|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  14  / 6 / 2020                                 جاسم المطير                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

زفزفات الفانتازيا و ألوان زخارفها في اشعار مظفر النواب..
(
6)

جاسم المطير
(موقع الناس)

عن زخارف اشعار مظفر النواب
لم تكن اشعار مظفر النواب بقصيدته (الريل و حمد) لهواً لغوياً، ليس فيها حاجة من حاجات ادخال عقول القرّاء الى حالة الهدوء . كانت القصيدة تحاول تنمية وجدان الوعي و الحب في طقوس ادخال (مجموع )الناس الى حياة (بعض) الناس أو توصيل حياة (بعض) الناس الى ممكنات و ماديات (جميع) الناس . انها نوع من أنواع المعاصرة المتحررة يتوق الشاعر مظفر النواب الى ان يكون افتراض وجودها ، نافعاً للناس في اختيار القوة الشعرية ، ذات الدفع الخاص ، البالغ السعة على الناس. اعطانا في القصيدة صور إنبات المحبة بين الأطفال من دقة اسرار ألعاب الصغار . حين كنت طفلاً ، بعمرٍ نابهٍ يقربُ من العاشرة أو يزيد ، اشهراً او أسابيع، لا أتردد من التخصص في التلصص على بعض صبايا المحلة الجميلات يتقافزن (الطُفّيرة) في صحنِ بيتِ فتاةِ ما فوق الجميلة اسمها ، سهيلة . معها سعاد و آمنة وأحياناً أخريات . كان ذهني ينصرف لحلِ لغزِ و تفسيرِ أسباب اهتزازٍ جسديٍ و روحيٍ ، حين ارى جزءً من فخذ سهيلة ، كأنني اصطدمُ بحاجز حديد . لم افهم السبب رغم مجاهدة فكري لأعرف ما هو مبهم في هذا الأمر .. كان يستحوذ عليٌ سحرٌ خاصٌ ، حالما ترتفع تنورتها، قليلاً ، لتكشف عن جزء من بدنها يجعلني أهيم به .. لم أكن اعرف السبب...!

مُذ كنت طفلاً ، احببت لعبة (الطُفّيرة ) وأتقنت دروسها ، النظرية ، لما فيها من طلاوةٍ وأحاسيس من بلسم القلب وما تقدّمه من حيويةٍ لا يزيد عمرها سوى لحظات . لعبة مشوقة، مفعمة بنعمة الصحة و بتقسيم عمل القفز المتناوب بين اللاعبين المتقافزين او اللاعبات المتقافزات . وجدتُ فيها كل ما يهز النفس و يهش القلب و ينعش خيالَ من يتطافر او تتطافر . كنتُ أرضي نفسي بمشاهدة القافزات ، بسرية التصرف و بمنطق ما وراء الستار ، لكن لم يكن لي توفيق المقام بمنفعة ممارسة هذه اللعبة . اغتبطتْ نفسي ، مرتين ، في دنيا ( الطفيرة) . المرة الاولى حين هبّ النسيم من تحت تنورة (سهيلة ) حين لسعتني لذّة غامضة . الثانية حين اخترقتْ وعيي ، بصورةٍ بالغة الصميم ، حين قرأتُ الظرف و الفهم و الهمس في قصيدة (الريل و حمد) .

لا يوجد طفل عشّاري ، من أصول محلة البجاري خصوصاً ، لم يهب عليه نسيم ( الطُفّيرة ) إلّا ما ندر . من ذَا الذي لا تستهويه لعبة ( الطُفّيرة) بكل المدن العراقية. .؟

مَنْ كان بإمكانهِ تجاهل تعدّد ألوان ملابس المتقافزات مع شقيقته، في صحن داره، او أمام مدخل زقاقها. لا جمود و لا عصمة لدى الجميع ، أطفالا و فتيانا و مراهقين، من تعاظم رغبة المشاركة او المشاهدة بهذه اللعبة .

في عصر أيام الاثنين ، من كل أسابيع الطفولة ، ينظّم أطفال محلة البجاري معنى من معاني الحالة الاجتماعية، البريئة ، حين تجد في كل زقاقٍ، طفلاتٍ حلواتٍ، يتقافزن بغزل بريء مع ( الطُفّيرة). حتى ان رجال الدين في المحلة كانوا يبتكرون كلاماً حلواً يقولونه مدحاً و فخراً عن لاعبات هذه اللعبة . لا ادري هل يوجد طبع مثل هذه اللعبة في الارياف العراقية او ان لها بدائل من الألعاب القروية ، لكن كلام (الطُفّيرة ) جاء شعراً شعبياً منظوماً في قصيدة النواب.

تبدو اللعبة بلا غالبٍ و لا مغلوبٍ ، في واقعها .. لكنها ( مفردة شعرية ) غنيّة جداً بمعناها ، حين ابتكرها و همهم بها مظفر النواب بقصيدته ، و هو بهذا الصدد من الغالبين ، رغم انني كنتُ ادرك انني الغالب بكل حالات المشاهدة . كما انها لعبة لا تتعب اللاعبين رغم ان حراكها يتطلب وجود راكضٍ( طافر ) من فوق ظهر شخص آخر ، (مطفور ) . انها لعبة سلفية قديمة او تراثية.. سمّها ما شئت ، غير انها تغني ابجديات الطفولة و المراهقة بالمتعة، كما الطيران يغني و يسعد الحمام .

حين كنتُ في مدينةٍ هولنديةٍ ، بحريةٍ ، اول وصولي الى الاراضي المنخفضة عام ١٩٩٧ شاهدتُ بعيني ، الشبان و الشابات ، الى جانب الأطفال ، يجتمعون و يتواترون و يتقافزون ( الطُفّيرة) بالطريقة العراقية . انتابني ، وقت ذاك، شعور عميق انه لا توجد حواجز بين سلسلة المخلوقات الانسانية ، الطفولية و الشبابية ، بين العراق و هولندا و ربما بالعالم كله . . ما كنتُ مستغرباً في غربتي و لا وجدتُ وعورةً في قبول فكرة أن احد شعراء هولندا من شباب قرية ( ديكوخ) كان قد صاغَ قصيدةً ، قبل شهرين من تاريخ وصولي اليها، قال فيها أشياء الخير عن لعبة (الطُفّيرة الهولندية) .

لم يتوفر لي مجال المقارنة بين قصيدة الشاب الهولندي و قصيدة الشاعر العراقي مظفر النواب لأن المواطنين الهولنديين من قرّاء الشعر ، يتميزون بالمطالعة الشعرية الشحيحة ، بينما المواطنين العراقيين من قرّاء الشعر الشعبي خصوصاً ، لا يرتوون إلّا بتمارين تقولها لهم اشعار الشعراء ، منها اشعار الريل و حمد .

عرفتُ شيئاً مركزاً مفاده ان (الطُفّيرة ) هي لعبة عالمية، ليس عاراً ، فيها، او توعّراً . قبل هذه المعرفة كان صديق مصري ، فنان سينمائي، قد اخبرني عام 1979 ان قرّاء الأقاصيص المصرية يقرؤون ، ايضاً، عن صنفٍ من أصناف الألعاب المصرية تشبه ( الطُفّيرة ) في العراق . كان ذلك خلال زيارتنا لمنطقةٍ شبه ريفية، جنوب القاهرة، شاهدتُ فيها اطفالاً مصريين يلعبون هذه اللعبة او ما يشبهها. من هنا جاءت إجادة الذوق في اللهجة و الصورة ، في اختيار مظفر لزبدة (الطفيرة المُضافة) الى حلاوة العسل في حوض قصيدته الشعبية الاولى ( الريل و حمد). كما سمعتُ مديحاً ، مأثوراً، نادراً، من الناشطة المصرية ، الدكتورة صافيناز كاظم ، التي قابلتها مع مظفر النواب عام ١٩٧٠ في دمشق . اقول ، صراحة ، انني كنتُ مبتهجاً ، بغاية الابتهاج ، لأنني حزرتُ الغيب في خوض موازين مظفرية، داخل القصيدة الشعبية لكي تضع ( الريل و حمد) على رأس قبيلة الشعر الشعبي ، العراقي ، الحديث.

لم يكتب الشاعر مظفر النواب ، قصيدة ( الريل و حمد) إرضاءً للحزب المنتمي إليه ولا رغبةً في ان يحصر نفسه بقضية سياسية معينة ، كما فعل شعراء كثّر، قبله و بعده . اراد ان يفعل فعلاً ، خالداً و اصيلاً ، من اجل ان يجعل الشعر الشعبي العراقي، مثل الشعر الفصيح، متمتعاً بأزهار الربيع و التجديد فجاء برياحين الجمال الشعري بقصيدة الريل و حمد بشواهد لعبة ( الطُفّيرة) المشتركة بين الإناث و الذكور .

لم يكن مظفر النواب يريد من كتابتها ان يلتصق بمجتمعٍ معينٍ، كما لم يكن يريد ان يكون مثقفاً، تابعاً . بل وقف من دون خطة و لا تخطيط الى جانب قضية معينة من قضايا هموم المرأة و هموم الرجل ، ايضاً، في زمانٍ كان يقال فيه ، ان عشق المحبين يعطّلهم عن إقامة الصلاة و فروض الدين وربما يؤدي الحب الى (الشرك..!) . لم يرم صراحة او إشارة الى ان هذه القضية ذات موضعٍ معينٍ في مسيرة الدولة او حتى المجتمع ، اي من دون الإشارة الى ان عقدة هذه القضية من مسؤولية الدولة او النظام السياسي ، كما هو حال غالبية قصائده الشعبية الاخرى .

كانت قصيدته الشعبية تنميطاً ثقافياً عفوياً حيث ناتج القصيدة عبّر ، بنفسه، عن نفسه، باعتبار موضوعها من الموضوعات الاساسية في المجتمع العراقي و هي (مسألة الحب ) المسألة القريبة من جان جاك روسو ، المرتبطة بالخلفية الاجتماعية المضطهدة جداً في الريف العراقي . انا أظن ان اي تعليل ، لا من النوع السهل و لا من النوع المعقد قد فرض نفسه على كتابة تلك القصيدة . كان دافعها الأول و الأخير هو تعليل من نوع هادئ عن التذمر الاجتماعي - الانساني و نتائجه . كان سخط الناس ليس قليلاً على أولياء أمور الشابات و الشبان ، الذين تدفعهم قلوبهم الى الحب و المحبة . كان الحب مثار قلق و شكوى بين أفراد العائلة ، لكنه انتقال من القبيلة و العشيرة و انفصال عن واجباتها و حقوقها سواء كان الانتقال داخل القبيلة و العشيرة او خارجها. كان ( الحب) مرفوضاً في المذاهب العشائرية المختلفة . اقل احتمالات القضية هي السكينة و القنوع ، للتستر ، على الساخطين ، الناقمين، من سكان القبيلة الرافضين للحب بين عاشق و عشيقة . لا مساواة بين أهل المدينة و أهالي الريف . يمكن ان تنتهي علاقات الحب و العشق في المدينة بالزواج ، بينما تنتهي نفس علاقة الحب بين رجل وامرأة من سكان الريف بعلّة القتل و الاقتتال و الفصل العشائري . كان مظفر النواب قد دَنا بهذه القصيدة دنواً عميقاً الى قلوب الناس العاشقين و الى نار العشق نفسه ، التي تجبر الانسان على الدخول الى (جنة الحب ) مزحزحاً اليها (بالنار) . ربما يشعر كاتب الشعر نفسه ان مقامه هو (الحب) ، الذي لا يباعد بين النار و الجنة لأن الحب كما في الريل و حمد ينطلق من روح الانسان و من شوقه الشديد الى المرتجى من الحب و الحبيب ، سعادة العيش و الحياة ، مهما تطاول الليل بقسوته على العاشقين ، كما توضح المطربة المصرية ام كلثوم بأغلب أغانيها ان الأرق و التضحية و الخصام هي من زعزعتْ نوم العاشقين و اقتلعتْ أشجار آمالهم . من النادر ان لا يرتفع سيف مزعج على رقاب العاشقات اولاً و بعض العاشقين ، ايضاً ، رغم وجود الكثير من القلوب العراقية المقروحة من تباريح الحب و العشق . كان الشاعر مظفر النواب يحس بلواعجها و يعبر عنها بفصاحة شعرية ، شعبية ، خلّابة . ربما صداقته المتنوعة الأشكال و الأشخاص قد فتحت أمامه تواريخ قصص الحب و الغرام بلهجات قبائلها ، الظاهرة و الباطنة. اتقن النواب ، و لا ادري كيف ..؟ معظم اللهجات العشائرية في وسط و جنوب العراق . كما ان صداقته البالغة الاحترام و الشدة مع رفيقه في درب النضال ( سعدي الحديثي) قد أغنته بشيء كثير من لهجات عشائرية في غرب العراق و في شروح معيشة البدو الرحّل بصحرائِه.

جعلتْ الحروف الشعرية تفيض بقلم الشاعر مظفر النواب، دافعاً بقصائدهِ بعد ظهور (الريل و حمد) الى شعر الكفاح الشعبي و محاولة جعله فناً من فنون الحركات الاجتماعية - الثورية لتجميع الحركات الشعبية الساخطة على كل نوعٍ من انواعِ الفاشية العراقية . خاصة وان مظفر النواب كان إنساناً متكامل الاخلاق يتلقى أصحابه و اصحاب أصحابه بالابتسامة و البشر تعبيراً عن حبٍ حقيقي في قلبه. من هنا صار أليفاً ، رقراقاً، في حب (الجماعة ) ، كما صارت الجماعة المحبة لمظفر النواب ليست ضئيلة المساحة و الاهواء . كان حجمها و اثرها و تأثيرها اكبر من كل مكسب و ربح لأن صوت مظفر كان حسه منتشراً ، بكل مكانٍ في مدن العراق و اريافه، بعد صيرورة قصيدة الريل و حمد مفخرة الطبائع و الاخلاق و الاعمال و الاقوال في البلاد العراقية . كنتُ أجد ملمساً صوتياً رقيقاً حين يلامسهً (غناءً ) صوتٍ فنيٍ راقٍ ، لا يطاوع إلّا صوت سعدي الحديثي. كما وجدتُ وسيلة الحرية في اداء الصحفي الراحل (سعود الناصري) حين طاوع طلبي و رجائي بغناء قصيدة الريل و حمد على سلطان تلحينه على عزف آلة العود . استجاب في زيارته الى لاهاي - هولندا عام ٢٠٠٠ فأدخل ضرورات السرور الى قلوبنا، نحن المستمعين، في بيت الصديق رزاق الحكيم . كانت دائرة الحرية بتلك العزيمة تضم ام فرح و الضيفة الفنانة ( غزوة الخالدي ) و ياسين النصير و حامد العاني مع مجموعة صالحة غابت عن ذاكرتي الشائخة في هذه اللحظة .

لا عجب و لا غرابة في سعة و سرعة انتشار قصيدة( الريل و حمد) في الكليات و المدارس ، لم تقيّدها قيود الانتشار في المدن العراقية و الارياف. كان هوى القصيدة و إشارات كل مفردة من مفرداتها و سبل تخطيها أغلال الشعر الشعبي ، قد حطّم جميع القيود لانتشارها في القلوب السليمة الصافية .

أدى نشر قصيدة الريل و حمد الى أصداء بعيدة المدى، ليس بين الشعراء الشعبيين و بين شعراء الفصحى ، فحسب ، بل بين المثقفين العراقيين ، عموماً. يشهد على ذلك ليس فقط الانتشار الواسع لنص القصيدة، بل الأكثر من ذلك المناقشات النقدية و غير النقدية ، التي دارت حول القصيدة و حول شاعرها مظفر النواب ، في الكليات و المدارس و المنتديات الثقافية ببغداد و بالألوية كلها. انتقلت القصيدة إلي بواسطة الصديق و الرفيق اسعد الشبيبي ، الذي سرعان ما ابلغني انه يحفظ القصيدة عن ظهر قلب . اخبرني ايضاً انه حفظها ، بسرعة، ذات يوم جمعة، في اثناء قضاء العطلة الأسبوعية . قال لي انه وجد في هذه القصيدة مفاهيم شعرية جديدة في الشكل و المضمون . من شدة سروره بتلك القصيدة انه قام بترجمتها لزوجته الانكليزية المعروفة بحبها الجمال و الحرية في القصائد الشعرية . قالت ، ذات يوم ، جواباً على سؤال، من ضيوف زوجها و أقاربه ، عن رأيها بهذه القصيدة فأجابت : انا لا املك قدرة التقييم .. لكنني اؤيد سروركم بمقام صديقكم الشاعر و شعره .

من خلال قراءاتي المتتالية للقصيدة ، ذاتها، اندفعتُ الى الاهتمام ، بصفة خاصة ، بالشعر الشعبي . أردت التعرف على ملامحه و مناهجه و على رؤيته . شغلتني كثيراً بعض استكشافات الشعراء الآخرين في هذه القصيدة من مثل الشاعرين سعدي يوسف و اسعد الشبيبي ، اللذين كان يربطهما مع مظفر النواب انتماء الحزب الواحد ، الحزب الشيوعي . لكن بدأت اقرأ و اطلع على آراء الكثير من الشعراء ، غير الشيوعيين . بعضهم كان عدوا للشيوعية و البعض الاخر كان يحمل منظومة قيم سياسية و اخلاقية و ادبية ليست على وفاق مع الشاعر مظفر النواب ، لكنهم رتبوا موقفهم من هذا الشاعر على وفق أصول و فصول الموروث القيمي و الاخلاقي في قصيدة الريل و حمد . هكذا برهن النوّاب بواسطتها ان عقليته الشعرية متعددة بتكوينها، و ناضجة في بنيتها، و ثقافية - مستقبلية في تدوينها، كأداة رئيسية في الثقافة الشعرية - الشعبية - العراقية.

ملخص القول عمّا وجدته و ما وجده آخرون ، ان (قصيدة الريل و حمد) لم تكن مجرد تجديدٍ في الشعر الشعبي ، بل خلقتْ و قدّمتْ قالباً اسلوبياً، مدهشاً و عجائبياً لمضمونٍ مبتكرٍ على قاعدةٍ من الفانتازيا الواقعية . هذا التطور الشعري وفّر بدايةً جديدةً لإنقاذ المشروع الإبداعي في الشعر الشعبي ، منذ بدايتها الانتقالية، المنهجية ، حيث تمكّن مظفر النواب، بهذه القصيدة، ان يؤثر تأثيراً جاذباً على أساس هذا التطور الهام في القصيدة الشعبية . كذلك محاولة توظيف التراث في الاخلاق و العادات و القيم داخل كينونة القصيدة الشعبية .

لا بد لي من القول هنا ، ان متابعاتي لقصائد مظفر النواب الشعبية منذ (الريل و حمد ) حتى الآن، أكدت لي أنها ظلت تعبّر عن وجوده الانساني من خلال الشعر ، من خلال القصيدة الشعبية و الفصحى . لكل كلمة او واقعة، عواملها في المكانة الشعرية، بقصائد مظفر . يجد نفسه عائداً ،عند كل حادث و حديث ، الى التراث الأدبي ، المتجاوب مع عصر الثورة الوطنية بعد ١٤ تموز ١٩٥٨ و ما جاء به الانقلاب الأسود في ٨ شباط ١٩٦٣ وما بعد ذلك من حكومات و احكام القمع و السجون و القتل و الحروب الخارجية و الداخلية . كان مظفر النواب مبدعاً حقيقياً يحدث انبهاراً ، ليس بكل مرحلة من مراحل عنف الدولة ضد الوطن و المواطنة ، بل بكل قصيدة من قصائده المتصارعة مع الوعي الشعبي بأنواعٍ مختلفةٍ من قيم اللغة الشعبية او الفصحى في زمانٍ قادحٍ بآلام المنفى وغل الغربةِ عن وطنٍ صارتْ نخلته شوكةً على أرضه ، كل شيء فيه مسلوب .

يملك مظفر النواب عينين ثاقبتين، ساحرتين، نفاذتين الى اعماق الشيء و الشعر و الناس ، كلهم . يرى ارض الكوفة مثل ارض الزبير ، مثل سنجار ، مثل الجبايش، مثل حلبجة ، مسكونة بالرؤية و الفجيعة لا يأمن الناس فيها من وحشة حكامهم المغطاة وجوههم بالسكاكين المسمومة . كان يرى مدينة بغداد فقيرةً بعكس ما يريدها الله . كان يرى مسألة الحكام الحمقى و عداوتهم بعينٍ ليستْ متجبرة أو سارحة . كانت نظراته بنفس سحر و ثقابة و نفاذة عيون بعض الشعراء العالميين المعاصرين . اذا كانت سنوات فترة الخمسينات من القرن الماضي ، مليئة بالوعي السياسي ، فإنها كانت ، ايضاً، قد شهدتْ ملامح شعرية - شعبية ، جديدة على وفق ما حقّقه مظفر النواب من طفرةٍ أعطتْ الى الكلمة الشعرية نهوضاً جباراً، كان قد أعطاه جان بول سارتر الى الدلالات المأساوية في جميع كتاباته و كتبه في فترة الخمسينات الفرنسية . حيث ازدانت سطيحة مكتبته بالجمع الزائد عن المعلومات الواسعة المفعّلة عن (الفلسفة الوجودية). طاف الشاعر مظفر النواب بقصيدة شعبية مهجهجة استقصرت زمان اخلاص الحبيبة لحبيبها بذاكرتها البهيجة . أدهش مظفر النواب سكون الشعر الشعبي بقوائم راكبته العزلاء ؛ (الريل و حمد ) محققاً طفرةً شعريةً ليست منعزلةً عن فعلِ المستقبل الشعري . كما استطاع مظفر النواب بهذه القصيدة تحقيق هدفين في ان واحد :

الهدف (١) انه استطاع ان ينقذ الشعر الشعبي من أزمته .. وهي من شقين، أزمة كتابة وازمة علاقة مع الجمهور . كانت قصيدة (الريل و حمد) حركة بهذا الاتجاه .

اما الهدف( ٢) فهو ان مظفر النواب بقصيدته التجديدية ، الوثابة ، حقّق في الشعر الشعبي عملية استرداد جمهوره الحقيقي الواسع ، خاصة بعد انبهار حركة الشعر الشعبي العراقية بموازين التجديد النوّابي و استقامة هذا الشعر بفرصٍ عظيمةٍ في التطور على يد الكثير من الشعراء الشعبيين المعاصرين .

ان إرادة الوجود الشعري لعددٍ غير قليلٍ من الشعراء الشعبيين ، من اصحاب ارادة ( القوة) في مجابهة الظلم ، و من اصحاب ارادة المعرفة في مجابهة ( الجهل) . من دون ذلك ، و من دون جهود وجلجلة التطوريين الثوريين من أجيال الشعر الشعبي المتعاقبة، المخصوصة بنهج الحيوية الفائضة بتجديد مجربات العقلية الشعرية – الشعبية ، حيث يتعزز ، بجهودهم ، مسير مادية واقع الشعر الشعبي ، الى حد تحرير (روح) و (جسد) القوى النفسية ، الشعرية و الجماهيرية ، في حركتها و محركها لبناء مجتمع أفضل .


يتبع

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter