لكن اصابعي لم تساهما بتقليب صفحاته و لا شاهدت عيناي ألوان غلافه .غير ان الوساطة المتقدمة باستعراض الكتاب كتبها قلم الحياد الإيجابي بيد ( عبد الجبار العتابي) اوجدتْ ديناصوراً ثقافياً ممتداً من بغداد الى لاهاي، كما امتدّتْ رؤية ارسطو و افلاطون من أثينا الى ابن خلدون بجامعة الزيتونة في تونس ، بديناصورٍ ثقافيٍ قديمٍ عَبَرَ البحار الواسعة .هكذا هي المعرفة تجتاز كل الجدران و العوائق .
المهم ظلّت زهور هذا الناقد - الشاعر ، عصيّة عليّ في الحصول عليها. هذه الحال أوقعتْ خسارةً كبيرةً في قنوات كتاباتي عن سلسلة من قطوعٍ تختلج في داخلي عن اشعار مظفر النواب ، خاصة بعد برقِ قصيدة ( الريل و حمد) حيث كان رعدها دهماً مؤثراً في اشعار الشاعر ريسان الخزعلي . لم اجد هذا الدهم متوفراً بكتب سيبويه او الفراهيدي ، لكنني وجدت الناقد ريسان الخزعلي واقفاً على خليج الشعر المظفري. كنت أتمنى الاجتماع مع الناقد - الشاعر من خلال الكتاب الشعري - النقدي الصادر على مذهب الشعر الشعبي ، المتميز – حسب ظني بإجادةٍ علميةٍ ، فائقة ، أتوقعها مُروجاً خضراء عن الشعر الشعبي المظفري بكتابٍ عن (اسرار الشعر الشعبي).
حُرمتُ من الاطلاع على كتاب افلح ريسان الخزعلي بإصداره .
لكنني كنتُ محظوظاً بالاطلاع على مقالةٍ كتبها ضميرُ كاتبٍ عراقيٍ ( عبد الجبار العتابي) خالف الواقعتين السلبيتين في حرماني من الكتاب الصديق . اطلعتُ ، فيسبوكياً ، على كتابهِ المتخصص بالثناء على ما قام به الشاعر مظفر النواب و متابعة أعماله الشعرية بالدخول الى مصاعد الارتفاع بتجديد الشعر الشعبي على أضلاع قصيدة ( الريل و حمد ) حيث كان فيها ( حمد) صقراً منحدراً و كان فيها ( الريل) وسيلة الصيد و الصبر .
نعم ، حققت لي الديمقراطية الفيسبوكية ، فرصة فعالة للتمتع النسبي ، بمضمونِ أفكارٍ عموميةٍ، مخزونة في سيرة حياة الناقد ريسان الخزعلي، الذي أثق، كثيراً، بمعطيات افكارهِ، الناشئة لديه من ذهنيته الابتكارية و تفكيره المستقبلي. كما اجده معتمداً على بصيرةٍ علميةٍ - ادبيةٍ ، حين يصنع مقالاته عن الشعر الشعبي ، خاصةً الأشعار المنبثقة عن بيئة (الريل و حمد) و عن الشمولية التفاعلية الافتراضية في الأجيال الشعرية اللاحقة للأخلاقية الشعرية ولدور مظفر النواب في تقديم فحواها بقصيدة (الريل) . كذلك من انبثاق العديد من القصائد المظفرية الأخرى المتناسبة ، مع تجديد مقاييس المنظومة الفنية - التعبيرية ، بمنطقِ شاعرية المعاناة الشعورية في الريل و حمد ، خلافاً للشاعرية الكلاسيكية الشعبية بقصائد ما قبل مظفر النواب .
أوضح الناقد ريسان الخزعلي مركزيته الإنسانية الحيوية، و منهجيته الشعرية ، بخصوص بعض تراكيب الأبيات الشعرية - الشعبية ، (الفردية) ،داعياً الى رؤيتها ، بدقةٍ و من ثم رؤية علاقتها (الجماعية ) في الارث الشعري المظفري. هذا الإرث ما جاء عبثاً أو سهلاً ، انما افرزه نجاح استقصاء الخزعلي بأمرين رئيسين: الأمر الأول يتعلق بقدرة ريسان الخزعلي في وضع جماليات الصورة الشعرية المظفرية تحت المجهر حيث وجد ان الصورة في شعرية النواب ارتكاز جمالي طاغ يمليه الطوفان الرومانسي الحالم على إحساس الشاعر نفسه . الامر الثاني ان ريسان الخزعلي تقصّى جماليات اللغة الشعرية عند الشاعر مظفر النواب ، حيث طاردَ بعض قصائده و استشف منها ما معناه ان مظفر النواب يستخدم جماليات تحولاته البنائية – اللغوية بتكرارٍ بديعٍ في (اللازمة الشعرية) بقصيدة الريل .
أتمكن بعد هذا ان أقول ان الناقد ريسان الخزعلي كابد ، كثيراً، ليفتح كل نافذة مغلقة في قصيدة الريادة المظفرية ، حتى بدا امام عيني ان مظفر النواب قد يكون خاتم الشعراء الشعبيين العراقيين .
ليس هذا بغريب عليه لأن العهد بينه و بين الشعر الشعبي واسع و عميق ، كذلك العهد المختص بين ريسان الخزعلي و قصيدة الريل و حمد هي علاقة أوسع و اعمق من جميع الاتفاقيات و المعاهدات بين الدول. لولا هذه السعة و هذا العمق لما استطاع ان يقف على تل الابجدية الشعرية المظفرية ، جاعلاً من القصيدة وطناً و من الشعر سلام الوطن.
ان سجية العرض العميق الواسع و سجية القدرة على معرفة حراك الشعر الشعبي المتميز بها الناقد – الشاعر ريسان الخزعلي، هما حلم هذا الجيل على جميع شعرائه ان يتعارفوا مع قصيدة الريل و حمد وان يتفاهموا مع الشعر المظفري و ان يتضامنوا مع كينونتها المتجددة.
هذا هو ملخص ما نقله عبد الجبار العتابي عند استعراض كتاب من مؤلفات الخزعلي ، المعنون : ( بستان الرازقي ، مظفر النواب . الأسرار القصية في الشعر الشعبي العراقي ) . هذا الكتاب قد دفع المؤلف الخزعلي ، حسبما رَآه العتابي، لرفع مستوى مظفر النواب بالشعر الشعبي معادلاً لمكانة الجواهري في الشعر الفصيح .
من الصوابِ جاء كلام استعراض الكتاب عن صنيعٍ شعريٍ أوصل رفعة اشعار مظفر النواب ، الشعبية، إلى مستوى رفعةِ الشاعر محمد مهدي الجواهري في الشعر الفصيح . هذا الامر يمكن ان ينطق رأياً (مزاجياً) او ان يكون (ورقة) من شجرة . ان ما شمله بالمكانة الجواهرية العالية ليس له سوى معنى واحداً، هو جعل مظفر النواب شاعراً من شعراء القمة الشعرية الواعية . الوعي ، هنا، ليس بلوغ درجة عالية من الفهم الجدي و القول الجدي لممارسة الفعل الجدي... بل يعني ان الشاعر مظفر النواب قد حقق هدفه من التزام المغامرة الشعرية - الشعبية وانه أوصل قصائده بالفعل و الوجود الى ارقى معاني الكينونة الشعرية بقيم اللهجوية ،المتطورة قرباً الى اللغة الفصحى.
لم يقل لنا ريسان الخزعلي لماذا اطلق على كتابه اسم البستان .. هل أراد تصويره بأنه (المكان) لجمع أوراد و زهور هذا (الزمان) تشببهاً بـ(البستان) لمجردِ تكوين مزهرياتٍ من فاخرِ أنواع الورد و سلالات الزهور .. أو أنه أراد ان يضيء وجه المزهرية المظفرية داخل بستان الرازقي.
لم يذكر الرازقي عبثاً او تجريداً ، انما ليقدّم أرقى و أبقى و اجمل أنواع الورد من الصنف الزاهي ، طيلة ايام السنة . هو لا يريد نشرَ عطرٍ فوّاحٍ ينقضُّ على أنوف الناس انقضاضاً . كان كلُ حرفٍ من حروف قصيدة (الريل و حمد) ينقضُّ على مكانه بالقصيدة ، انقضاضاً شعرياً ، ليس دموياً. هذا ما فعله الجواهري و القوم الأفذاذ من شعراءِ اللغة العربية مثل المتنبي(915م – 965م) و البحتري ، من شعراء العصر العباسي ( 205 هجرية – 284هجرية) والمعري(973م – 1057م) وغيرهم من الشعراء الخالدين . هنا ، منح الخزعلي مرتبة السمو والخلود الى الشاعر الشعبي، المعاصر، مظفر النواب .
بصراحة القول اجد ضرورة الاعتراف انني ما حصلتُ على مسار الخط البياني التصاعدي في التجربة الشعرية للشاعر ريسان الخزعلي، إذ لم تتوفر لي فرصة متابعة التطور الشعري لهذا الشاعر . ربما سنحت لي فرصة مراجعة بعض قصائده أزعم انني اكتشفت فيها (المعنى التام) لمصطلح الشعر الشعبي. وجدتُ في بعضها أصول ( المخاطرة الشعرية) ، كما وجدتُ في بعض قصائده صدى التجربة المظفرية ، بواقعيتها و رمزيتها و طليعيتها . ان ريسان يحمل في أبيات اشعاره قيم الحياة النضالية و تجلياتها ، العمومية و الخصوصية .
لعل اهم ما اثار انتباهي ، باعتباري واحداً من المتابعين لحركة الشعر الشعبي ، وجود الشاعر- الناقد ريسان الخزعلي معنياً ، بدرجة رئيسية بإشعار مظفر النواب و بتجلياتها كافة . كان اخرها كتاب ما وصلني، مع الأسف.
أتوقع ان كفاءة قلم الخزعلي قد بلغت مستويات تؤهله ، بكل تأكيد ، تناول القصيدة الشعبية المظفرية و نشأتها و ملامحها الفنية و السياسية و الاجتماعية، لأنه صار شاعراً شعبياً ضمّت اشعاره مخزونا معرفياً لجمالية القصيدة المظفرية من جهة و مخزوناً فنياً لتفاصيل التجربة المظفرية باعتباره كاتباً - ناقداً من جهةٍ اخرى. ما يشير الى هذه الحقائق هو اطلاعي على مقالاتٍ بقلمهِ تستقطب حالاتٍ ثقافية - شعرية ، دفعتْ و ما زالتْ تدفع عجلة التقدم في الشعر الشعبي و تحركها بالطريقة المظفرية ، لتنميتها بعد أن أصيبت محاولات الشعر الشعبي بالعطب او الجمود في فترة ما قبل مظفر النواب ، ما قبل حكاية الريل و حمد ، على وجه التحديد. اقول باختصار قولاً ربما يبدو مغامراً: ان الناقد - الشاعر - الخزعلي هو احد قلة قليلة من شعراء شعبيين وجدوا أنفسهم، جزءاً من مركّب الأدوات التعبيرية ، المظفرية ، الظافرة ، القادرة على تجسيد الحركة التجديدية في اشعار مظفر النواب وانقاذ خصائصها الفنية التي لم يستطع امتلاك أدواتها الشعرية غير هذه (القلة القليلة ).
كان الشاعر - الناقد ريسان الخزعلي في مقدمة اسماء قلة من الشعراء الشعبيين ساهمت في الحفاظ على سلامة القصيدة المظفرية من وقوعها بأيدي المقلدين الحرفيين و توجه بعضهم الى التقليد بمزالق الانشائية التقريرية او الوصفية التقريرية المجردة . الشيء المؤسف ان كثيراً من نصوص شعراء شعبيين ،خلال ربع القرن الماضي ، ظهرتْ أو أُظهرتْ بصياغاتٍ شعريةٍ تدّعي انها ممتدة مع خطوط الوعي المظفري - التجديدي، لكنها في الحقيقة ليست سوى صياغة شعرية، رتيبة و متنافرة ، جغرافياً، مع الجغرافيا الشعرية المظفرية ، القائمة أساساً على خلق نصوص تقارب بين المفردة العامية و المفردة الفصحى في القصيدة الشعبية الواحدة . كذلك خلقتْ تجديداً في لغة الحوار ، داخل شخصية الشاعر ، كاظم الحجاج ، شاعر الفصيح في المدرسة اللغوية البصراوية الحديثة ، حين ادركَ ، بوعيٍ تامٍ، ان القضاءَ على سكونيةِ القصيدة الحديثة ، الفصحى، بكلمات شعبية يجعل القصيدة البصراوية ، من هوير القرنة ، حتى شواطئ مدينة الفاو ، واجدةً نفسها في لقاءٍ بيروتيٍ فهيمٍ او مغربي بهيج.
كما يمكن للشاعر البابلي (موفق محمد ) القريب من مدرسة الكوفة اللغوية أن يغدق بعواطفه الحلاّوية ، حين يقوم باستخدام بعض كلماتٍ عاميةٍ، ذات إيقاع حماسي في قصيدته النثرية الفصيحة .
ربما يجد النقاد العرب ، الأكاديميين و غير الأكاديميين ، التحاماً و تجاوراً مع هاتين التجربتين ، الشعريتين . من المحتمل وجود مصادفة ارتباط (التجديد الشعري) بنفس وقت (التجديد الفني) في بلاد الرافدين . إذ جاءت قصيدة الريل وحمد بنفس زمان مجيء نصب الحرية المرفوع باسم جواد سليم بساحة التحرير. انه مجتمع الأرض العراقية جمعت الشعر و الفن بزمان واحد في مكان واحد ، اسهم فن جواد سليم واسهمتْ اشعار مظفر النواب بانبثاق (الاخلاق الثورية) من دون ان يتفقا ، مسبقاً. ثمة فحوص نقدية تنبثق من أعماق المجتمع وتتمركز بحيوية فائقة في عقول و قلوب الناس، مهما أثيرتْ ، حولها ، من حملاتٍ مضادةٍ منبثقة عن الشوفينية السياسية اوعن الشوفينية الذكورية او عن الخلقية العنصرية او المناطقية العشائرية ، التقليدية، و غيرها من معاناة شعورية زائفة ، جوبه بها (نصب الحرية) و جوبهتْ بها (قصيدة الريل و حمد) ، لكن اعمال (القصيدة) مثل (النصب) سَرَتْ متلازمةً مع الأخلاقية الشعبية، مع الخلقية الفعلية، من دون أية وصايةٍ، عدا وصايا الذهنية العراقية، الابتكارية ، الملتزمة بتقاليد الحرية و التحرير و الأحرار و المثمنة تثمين (الوفاء) لمزايا الذهنية الخلاّقة لدى الفنان التشكيلي جواد سليم و لدى الشاعر مظفر النواب .
لم يتكبّر الفنان جواد سليم ، على المكان ، قبل ان يرتفع النصب ، خالداً ، في ساحة الباب الشرقي ، لأنه اختزل الزمان برحيله الفجائي قبل ان ينتصب سرده التشكيلي ، في قلب بغداد، معبّراً عن تنوّع الصراعات الطبقية في التاريخ العراقي ، منذ سومر و بابل و آشور حتى 14 تموز 58 . كذلك لم يتكبّر الشاعر (مظفر النواب) بعد سماعه ارفع الألقاب الأدبية و الفنية و الشعبية من نقاد عراقيين و عرب . كلهم يمجّدون المواقف الأخلاقية العليا في قصائد الريل و شاعرها .
لم يتجه الشاعر مظفر عبد المجيد النواب نحو الجموح الشعري ، في بعض مفرداته الشعرية إلّا ليكون شاعراً، مؤازراً ، لكل تصعيدٍ بممارسات الحرية و الديمقراطية. ظلّ متواضعاًً و ظلّت خاصيته الأولى هي ميله في التعامل الجماعي ، مع كل ما يدور حول الشعر الشعبي و إمكانيات تجديده و تطويره، كي يكون صوتاً، معرفياً، مرتفعاً ضد كل أنواع الشرور السياسية ، بلغةٍ عامةٍ ، بسيطةٍ و شعبيةٍ ، بعضهم وجد في سخريتها خروجاً على الأخلاقية .. حتى حين قام الناقد (ريسان الخزعلي) بتذكيرنا بتوصيف البستان، توصيفاً اختراعياً، ميكانيكياً، ليس مزروعاً بأشجار الصفصاف، بل بشجيرات الرازقي، كي يوحي بإمكانية استنطاق البستان ،حين يكون استجواب الغابة و القائمين عليها أمراً محرّماً أو محظوراً . لقد اجبر مظفر النواب الطبيعة في العراق ان تكون متزامنةً مع العمل الشاعري – الشعبي في المساهمة بتحسين شروط العيش البشري لكل المواطنين العراقيين .
آخر قولي عن الشاعر - الناقد ريسان الخزعلي ان تكنيكه الذهني ، المستدعى في كتابه عن بستان الرازقي، برهن ان الواقعية الشعرية لا يمكن دحرها لسبب واحد ، وحيد ، هي ان (الحرية) تمترس وجودها ، عادة، في ترسانة ضخمة من البناء و الأساسيات الصلدة .
لم يكن الشعراء العراقيون التقدميون ، جميعاً، يفكرون بطريقة العشائرية و الطائفية و المناطقية المتناقضة مع نفسها . بل هم يفكرون بطريقة جديدة ، طريقة التجمع في ( بستان) و ليس التجمع في ( غابة) . كما استخدم جواد سليم تقويم رسوماتهِ بطريقةِ واضحةٍ ، افقياً و عمودياً، كذلك مارس الشاعر مظفر النواب اشعاره بطريقةٍ أفقيةٍ - عمودية ، في جميع منتديات بغداد، أي بنفس طريقة الاستخدام الواعي ، الاستخدام الثوري في المعارف و الكلام .
انه تاريخ الشعر و الشعراء يلتزم به المستقبل و المستقبليون و في مقدمتهم المستقبليون الماركسيون . كما انه تاريخ (العدل) الأكثر مرونة و تطابقاً بين مجتمعٍ حرٍ قائمٍ على مؤسساتٍ ديمقراطيةٍ و بين الجهود العدوانية، المصبوبة على الانسانية و على شعرائها الناطقين باسمها وعلى بيتها المشترك في عيش الجميع ، بستان سِمته الجوهرية ، احتواء الرازقي. .
أجمل هتاف من الطبيعة و زهورها اختاره الخزعلي ليخترق ، بجلال و بهاء، ورود الرازقي عيون قرّاء كتابهِ من النظرة الأولى لعنوانه المستجد بتذكار الحياة الجماهيرية، تحت مؤسسات ديمقراطية محروسة بأيدٍ بيضاء ، و حمايتها من ايدي الأجهزة المتخصصة بالقتل ، بالتحقيق و التعذيب .
يظل هذا الهتاف ، مرتبطاً بعناصرَ فكريةٍ متكاملةٍ ، من اجل ان يظل الشعر أداة لإنتاج الشكل المستجد من المعرفة و الأيديولوجيا، على بعضِ أسسِ الديكارتية الماهرة.
انه الجيل الذهبي ،
جيل مظفر النواب ،
خاتم الشعراء الشعبين المعاصرين.
جيل لا يتيح للأجيال القادمة الاستمرار مع اختيار محايد.
اخترع الانسان قول الشعر ليكون نشاطاً متبادلاً بين الفرد و المجتمع ، بين الطبيعة و الكائنات البشرية.

يتبع
 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter