|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأثنين 20/8/ 2012                               د. إبراهيم إسماعيل                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

جديد لطفي حاتم

كتاب يستحق أن تقرأه مرتين

د. إبراهيم إسماعيل 

"التشكيلة الرأسمالية العالمية والشرعية السياسية للدولة الوطنية"، عنوان الكتاب الجديد للباحث العراقي الصديق د. لطفي حاتم، والذي صدر مؤخراً عن الأكاديمية العربية في الدنمارك، ليسجل قراءة متميزة لما يشهده العالم من متغييرات دراماتيكية، عبر تعليل يستند للمنهج الجدلي دون أن يقع أسير وصفات تحجب الواقع ولا ترينا الا ما نريد رؤيته فقط.

فبعد عرض أكاديمي، خلا من ملل المباشرة، للشرعية السياسية للدولة عبر تطورها التاريخي، بما في ذلك شرعية الدولة البرجوازية (جذورها الاجتماعية والسياسية وركائزها الأساسية ومآلها على ضوء تطور الدولة الإحتكارية)، والدولة الإشتراكية (الأسس الفكرية لها، وسمات الدولة السوفيتية، ومعالم تحولها الى الليبرالية)، والدولة الوطنية (ونشوئها في المرحلة الثانية من التوسع الرأسمالي)، ينتقل الكتاب لعالجة مظاهر الواقع المعاش فيتناول المتغيرات التي طرأت على الشرعية الدولية إتساقاً مع المتغيرات التي مر بها التوسع الرأسمالي، وصولاً الى العولمة الرأسمالية بعد إنهيار إزدواجية الخيار الاجتماعي في العالم وسيادة القطب الواحد، مستنتجاً الى أن ذلك قد " أدى الى  تنامي  وتائر  العنف  في السياسة الدولية كأحد  التجليات الموضوعية لحركة قانون الاستقطاب الرأسمالي المعولم المتسم بتناقض حركته الإندماجية التخريبية" والتي يمكن رصد أثارها في تآكل مبدأ السيادة الوطنية (عبر إنهيار التنمية الوطنية المستقلة، وفرض الخصخصة، وإعادة صياغة التوازنات الطبقية لصالح قوى طفيلية بعد تهميش القوى الطبقية المنتجة، وإقصاء دور الدولة الاقتصادي الخدمي كأساس للضمانات الاجتماعية) وتنامي الصراعات العرقية وما اشترطه ذلك من تنامي وتائر العنف الذي تستخدمه الأنظمة السياسية الحاكمة بهدف ضبط  النزاعات الوطنية، وتبدل مواقع التناقضات حيث باتت التناقضات الاجتماعية الداخلية غير حاسمة في تطور التشكيلات الوطنية، واحتكار إستخدام القوة العسكرية في السياسة الدولية. وبديهي أن تكون لكل هذه التغييرات العديد من النتائج الموضوعية، أبرزها أن تتقلص هيمنة القطب الواحد ليحل محلها عالم متعدد الأقطاب، تسوده سياسة دولية جديدة.

ثم يعود ثانية العرض الأكاديمي الممتع ليعرض لنا ملامح ظهور التشكيلة الرأسمالية المعولمة (التغيرات الطبقية التي أدت اليها، وملامح التغيير في العلاقات الدولية الداعمة لها، والمراكز الأيديولوجية التي تضبط إيقاعها الفكري) متوصلاً الى أن النزاع مع الرأسمالية العالمية لم يعد " صراعا بين العمل ورأس المال بحدوده الوطنية بل تحول الى حركة اجتماعية متعددة الطبقات والشرائح الاجتماعية على صعيد عالمي، فيما أفضى توحد العالم على قاعدة رأسمالية الى أغناء كفاح الحركات الاجتماعية استناداً الى الميول التخريبية للرأسمالية المتمثلة بحيازة أقصى الأرباح، البطالة الشاملة، الهجرة، الكراهية والتعصب، إثارة النزاعات العرقية والطائفية، الفساد وأخيرا تلوث البيئة" إضافة الى ما تشكله كثرة من موضوعات الليبرالية ـ الديمقراطية، حقوق الإنسان، السوق الاجتماعي من أدوات أساسية في تجديد فكر الحركات الاجتماعية المطالبة بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، رغم عدم إستطاعتها حتى الأن من بناء منظومة فكرية ـ سياسية ناقدة للطور الجديد من التوسع الرأسمالي ومعبرة بواقعية عن مصالح قواها الاجتماعية.

ثم يحاول الصديق الكاتب لطفي حاتم التعامل مع جملة أسئلة تشهرها هذه الإستنتاجات منها ما يتعلق بمدى تأثير الليبرالية الجديدة وتجلياتها السياسية الاقتصادية على مسار تطور التناقضات الوطنية؟ وتأثير التدخلات الخارجية على النزاعات الاجتماعية و تطور كفاح القوى الوطنية والديمقراطية؟ ومنها ما يرتبط بتاثيرات الشرعية الدولية على بناء الشرعية الوطنية وضمان تطورها؟ وقبل الإجابة عن ذلك كله يشرع الكاتب في توضيح دور قانون التطور المتفاوت فيشير الى أنه ومضامينه الاقتصادية السياسية المرتكزة على التنافس الضاري قد أنتج تناقضاً رئيساً بين الرأسماليات الوطنية أفضى تطوره الى صراعات عسكرية بين الدول الامبريالية، فيما فادت التناقضات التناحرية بين المراكز الرأسمالية الهادفة الى إقتسام العالم الى تفجر التناقضات بين العمل ورأس المال في الحقول الوطنية ،الامر الذي أدى الى انفجار الثورات الاجتماعية واعتمادها خيار التنمية الوطنية المستقلة بعد فك ارتباطها بالسوق  الراسمالي، كما أفضى القانون المرتكز على توازن القوى ـ بعد انقسام العالم الى نظامين اجتماعيين ـ الى انتصار حركة التحرر الوطنية وما نتج عنه من ظهور العديد من الدول  المستقلة ذات السيادة الوطنية المعترف بها دولياً. غير أن قانون الاستقطاب المعولم اليوم والمتسم بنزعات التمركز والتخريب لا يمكن أن يفضي الى تطور التناقضات الاجتماعية واستبدال تشكيل رأسمالي طفيلي بأخر وطني ديمقراطي والى كسر التبعية وفك الاشتباك مع البنية الاحتكارية، مما يبقي الديمقراطية السياسية عاجزة عن خلق الشروط المادية لبناء التوازنات الاجتماعية بين الكتل الطبقية المتنازعة في الدول الوطنية. وعليه يصل الباحث الى أن واقع الصراع اليوم يتطلب تحويل أفكار الديمقراطية وحقوق الإنسان الى أيديولوجية أممية بعد نقلها من شعارات عائمة للرأسمال الى قاعدة من قواعد  القانون الدولي، والنضال لإقامة علاقات دولية تنطلق من وتستند الى موازنة المصالح الوطنية/ الدولية وما يعنيه ذلك من الاحتكام الى شرعية دولية مرتكزة على قواعد قانونية ناظمة لوحدة المعايير في السياسة الدولية، وإستثمار ما تتيحه دمقرطة العلاقات الدولية لقوى اليسار الديمقراطي من حرية اختيار برامجه السياسية /الاجتماعية في حال استلامه / مشاركته السلطة السياسية بعيدا عن التداخلات الخارجية في شؤون بلاده الوطنية .

في القسم الثاني من كتابه، يتطرق الصديق لطفي حاتم الى ما تشهده قوانين اقتصاد السوق الرأسمالي من تحولات، نتيجة لإحلال قانون الأستقطاب الرأسمالي مكان قانون التطور المتفاوت، وتأثيراتها على واقع كفاح شعوب المنطقة بشكل خاص، فيشير الى أن قانون التهميش والإلحاق سيعيق بناء أنظمة سياسية ديمقراطية وسيفضي الى تفكيك مستلزمات بناء سوق عربية مشتركة، بسبب سيادة القوى الاجتماعية الحاملة لمشروع الإلحاق وتغريب المصالح الوطنية، وإقصاء بعض القوى الاجتماعية من مواقعها الإنتاجية وإفراغ النزاعات الاجتماعية من مضامينها الطبقية، الأمر الذي يجّرف الحدود الطبقية ويفضي الى سيادة النزعات الفوضوية وهيمنة السلفية على نشاط الحركات الشعبية، التي يخصص لها الكاتب مبحثاً مستقلاً في كتابه.

ثم ينتقل الكتاب الى دراسة تأثيرات التوسع الرأسمالي على تطور العراق المعاصر، لاسيما بعد إنهيار الدولة عام 2003، موضحاً المتغييرات في التشكيلة العراقية وتجليات ذلك في التشكيلة السياسية، ومهام القوى الوطنية الديمقراطية في مواجهة المخاطر الهائلة التي تعيشها البلاد في واقع المرحلة الإنتقالية. وتهتم خاتمة الكتاب بالسجالات الواسعة حول المسار الأفضل الذي ينبغي أن تصب فيه جهود تطوير فكر اليسار الديمقراطي في مرحلة العولمة الرأسمالية، فيشير الكاتب الى أن مهام اليسار الديمقراطي في الدول الوطنية لا تماثل التجارب الاشتراكية التي اندلعت في القرن المنصرم بسبب اختلاف مضامين المراحل التاريخية لحركة التوسع الرأسمالي وتباين الأهداف التاريخية الملموسة المطروحة أمام حركة الفكر اليساري العالمية، مؤكداً على أن الأخذ بصيغة اليسار الديمقراطي في البلدان العربية، ضرورة تشترطها المهام الجديدة التي تطرحها العولمة على القوى الوطنية الديمقراطية والمتمثلة في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية وصيانة تشكيلاتها الاجتماعية من التهميش المتواصل.

وأخيراً فإن أهمية الكتاب الجديد للباحث د. لطفي حاتم، لا تكمن في قيمته الفكرية التجديدية فقط، بل وفي صدق شهادته، النابعة من الدور الواعي والأصيل الذي لعبه الكاتب نفسه في مسار حركة شعبنا الديمقراطية طيلة ما يزيد على نصف قرن، متجاوزاً خلالها ردة الفعل الى مستوى إجتراح التغيير، مما يجعل الكتاب مهماً لإنه جدير بالقراءة لأكثر من مرة على حد تعبير تولستوي.

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter