|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

 الأحد 13/7/ 2008                               د. إبراهيم إسماعيل                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

افكار في العيد الخمسين

د. إبراهيم إسماعيل

(1)
ـ لا تأجيل ... لو ثورة لو إنقلاب !
هكذا كان يردد استاذنا في مادة الكيمياء في الأعدادية المركزية، كمال النعيمي، وهو يرفض طلباتنا التي لا تنتهي لتأجيل مواعيد الأمتحانات! كنا نعرف ان استاذنا القدير ـ أطال الله عمره إن كان حياً ـ يساري الهوى، لكن وقتاً طويلاً ربما قد مضى قبل ان ندرك لماذا كان يستخدم معاً مفردتين، طالما رأيناهما مترافدتين، وقبل أن يحتدم بيننا الجدل كل عام عن الفرق بين الثورة والأنقلاب!
وحتى في هذه الأيام، حيث تضاء قناديل العيد اليوبيلي لثورة 14 تموز المجيدة ويستذكر العراقيون، المحصارون بحراب المحتلين والمثقلون بهموم الجوع والمفخخات وصراع الملل على الثروة والسلطة، اريج ظفر مؤود ومذاق حرية مستلبة، تذكى بينهم جذوة الحوار مرة أخرى عن تقييم تجربة الخلاص الاولى، في مسعى للحد من ما هم عليه من ألم وحيرة وتحقيق شيئاً يغني ويفيد.
فهل كل ما جرى كان إنقلاباً عسكرياً، مهد لحدوث الكوارث من خلال إضفاء "الشرعية الثورية" على تدخل العسكر في السياسة، أم ثورة وطنية تحررية، فتحت الطريق أمام تقدم العراق ورخائه.
لا بد من الأعتراف بصعوبة تلمس الحقيقة من الوهلة الأولى، فعدد كبير من مؤيدي الرأيين، ما زال مؤمنا بأن الصواب ملك يديه فقط، وإن له من الحجج ما يضخم دور الممالئين ويغيب دور المخالفين، وانه غير قادر على سماع رأي يناقض مايراه من مسلمات، وهي علة أزعم انها أحد ركائز ما يعانيه العراق من مآسٍ!!
يجعل أصحاب الرأي الأول، الحدث إنقلاباً مأساويا، على أساس قيام الضباط وحدهم بالتخطيط له وتنفيذه، وإحلالهم لأنفسهم محل نظام كان دستورياً أو كاد أن يكون كذلك، وإدعائهم الصفة الشرعية لا على أساس صناديق الأنتخاب وإنما بأسم "الشرعية الثورية"، وتسامحهم مع الطريقة "غير المتحضرة" التي إقتصت بها الجماهير من أركان العهد السابق، وأخيراً تدميرهم لما كانت "حكومة جلالته" قد أنجزته من إعمار!
ويؤدي إعتماد أصحاب الرأي الثاني في تقييم ماحدث صبيحة الرابع عشر من تموز، على اسباب حدوثه وطبيعته وشكله وما انجزه، الى إعتبار الأمر، ثورة وطنية تحررية، أطاحت بأحد أعمدة حلف بغداد، فاعطت زخما كبيرا لحركة التحرر العربية والعالمية، وأسقطت نظاما رجعياً، سبب الى جانب القمع السياسي والقومي والطائفي، تدهوراً معيشياً وتخلفاً ثقافياً، وغياباً لأبسط الحقوق الإنسانية لا سيما في الريف والتجمعات العمالية!

تعبئة الجيش
لقد جاء 14 تموز تتويجاً لسفر كفاحي طويل، خاضته الجماهير الشعبية وقواها السياسية، وتعرفت من خلاله بدقة على دور المؤسسة العسكرية في تحطيم انتفاضات 52 و 56 على يد الحكم وعبر ما يمكن تسميته إرهاب الدولة، الأمر الذي دفعها الى السعي من أجل كسب بعض القطعات العسكرية الى جانبها وتعزيز نفوذها داخل الجيش. ووجدت مساعيها هذه أرضاً خصبة تمثلت في المشاعر الوطنية القوية التي كانت تعتمل في أعماق الجيش، ذاك الذي كان معظم أفراده من أبناء الطبقات الوسطى والدنيا، جراء التجنيد الألزامي ونفور ابناء الذوات من الأنخراط في الحياة العسكرية القاسية. وقد نمت تلك المشاعر وتعززت إثر إعدام قادة حركة مايس 41 وإعادة سيطرة المستشارين البريطانيين وإثر هزيمة فلسطين وتبني حلف بغداد وتخلف التسليح وتحمل العراق أعباء تسليح الجيش الأردني بعد قيام الأتحاد الهاشمي. وكونت جميع القوى السياسية الفاعلة ركائزا لها بين صفوف المؤسسة العسكرية، في ذات الوقت الذي أقامت حركة الضباط الأحرار ـ وهي أمتدادات تنظيمية أو فكرية للقوى الفاعلة داخل القوات المسلحة ـ وقائدها عبد الكريم قاسم صلة منتظمة مع هذه القوى، وأبلغها شخصياً أو بشكل غير مباشر بموعد تحركه، مما صار معه ممكناً لهذه القوى أن تحشد خلال ساعة واحدة فقط اكثر من 100 ألف مواطن لدعم 3 ألاف عسكري. وكان لهؤلاء الناس فضل إتمام الثورة عبر إجهاض أية أعمال معادية وصيانة ما تم تحقيقه. ومن هنا فلم يكن الحدث قراراً عسكرياً بل كان إستجابة لنشاط شعبي سياسي واسع ودؤوب وطويل الأمد، ولا يعيبه في تقديري أن تطلق شرارته الأولى قطعات عسكرية تتمتع بحس وطني عال، ما دام الممهد لها قوى سياسية عريقة وما دامت قد استكملت على أيدي الجماهير الشعبية.

تحقيق الثورة
وأعطت المنجزات التي حققتها الثورة، في إنهاء الوجود الأستعماري وتحرير العملة وإلغاء الأمتيازات النفطية الجائرة والبدء بتصفية العلاقات الأقطاعية والأستغلال والتخلف العشائري والأعتراف بشراكة العرب والكرد في الوطن، بهاء الثورة وألقها المنشود، بل واعطت للحكم طابعاً شعبياً ومدنياً حقيقياً، فليس صحيحاً أن 14 تموز قد أحل العسكريين محل حكم مدني، فالحكم الملكي لم يكن سوى تحالفا بين العسكريين (نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وغيرهم) وبين الأقطاعيين ورؤساء العشائر، وليس صحيحاً أيضاً إن 14 تموز قد أجهض تجربة ديمقراطية، فلم يكن النظام الملكي يمارس سوى شكل بدائي ومضحك لليبرالية، وكان الملك يحكم ويملك في آن! ورغم إن التأريخ لا يقيم بالنوايا، فإن تطور الانظمة المشابهة للنظام الذي اسقطته ثورة 14 تموز، لا يثبت قدرتها على التطور الديمقراطي الطبيعي!! كما لا يمكن محاكمة التصرفات الجماهيرية بعقلية اليوم وما أضافه التطور الإنساني لنا من حكمة، بل لتقييم الحالة في ظروفها ومكانها حيث كان طبيعياً أن ينفجر غضب الناس الذين قاسوا من قمع الحكم الملكي وعاشوا ظروفاً لا إنسانية تماماً وسحقهم الأستغلال والأقطاع (1)!!
لقد توقفت عجلة الثورة، وإقتربت من شكل الحكم العسكري، مذ كبحت قيادتها النهوض الجماهيري المنطلق نحو إستكمال مهمات الخلاص ومذ نات عن وعودها بالديمقراطية السياسية (2)، مما خلق فيها تناقضاً مميتاً بين طبيعتها ومنجزاتها الثورية وبين شكل الحكم الفردي، فمكن منها حفنة من المرتزقة، اسقطتها وأغرقت البلاد في حمامات دم متواصلة حتى اليوم!!

(2)
لم يكن تاريخ الثقافة العراقية يوماً سوى تاريخاً للثقافة الديمقراطية، وكل ما كان خارجاً عنها أو عليها كان معادياً للديمقراطية، وبالتالي للثقافة ذاتها. فتاريخ هذه الثقافة هو تاريخ نضالها التنويري من أجل تحرير الوطن والإنسان. إن صعدت حملت معها الأبداع وأيقظت العقل وفكت قيود الوطن (كم صار عددها في ظل الأحتلال؟)، وبهذا المعنى ساهمت الثقافة العراقية في إنجاز تورة 14 تموز، فأشاعت لها الثورة الهواء الضروري لتواصل الأبداع وأتاحت لها الفضاء اللازم لذلك!
ورغم ما حملته إنتكاسة الثورة، ومن ثم ما أفرزه الأحتلال البغيض وتركته الثقيلة من تراجع مر للثقافة وسيادة لأوبئة التجهيل وطواطم التخلف، ورغم الأرهاب والتشريد والعبث بالتاريخ والتراث، فإن ثقافتنا الديمقراطية لم تزل تحمل مشروعاً سياسياً ـ ثقافياً يقيم الكلمة على الوظيفة والفكرة على الفعل، ويوحد بين النظر والعمل، فيصبح النظر أداة لتحويل المجتمع ويصبح الفعل أداة اتحقيق النظر وأعادة بنائه!
إن مؤسساتنا الثقافية مطالبة اليوم بأعتبار 14 تموز يوماً لحماية الثقافة العراقية، التي يجب أن تتصدى لمهمة أستكمال مشروعها في تجديد الفكر والعمل من أجل تجديد المجتمع. إن ثقافة تقرأ أسئلة الحاضر وتبحث عن جواب صحيح وتقرأ تاريخها القريب كي تعيد صياغته على ضوء التجارب والنجاح والعذاب والبطولة، يمكن أن تكون ثقافة منتصرة !



هوامش
1.
كانت ملكية 70% من الأرض الزراعية في حيازة 3420 ملاكاً فقط، بينما كان 56% من مجموع الرأسمال التجاري والصناعي المشترك والخاص في ملكية 23 شخصاً فقط !
2. لعل نسبة 99.9% كانت تصح فقط لو عرض الزعيم عبد الكريم قاسم موقعه للأستفتاء الشعبي!


 


 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter