|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الجمعة 16/1/ 2009                               د. إبراهيم إسماعيل                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

فوانيس كامل الركابي

حاوره : د. إبراهيم إسماعيل

بسبب كونه حدثاً سماعيا مثقلاً بالإحتدام اليومي في ميدان الحياة الإجتماعية وجماليات المكان ووهج الواقع، ولأنه يقف على أرضية لغوية واحدة مع المتلقي، ضرب الشعر الشعبي العراقي جذوراً عميقة في روح الناس وإمتزج بذاكرتهم وحرك الساكن في دواخلهم، وهو يتنقل في مسار تطوري، من قصيدة الحاج زاير وفدعة والفتلاوي الكلاسيكية، المشبعة بالغنائية والهموم المباشرة، الى قصيدة النواب وعريان السيد خلف، التي شكلت ثورة على التقليدي وميلاً للتكثيف وإعتماداً للصورة المبنية على التراث الغنائي والدراما الريفية، قبل أن تبتعد تدريجياً عن تلك المفردات وتأخذ بالإيقاعات الحديثة والرموز والصور المتداخلة التي ترصد التحولات الدرامية في الأعماق، وذلك في نتاج جيل السبعينات والثمانينات الذي ينتمي اليه الشاعر المبدع كامل الركابي.
في منفاه السويدي القاحل، حيث تغطي الثلوج كل شيء ويغمر الرمادي الفضاء كله، كان أشبه بطائر أعتاد التحليق في أفق الجمال قبل أن تحاصره سنين المنافي وتثقل قلبه بالنزيف .. وحيداً يجوب في فيافي الشعر، يتطلع من النافذة نحو العراق المدمى، ليسأله عن صباحات الطفولة المؤودة وعن غسق الشباب الذي ذوى قبل الآوان.. عن الأهل والصحب والرفاق، عن الشهداء الأحياء، والأصدقاء الذين ما إنفكوا يفتحون الكوى لعل فجراً ما سيبدد العتمة .. فتخضر عروش النخيل المحترقة وتعود العصافير للأقلاع لأعشاشها المبعثرة .. عن طعم الخبز والدم، الذي شكل ومنذ الصرخة الإولى، نسغ عشقه وغنائه وحدد موقعه في ساحة التناحر بين القيد والهواء وبين الخراب والأمل.. عن هواء الصريفة وظل النخيل، الذي مده بالقدرة على أن ترسخ جذوره في الأرض ويتفتح المدى لبراعمه..
هنئته على شفائه من أخر أزمة قلبية آلمت به وعلى صدور ديوانه الثالث "فوانيس"، معترفاً له بدهشتي من قدرته، وبوعي غير متعسف، على صيانة الأحلام الجريئة حتى حين بدت له أن لا فائدة فيها، وكيف أرتني قصائده الحلم، نتاجاً للوعي ورديفاً للفكرة وقادراً على ان يجلو أعماق الروح ويبقي على نبضها دافقاً.

- كيف كانت البداية .. يوم قررت إختيار الشعر للتعبير عن ما تريد؟
البدايات مثل الولادات لا أحد يتذكرها سوى الأم، لأنها وحدها يداهمها المخاض ويعتصرها الألم ويدفعها الوليد القادم للصراخ. لم يخطر لي أن اختار الشعر وسيلتي للتعبير عن مشاعر متضاربة ودواخل خفية، هو وحده من تقمصني، وادخلني المتاهة ودلني على الطرق الغير سالكة، وقال : ارحل !
ولادتي كانت غريبة، مثلما روتها لي أمي، فقد ولدت قرب تنور الخبز في صيف حارق. ولكي لايتمرغ أنفي في التراب من أول نظرة فقد ولدتني أمي على كومة سعف النخيل الذي تسجر منه التنور.. أبي قال نسميه خصّاف تيمناً بخوص النخيل، لكنها رفضت ذلك بالطبع !

- بمن تأثرت في الحياة .. ليس شعرياً فقط؟
أنا احب أصدقائي الى حد الوله، ولكل واحد منهم خصلة جميلة وعذبة وقصة وتاريخ وتجارب مثيرة ومدهشة.. لهم الفضل والفصل الاول في صقل شخصيتي وتشذيبها من الجنون، كذلك الناس من حولي وبالأخص منهم الفقراء والسابلة وبيوت القصب والطين والفوانيس الساهرة والمناشير الحمراء التي تدعو للعدل والمساواة. اما شعريا فأنا متأثر بكل الشعراء الذين عرفتهم وقرأت لهم او عشت معهم.. ما لم أفعله هو إنني لم أكتب مثلهم !

- ربما كتبت أفضل مما كتبوا .. لنعد الى البصرة وعوالمها الفقيرة حيث نشأت، فلها تأثير بارز في قصيدتك، كيف إستطعت الأفلات من إسار هذا الحنين لأمكنة أخرى كعزابة ومراني* وغيرهـا ؟
من قال أنني إستطعت الإفلات، كل ما في الامر أن تلك الأماكن الاخرى التي عشتها كمغترب تشدني بخيط سحري للمشاعة الأولى في محلة الساعي والجسر الأحمر والصرائف مع إن لها خصوصية في تجربة الشعر فالشعر يستفزه المكان ويحيله للذاكرة.. اما مراني فهي أصفى نبع إرتوت منه شجرة روحي وأورقت !

- بين الأم والحبيبة مسافة العمر الذي إتشح بعشق المرأة .. ما الذي أعطاك هذا العشق؟ الرقة.. العذوبة .. الحنان الشجن.. أم ..؟
لولا الشعر لكانت المرأة، وهما في تضارب وإنسجام وإنفصام وتداخل حد الهرموني. الأم رمز لكل الصفات العذبة وهي النبع الأول الذي يتوهج على امتداد مضارب ليل حياتنا الطويل، والحبيبة تدفق عذوبة آخر، العشق هذا ألهمني وأوجعني وخبأ الجمر في رماد حياتي، مع كل نسمة عابرة يشتعل !

- ما الذي فعله المنفى المبكر بنتاجك؟
المحطات والأرصفة والقطارات والمقاهي المزدحمة على سواحل الأبيض المتوسط والحانات المكتظة بالموسيقى والغناء والفنادق الرخيصة والشوارع الملتوية والصاعدة نحو قمة جبل او هابطة الى مستنقع او بحيرة والملابس الملونة بالوان الطيف والمطاعم ذات الوجبات اللذيذة السريعة ومعاهد الصم والبكم و"جزارين الشعب" ومحلات "أخي لاتقلب السترة فالجزائر تحيي الشهداء" و"بارات الحليب"** وكل الأشياء الأخرى المألوفة والغريبة تسللت خفية لمخزون الشعر والتجربة ولذا تبتعد القصيدة في أحايين كثيرة عن منسوجها اللغوي والفني وتضفي عليها الغربة مواضيع أخرى و نكهة أخرى ولا تبقى أسيرة المكان الأول واللهجة الأولى.

- سنين المنفى الأولى تبدو فترتك المثالية، هل كانت الجزائر حلما أم غصة؟ ؟
لم تكن الجزائر حلما فهي منفى ولكنه جميل بالناس والأصدقاء ومشاهد المنفى الأول المدهشة وغرائبيتها، والحلم بالعودة كان في اشد ضراوته والحنين ذّباحا والكلمات لم تزل طرية والوحدة قاتلة والأهل بعيدون والأم ترفع يديها للسماء وتبتهل في الصلوات من أجل عودة الغائبين، فكيف لا ترسم القصيدة تلك المشاهد وتلك العذابات.

- وكردستان؟
إستعادة التوازن وقليل من الرضا عن الذات كان شبه مفقود.. ثم التأمل .. فتية طامحون بالتغيير متأقلمون مع الثلوج والأمطار وصاعدون الجبال وهاوون نحو وديان سحيقة ومتوزعون في بيوت طينية ليلاً من اجل نشر الكلمة الحرة والخلاص من الأنظمة الفاسدة.. هناك بدات مسارات القصيدة تتفرع وموضوعاتها تتنوع وشهدت القدرة على التكثيف والإيجاز والتخلص من شوائب السرد.

- هجرتك القصيدة في السنين الأولى من الأقامة في المنفى السويدي البارد، ثم عادت بلهفة العاشق الخجول، هل كان في ذلك قسوة ما على القلب المتعب؟
إنني أحسد من اعماقي اولئك الشعراء العظام الذين تتحول كتابة القصيدة لديهم الى فعل يومي مثل المأكل والمشرب. وقد روى لي أحدهم عن الحب الذي يدفع القصيدة الى أوراقه كلما شاء واشتهى. وبقيت الى اليوم مذهولا مما سمعت إذ لم أستطع بفعل إرادي أن اكتب قصيدة وكلما جربت ذلك يصيبني الفشل وقد هجرتني القصيدة فعلا فترة ليست قليلة ثم عادت.. صديقي قال لي : يبدو أنك مرتاح هنا وتحتاج الى جبل!

- هل الشعر بالنسبة لك فعل ثوري فقط ام فعل إنساني عام؟
لا أستطيع أن أستدل عن الثورية او الإنسانية في فعل الشعر.. فالثورية بمعناها الأشمل تتطلع نحو إضفاء السمات الإنسانية في حياة الفرد والمجتمع.. لذا بإعتقادي إن خيمة الشعر تضلل كل الأفعال المبدعة التي تخدم التطور الإنساني، ولكن الثورة كما يقال تقتل أبناءها ولو كانوا شعراء لذا يظل الشعرمتفرداً، متمسكا بشعلة الإنسانية!

- يقول الموسيقار الشيوعي الشهير هانس إيسلر : علينا كماركسيين أن ننبذ التعصب في الفن وأن لا ننحي جانباً الجمال فهو من يلعب في الفن الدور الأرأس. كيف توفق أنت بين الشعر والألتزام؟
مفهوم الإلتزام تعرض ويتعرض للتشويه عمدا، فالقصيدة الرديئة سواء كتبها شاعر شيوعي ام رأسمالي فهي رديئه وكذلك القصيدة الجميلة فليس سمة الكاتب او ميوله من يحدد الطبيعة الخلاقة لفنه وإنما روحه وقدرته وتجربته وروح الإبداع في فنه، فالإلتزام، بمعناه السياسي والاجتماعي، ليس عائقا ولم يكن عائقا أمام القيمة الجمالية في الفن والامثلة معروفة، بيكاسو وسلفادور دالي ونيرودا وعزرا باوند، هؤلاء الفنانون مختلفون سياسيا ولكنهم مبدعون جماليا !

- هذا الحزن اللامحدود في قصائدك يمنحني دوما الشجن المبتغى.. ربما يمكنني أن أتفهم ذلك، لكن ما تدهشني حقاً قدرتك على أن تصرح بكل هذه الخيبات دون أن يصاب القاريء باليأس، كيف تسنى لك ذلك؟
الصدق وحده هو بوصلة القصيدة الحية، ورحلة الشعر ومتاعه هي التجربة الفردية وتأثير سحره هي الروح الخلاقة الكامنة فيه .الحزن سمة مألوفة في الشعر الشعبي العراقي لأسباب معروفة ولكنه لا ينحو لليأس الذي هو مقتل الشعر.. فبعد تجارب العذاب والأحزان والمعاناة التي عشتها تمكنت أن أنجو من اليأس بأعجوبة !

- تميزت الكثير من قصائدك بإلتقاط التفاصيل اليومية الحية، وربما أنت من بين أهم من تبنى هذا الإتجاه في الشعر الشعبي العراقي، فلم تبنيت هذا الأسلوب؟ وكيف وفقت بينه وبين ما عرفت به من لغة مكثفة؟
اصدقك القول أنا لا اتعلق بنمط محدد في الكتابة الشعرية ولا أتقصد تبني أسلوب معين في الشكل الشعري ولا أنتقي الكلمات الجميلة لمجرد أنها جميلة بل لمحتوى علاقتها بالنص، أنا بكل بساطة أكره المعلقات والحشو والسرد وتعمية النص بغموض فاشل، وأنحو نحو أشكال توائم التكثيف والقص المركز واثارة التساؤل.. وعموما أنا ما أزال أسعى! هل وفقت في ذلك لا أدري حقا !

- يعدك بعض النقاد أحد الأصوات الشعرية المهمة بعد جيل الرواد ومن تلاهم. كيف ترى الجديد في الشعر العراقي اليوم؟ وخاصة الشباب، هل تتابع نتاجاتهم؟
المشهد الشعري العراقي غائم ولم تتسن لي معاينة النشاطات الشعرية الشابة الا قليلا من خلال الجرائد اليومية وبعض القنوات العراقية.. وقد شاهدت تخوفا كبيرا من النقاد حول مساعي خبيثة لتحويل الشعر الشعبي العراقي الى مهرجانات للمديح ومنصات للهياج، وتعود حليمة الى العادة القديمة وتكفرالناس بالشعر والغناء والرثاء والبكاء!

- هل لنا نحن العراقيين اليوم أدب منفى؟
يمكن القول أن للعراقيين أدب منفى وهو أدب المنفيين خارج العراق منذ السبعينات فقد هجر العراق عنوة خيرة الأدباء والمثقفين والفنانين ولكن هل تنطبق عليه السمات الكاملة لأدب المنافي؟ لا أدري اذ لم تزل أحلامهم وهمومهم ولغتهم عراقية.

- ماذا يمكن أن يقدم الشعر اليوم الى العراقيين؟
لا يقدم الشعر للعراقيين الخبز والامان، إنه فقط يدلهم ولو من بعيد على طريق الخلاص وإذا لم يستطيعوا وتتساقط أيامهم في الفراغ يقدم لهم العزاء وينتحب !

- مكانك ووقتك المثالي للكتابة؟
الوقت.. لا وقت محدد لي .. والمكان .. كل الأمكنة مدارج لأنطلاق القصيدة ..

- حين تطلق القصيدة من يديك لترفرف في الفضاء الحر، أية مشاعر تنتابك؟
الخوف من أن لا ترسو على ضفاف خضراء !
 

* عزابة : مدينة صغيرة في شرق الجزائر، عمل فيها الشاعر مدرساً في 1980.
** أسماء غريبة للمحلات والدكاكين في الجزائر بسبب ضعف الغة العربية وإعتماد الترجمة الحرفية من الفرنسية.

(بروتريت )

- كامل الركابي شاعر شعبي عراقي من جيل السبعينات، اكمل الابتدائية والمتوسطة والثانوية في البصرة وتخرج من معهد التكنولوجيا في البصرة عام 1975.
- صدر له : الكمرة وسواليف النهر عام 1975، وسورات الدم والنار عام 1986 وفوانيس عام 2008، وله عدة مجموعات مخطوطة.
- لحن وغنى كلماته الفنانون فواد سالم وحميد البصري وطالب غالي وجعفر حسن وقاسم البصري، كما غنت له الفنانة الشابة بيدر البصري بعضا من قصائده الحديثة.
- نشر في الصحف والمجلات العراقية وشارك في الكثير من الامسيات الادبية والمهرجانات الشعرية ومواقع الانترنيت.
- إلتحق بصفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي في كردستان وساهم في كفاحها ضد الدكتاتورية، وفي عام 1988، وإثر جريمة الانفال، غادر مع الانصار الى تركيا وعاش في مخيمات اللاجئين في ماردين التي غادرها الى الشام حيث عمل في الصحافة، وهويقيم اليوم في السويد.

مقتطفات من الديوان

هذا الليل من بعدك عذابه ايطول

مجنون
باصابيعي العذاب
هواي مجنون
من تلمس اصابيعك
عطش
وتفيض بيها اعيون
أغرﮒ بالمحبه
أحترﮒ ..
مفتون
يلهب روحي
برد الليل
يطفى بروحي
جمر الليل
وتحاصرني لْظنون
تعصرني وجه مسلول
خايف
من عذابه ايطول
وتطول المسافه البينك وبيني
ويظل مخمور
طيفك يلعب ابعيني
أحبك
لاتخليني
شجر اصفر خريفي
وانت اخضر دوم
بحنيني اشراع
وبروحك سفر لليوم
تعال وزيح الهموم
حط ايدك على اعيوني
تشوف اﺸﮔد لذيذ النوم
وانت اوياي
احس كل العطش بالروح
ينبع ماي
اضُم اجناحي لجناحك
واطير اشما تطير اهواي
يل ضميت ﺒﮔليبي جرح
ﺸﺘﮔول ؟
هذا الليل من بعدك
عذابه ايطول
وتسامرني لْظنون
باصابيعي ﻋﺸگ مجنون
واصابيعك
تخاف اتمر شمسها ابليل العيون
لاتسهر
ولاتخدر
ولاتنام
يلضَّويت بيك العام
من ماشوفك اﺸﮔد وحشه الايام
خذ ﮔلبي الك محتام
خذ ﮔلبي الك رايح
يحبك حتى من اتصير
مر
ماصخ
حلو
مالح
واحبك حتى من اتغيض روحي
وعينك اتواكح
تعال
ولاتخليني انتظر دوم
دايخ يل ﺒﮔت من عين ﮔلبي النوم
تميل ابلا نسيم أغصان روحي
اتريد مره اتبوس غصنك يوم
آه اﺸﮔد بعيد إنت ومحبتك لوم
آه اﺸﮔد قريب إنت
ومحبتك طيب
يل خبَيت ندبه ابعمري
من اتغيب
تكبر جرح لاينزف ولايطيب
واظل مكسور بغيابك
اظل مكسور
تسكن وجهي وحشة ليل
ويموت ابعيوني النور
أعمى من العشگ للماي
يمشي بلا درب مسحور
دليني
ضعت بيك
اعمى
وحوبة العميان تاذيك
دليني
غميگ إنت واخاف اﻠﮔيش
فص اعيوني
حبّة لوز ﺒﭽفوفك
أشوفك بيش
اموت اروحلي باسراري
محبه افديك هاي الروح
وإنت إتعيش !
 


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter