|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الثلاثاء 7/7/ 2009                               د. إبراهيم إسماعيل                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الى الشهيد الخالد ستار خضير في ذكرى إستشهاده الأربعين

سلاماً أيها المقيم بيننا أبدا

د. إبراهيم إسماعيل

حيرة لازمتني مذ نويت الكتابة عن هذه الذكرى، إذ عجزت عن تبيان معناها، فهل هي مناسبة للحزن نقول فيها ما يخفف من ثقل المصاب أم هي مقام للفخر نتعلم منه ما يسدد خطى أيامنا التوالي! وهل للكلمات مهما تطاولت أن تبلغ المدى حيث مذاق الوطن ولون الأرض وشميم العشق، وحيث يتجسد الشهيد الشاهد، كلماتاً في الأفواه تحملها الأيدي لتصار الى فعل، له كل ذاك المذاق وكل ذاك العطر وكل بهاء اللون.. وبدد الشاعر الراحل حمزاتوف حيرتي حين تذكرت كيف وصف الشهداء بقوله:

"إنهم لا يدفنون في قبور .. بل يبعثون غرانق ريشها أبيض .. ومذ يوم يرحلون .. يمرون كل مساء في الأعالي ويغردون. أليس لهذا نحدق في السماء صامتين، حين تمر بنا الغرانيق؟!".

إذن المناسبة رغم كل ما تتركه في الذاكرة من مرارات، وما يحمله الوجد للمآقي من دموع، أكبر من مأتم للندب .. وأوسع من مناسبة للتعبئة.. وأعمق من وقفة للتأمل.. وأشمل من فرصة للتضامن والتعاضد.. إنها كل هذا وغيره.. لأن الشهادة نفسها مسعى للخروج من قفص المدركات المقّننة الى فضاء محسوس لا يدركه البصر وشجرة ضياء ينهمر من إثدائها المباركة مزيج متدفق الرؤى من الأساطير والصدق والحب والوفاء والعشق.. إنها لا نهائية الشعر، وعطر صلاة التطهر، ومغزى أحلام، إن أتت ولجت أرواحنا من باب المرارات، وإن نأت ألزمتنا ان نبقى متفردين بين تلك الحشود.. إنها خلاصة لتأريخ العذوبة، لأفراح الصبايا، لوطن النخل والويل، لوطن البكاء واناشيد الدماء .. لوطن الخراب والجدب والسراب .. لوطن الخيام تستر أوهامنا .. لوطن الغيوم تغمرنا برياحينها والظلال .. لوطن السؤال، عن قداح أودع فيه الشهيد أسراره وحلاوة رحيقه وإرتحل.. إنها طيران أثيري جامح وحميمي ..في صرختها صمت وفي صمتها الأخير كلام كثير .. كلام يتدفق من لحظة الأنفلات من عالم التفاصيل الى فضاء الجمال دون أن يحجب الفجيعة بل يحملها الى المطلق، والشهادة أخيراً تحسس لمرارة الواقع، يفسح في كل الدروب للوعي الوليد كي يبلغ منتهاه..

في عام 1967، لم تكن معرفتي بالحزب الشيوعي قد تجاوزت طابع الأنحياز لبعض من الأقرباء والأصدقاء، وإعجاباً بقدرتهم على مواجهة العذاب، فبقيت أتأرجح بين إندفاع عاطفي وبين خشية من جبروت الأب وإشفاق على الأم الطيبة.. حتى كان يوماً سمعت فيه أبي، ومن ضفة طبقية مخالفة تماماً، يعترف خلسة لأمي بأن من حق هؤلاء الحفاة العراة أن يعتنقوا الشيوعية، لأنها وحدها ووحدها فقط تعيد لهم أدميتهم المستلبة .. فإطمأن قلبي وحسمت أمري. وبعد عام جئت أنا الريفي المثقل بالأرتباك للدراسة في بغداد، وفيها عرفت الحزب، فلملم تبعثري تلميذاً مبتدئاً في مدرسته ولما أزل.. وكنت في كل درس أبُلغ فيه بأن الفاشية البعثية قد إختطفت من بيننا قرباناً جديداً، أشتد طمأنينة ويقيم في الروح حزن ممزوج بالفخر، وهذا ما شعرت به، وربما بحساسية أشد بُعيد الثامن والعشرين من حزيران 1969، يوم أبلغنا بأستشهاد القائد الجسور ستار خضير..

لم اكن أعرف الرجل ولم ألتقيه، لكنه كان من بين معلمّي الأوائل في مسار عذب وقاس.. لأنه وعى مبكراً أن اكثر لحظات الحقيقة نصوعاً تلك التي تبدأ بالحلم.. لأنه رأى، وأحسن حين رأى، عالماً مشاعاً ينقل الفكر من ركوده الى فضاء التأمل والدهشة.. ولأنه مازج بين الفكرة والفعل، فتحرر من قيود الدين والطائفة والنسب، وتجلى في رحاب النور حيث التواضع والزهد فأكتمل..

ذكرى إستشهاده إذن، مقام للفخر .. فقد إجترح الرجل مآثرة لم يعد بدونها ممكنا أن نفتح كوى للنور أو أن نؤسس لما مطلوب من التوازن، أو أن نمنح الصمود في زمان النكوص ما يعوزه من جذوة الفعل! كما تحسس الرجل سبيل الخروج من المتاهة وأصطحبنا معه .. كي لا تنمو الفاشية كفطر سام يسرق بسمة الأمان من عيون أطفالنا، وكي يصير الولاء للوطن أصلا مألوفاً ويصير التعصب القبلي والطائفي منكراً وتخلفاً، وكي يتواصل فجر الحداثة و السلام ويتبدد ظلام الجهالة والعنف، وكي تبقى الكلمة لحكمائنا وأن لا يستوطن الخبل روح البلاد والعباد.. إنها مقام للفخر .. أن يتصدى مندائي النسب لمهمة الدفاع عن الأرض، تلك التي تكون ترابها من أجداث أجداده مذ عُرف العراق مهدا للفكر والنور.. أن يحمل هذا الجنوبي الأسمر قلبه على راحتيه لأبناء كردستان فيوقظ في قلوبهم جذوة الفرح ويبقى فيها شيئاً من النبض الأممي رغم كل سنين الخراب..

والذكرى درس، فحين تتضاعف ألازمة تعقيداً.. وتشتد الظلمة حلكة في العراق المدًمى والمشبع خراباً وعذابات، يكون ستار خضير ورفاقه الأماجد، مرآة للتنوع العراقي الجميل، لتآخي ومحبة لا نظير لهما، لتماسك لا انفصام فيه .. لمعالم فكر إنساني يمنح الإقامة في الأرض، لإرادة لن تلين، لتناقض لا هوادة فيه مع القتل وتخريب الروح..
والذكرى أيضاً يوم للوفاء .. لرفيق حمل منذ صباه شعارات الحزب للبيوت الفقيرة ، لفتى علم الدنيا معنى الصبر .. لشيوعي حرر بحياته زهور الوطن من مخالب البداة ، والأرض من هجير الظمأ، والثكالى من الحزن المستديم .. يوم للوفاء لرجل توغل في الحقيقة، فلم يعرف الأنحناء، لوهج حلم لن ينطفيء او يخبو ..

سلاماً رفيقنا المقيم بيننا أبداً .. سلاماً لرفيقة دربك .. لكريماتك .. لأخوتك الذين إقتسموا معك الدرب سلاما لعراقك .. سلاماً للحزب الذي أنجبك .. لتحرسك شقائق النعمان، وتهدهدك العصافير بلحن الوفاء الأممي الجميل، ليبقى الزهر والعشب الأخضر على قبرك شارة الأقامة في فضاء المجد!


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter