|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  14  / 12 / 2012                                إبراهيم الحريري                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 كشف حساب

على الطريق

ابراهيم الحريري

ينبغي ان يكون قد حدث هذا في مثل هذه الايام من عام 1951، بالضبط في 15 كانون الاول منه.

كان شتاء بغداد، كما هو شأنه دائماً، غائماً مطيراً. وكنا فتية المحلة نتجمع قرب دكان لتأجير الدراجات في الاعظمية، صاحبه جابر متروك (اخو سعيد متروك الذي اعدمه فيما بعد، انقلابيو شباط لدوره في مقاومة انقلاب شباط 1963، في الكاظمية).

ناداني جابر قائلاً: "تريد تتصل بالحزب؟ هذا هو الحزب".

كنت معروفاً في محلة النـصّة في الاعظمية بأنني شيوعي! كان هذا غريباً استجلب لي الـجفوة والعداوة في محلة اكثر سكانها سوامرة وعانيون وكبيسيون ومواصلة ينقسمون بين تيارين: "اخوان مسلمون" وقوميين (احد هؤلاء الفتية اياد السامرائي، اصبح احد قادة "الاخوان المسلمون"، الحزب الاسلامي الآن.

الا ان (صوفتي الحمرة) لم تكن تثير جابر، ولا جاره (الاوتجي) الكظماوي، مهدي، الذي كان على صلة بمنظمة "وحدة النضال" الشيوعية. ولعلهما لم يأخذا هذا الفتى المندفع الذي يجاهر علناً بشيوعيته، محمل الجد، في وقت لم تكن صورة قادة الحزب يتأرجحون من على حبال المشانق بارحت مخيلة الكثيرين، بل لعل هذه الحماسة قد تكون اثارت بعض التوجس لدى جابر ومهدي، حتى قرر جابر، اخيراً، ان يغامر ويقول: (هاك الحزب)!

كان الحزب هو فوزي السعدي (فوزي بلدية كما عرف وقتها، ابو هند عضو منظمة الكاظمية، رحل قبل سنوات قليلة).

كان فوزي عائداً للتو من تظاهرة تشييع للسجين الشيوعي نعمان محمد صالح، وهو استشهد مضرباً عن الطعام في سجن نقرة السلمان. اقيم للشهيد يوم 15 كانون الاول 1951 أي قبل 61 عاماً. ومنه من فوزي تعلمت اول اهزوجة (ردة) ثورية:

سودة على الوزارة شلون غدارة

نعمان السبع ما تنطفي ناره..

كانت هذه اولى خطواتك على طريق الشيوعية العراقية، لكن كانت سبقتها، ومهدت لها خطوات اخرى على الطريق ذاته، لكن في بيروت.

***

الان، وانت تلتفت الى الوراء، ترى الى الصبي، ابن رأس النبع، المحلة البيرواتية التي كانت تتقد، وقتذاك بالمشاعر الوطنية، وتتفجر منها التظاهرات احتجاجاً على اعتقال سلطات الانتداب الفرنسي عام 1943، لقادة الاستقلال، بشارة الخوري ورياض الصلح وحبيب ابو شهلا والمير مجيد، ارسلان (كان يسكن قربكم، انحدرت خيول انصاره يحملون البواريد والسيوف ويقيمون العراضات ملوحين ببنادقهم وسيوفهم منشدين ( ياميرنا... يامير مجيد.. وسلاحنا نار وحديد).

ترى الى الصبي محمولاً على الاكتاف، وقد طلب منه المتظاهرون ان يمثل دور صنيعة الاحتلال الذي نصبه محل الرئيس المعتقل وان يردد:

انا اده حبوني!

فيردون عليه (... عليك.. عليك) وغير ذلك من النجاسات

فيردف الصبي: كرمال الله حبوني! فيرمونه بقذارات اخرى.

وهكذا كان يتلقى اول درس له في الوطنية، عبر تمثيل دور الصـنيعة اده.

(فيما بعد يسترد الصبي، وقد اشتد عوده اواخر الستينات، من ريمون اداه ابن اميل، دين ابيه له، مع الفائدة المركبة، وكان ريمون قد رشح ضد قائد الحزب مرشح الحزب الشيوعي اللبناني، في طرابلس، نقولاً الشاوي، بزجلية لبنانية من النوع المعروف بالـقرادية

حزرتلري سخصية

تكساي ميه وميه

عبكرا عند السفير

بالكازينو ليليي

حراميي يا حارس

ياحارس حراميي..

وتردد جوقة اخرى:

ما بتفيد الرشاوي

صوتي لنقولا الشاوي..

سيتطور ذلك على صفحات الهدف مجلة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و"النداء" يومية الحزب الشيوعي اللبناني، سيتطور الى شخصية "محسوبكم زكور شوفير عالخط" "يخش" في الطبقة الحاكمة اللبنانية عرضاً وطولاً مثله في ذلك مثل "صديق حمدان" الذي ولد على صفحات اتحاد الشعب عام 1959).

وها هو ذا يجوب وصبية محلة راس النبع وفتيانها شوارع المحلة مردداً:

بدنا ناكل.. جوعانين!

بدنا خبز.. بدنا طحين!

مع ان مائدة اهله، الميسورين ذلك الوقت، لم تكن تخلو من الخبز الفاخر والادام  الدسم.

وهنا هو ذا يتقافز بين ارجل المحتفلين بالاستقلال زخات من الرصاص والدبكات، تحترق اصابعه وهو يتلقط "البوش" (الطلقات الفارغة) المتقد.

وعندما رشح الحزب الشيوعي اللبناني/ السوري، وقتها  ، الكاتب المعروف عمر فاخوري للنيابة عن مقعد نيابي في بيروت، تحولت دارة والده دائرة انتخابية للفاخوري وزعت خلال حفلها البوظة (الدوندرمة) الحمراء، اصاب الصبي واخوته الكثير منها.

***

ها هو الآن فتى تجاوز العاشرة، يشارك عام 1948 في تظاهرة احتجاج على سلب الشعب الفلسطيني ارضه، وما زال كتفه يحمل ذكرى اول عصا لواحد من قوات الامن التي فرقت التظاهرة (العصا الثانية كانت من مدير مدرسة السفينة الابتدائية في الاعظمية، منير السعدون، انهالت على كفيه بسبب وشاية زميل له بانه سب الذات الملكية! (سيلتقي وهذا "الزميل" بعد سنوات كاتباً في الشعبة الجنائية وقد احيل اليها لاخذ طبعة اصابعه. كان كل منهما قد اختار و اتخذ موقعه).

***

وها هو الفتى يجمع تواقيع 30 من طلاب المدرسة، على اول نداء للسلم عرف بـ"نداء ستوكهولم"، ويشتبك مع طالب قومي سوري مزق النداء ويشكل من طلاب صفه حلقة تزور المركز الثقافي السوفيتي (فوكس) اسبوعياً (اصبح احد اعضائها، بعد سنوات، مسؤولاً لامن بيروت للحزب الشيوعي اللبناني) خلال ذلك كان ينمي حسه الادبي والثوري بقراءات لعمر فاخوري ورئيف خوري، "قصص عن لنين" ونتف من مجلة الطريق وجريدة "الصرخة" التي كان يصدرها الشيوعي الطرابلسي زكي الافيوني  يتوجها شعار "الكومنفورم" الشيوعي وقد حل بداية الحرب الباردة، محل  "الكومنترن":

 في سبيل سلم دائم.. في سبيل ديمقراطية شعبية

ولم يكن يتحرج من السطو على ما يخبئه اخوه الاكبر وكان قد انضم الى حلقة طلابية شيوعية يقودها مسؤول الطلاب في الحزب خاله حسن قريطم، كان يسطو على ما يخبئه من صحيفة الحزب السرية "صوت الشعب" ونشرات شيوعية اخرى بين طيات ثيابه بعد ان ينام، او تحت فراشه.

(سيرد فيما بعد، دينه للحزب الشيوعي اللبناني، وكان الحزب يهيء عام 1974 للاحتفال بميلاده الخمسين مرسلا له، مع وفد الحزب الشيوعي العراقي المغادر الى بيروت للمشاركة في الاحتفالات تحية زجلية ختمها بالقول:

(يا حزب اللي ربانا

ومهجة قلبو طعمانا

ويا حزب اللي صوب النور

دولابك بيضل يدور

بيضل يدور

*** ***

دولاب العمل.. دولاب الامل

بيضل يدور... بيضل يدور)

خلال ذلك كان الفتى التقى عام 1949 الشيوعي العراقي الهارب الى بيروت، رؤوف العكيلي (رحل قبل سنوات قليلة) وكان نسيباً لعائلة عراقية على صلة بوالده، الهب رؤوف مخيلة الفتى بأساطير عن بطولات الشيوعيين العراقيين وبسالتهم ، وهو على اهبة مغادرة بيروت مع اهله الى بغداد، "بلغ" خاله بقراره الالتحاق بالحزب الشيوعي العراقي.

كان الحزب العراقي وقد اعدم قادته، وصفيت اكثر منظماته، ما يزال مثخناً. اشفق الخال على ابن اخته وقال: له بعد تردد : يا خالي على مهلك!

لكن الفتى كان مستعجلاً ظل يبحث عن الحزب حتى التقاه في 15 كانون الاول عام 1951 في دكان جابر البايسكلجي فالتحق به ممتطياً دراجة هوائية لم تفارقه حتى الآن...                    

                                 ***************

 اي "خطيئة" ثورية لم يرتكبها؟ حيازة وتوزيع وكتابة النشرات والبيانات،  المشاركة في التظاهرات والاضرابات العمالية وقيادة بعضها، تهريب سجناء شيوعيين من السجن، التمتع بنعيم التعذيب وزنزانات الاعتقال والسجن والمشاركة في مقاومة انقلاب شباط في عكد الكرد بالسلاح، تزوير جوازات، تهريب اول شحنة من السلاح الى فصائل الانصار الشيوعيين في كوردستان اواخر عام 1979 مع الراحل صالح دكله.

وغير ذلك من "الخطايا" التي لا يسمح الوقت ولم يحن بعد للكشف عنها.

تقلب خلال ذلك بين المدن والمهن فراشاً وصانع نجار وعامل نسيج يدوي، فبائع كتب، فصحفياً، قاصاً وروائياً فمدير مصنع لبناء الحوائط الجاهزة لاحد فنادق القاهرة الكبرى، (ما يزال مدير المشروع ذلك الوقت الصديق باسم مشتاق لا يمر من تحته، بل حتى قربة مخافة، ان ينهار! ) بائع ملابس اطفال متجول في شوارع القاهرة وصانع في مطبخ كندي، عامل تعبئة بانزين يعمل بين 8 ساعات و 12 ساعة في صقيع كندا القارص..

لم يدخر الحزب مجالاً للنشاط لم يزجه فيه : المحلي، الطلابي، الفلاحي، الصحفي - كتابةً وتنظيماً - المثقفون، العمالي، ثم المحلي في الموصل، مسؤولاً في التنظيم الحزبي في المدينة، في اخطر السنوات، سنوات الاغتيالات.

وها هو الصبي الفتى الشاب الرجل الكهل يقف امامكم على عتبة الشيخوخة يكاد يداني الثمانين.

                               ** *******

اتساءل احياناً الم يساورك الخوف والقلق والتردد؟

بلى، الكثير، قادني بعضه الى الانكسار.. لكني استطعت، بمعاونة العديد من الرفاق بينهم صالح دكـَلة،عبد الرزاق الصافي، آرا خاجادور وابو عادل الشايب ( انور محمد طه ) وعزيز الجصاني وغيرهم؛ ومن لبنان الرفاق كريم مروة، غسان الرفاعي عضوي المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني وغيرهم الذين لم يتقبلوا لي الهزيمة، التي كنت رفضتها ، واعانوني على النهوض .ومواصلة السير على الطريق...

 الم يخالجك الندم؟

كلا بل الف كلا!

دعوني اقول انني بالرغم من وعورة الطريق، بل لعله بسبب ذلك، اشعر بالفرح لاني ما زلت على الطريق..

واشعر بالفرح ايضاً، لانه قدر لي ان اعيش وانا ارى اصناماً كثيرة تتهاوى واخرى على الطريق..

لم يعد الحزب، بل لا ينبغي ان يكون صنماً معبوداً متعالياً، تقدم على اعتابه القرابين، بل رفيقاً وصديقاً، مثلنا، وكائناً انسانياً مثلنا، اكاد اقول من صنعنا، ومثلنا له اخطاؤه وخطاياه، ومثلنا له ذرى نهوضه وتألقه.

لم تعد الشيوعية ديانه سامية.. مقدسة، لها طقوسها وكهنتها من "حراس العقيدة" يحافظون على نقاوتها، يحرسون بكارتها من مقاربة التجربة، من غـواية الجديد، من الالتحام بدفق الخصب وروحه الخالد، في الفكر والحياة والطبيعة.

وما عاد لها مرجعية ولا مركز بابوي (فاتيكان شيوعي!) ولا حبر اعظم احمر معلق بين الارض والسماء.

وها هي تتحول الى ورشة للفكر والعمل والتجربة تمّد جذورها عميقاً في الارض، في الناس، بينما تطاول ذرى الحلم.

فرح لان الحزب وضع خطواته الاولى على طريق التغيير والتجديد في مؤتمره الخامس عام 1993، وانا  ادرك ان ذلك لا يتم بمجرد اعلان النوايا بل هو عملية صراعية معقدة ممتدة وطويلة يكتنفها التقدم والتراجع، فالتقدم الى مرحلة اعلى.. ذلك ان القديم يتحصن وراء افكار ومصالح ومواقع، والاخطر،  وراء قوة العادة التي تفضل ان تستكين الى ما هو قائم، وتعاني من الخوف من الجديد والتغيير، ومن المغامرة والتجريب.

مع ان التقدم، على مر العصور وفي كل الميادين، لم يتحقق الا عبر المغامرة والتجريب.

وبهذا الصدد كتبت الى المؤتمر الخامس للحزب المنعقد عام 1993 الذي اعلن تدشين مسيرة التغيير والتجديد:

لم اعد مشدوداً ايها الرفاق الى صيغة الحزب اللنيني رغم ان الواقع العراقي ما زال يغذيها، فانا ارى المستقبل لتحالف يساري عريض يضم كل قوى الديمقراطية والتقدم والاشتراكية ويمكن للحزب بل يتحتم عليه ان يمهد لإقامة هذا التحالف ومنذ الآن بالاتصالات وبالدراسات وبالمساعدة على تكوين الرؤية الاستراتيجية.

 واضفت "ومع انني اتمنى لمؤتمركم النجاح في تحقيق شعاره المركزي، تجديد الوطن وتجديد الحزب الا اني اعتقد انه ما يزال بينه وبين ذلك الكثير، وانه ما يزال عليه ان يمتلك الرؤية والادوات، وانه ما يزال امامه ان يطلق ويحفز طاقة البحث والدراسة، داخل الحزب وخارجه لصياغة مشروع المستقبل، مشروع النهوض والتجديد للوطن والحزب". (عام 1985 تقدمت الى قيادة الحزب بمشروع متكامل لإنشاء مركز للدراسات والبحوث بالإستفادة من الطاقات المبعثرة في المنافي يتآكلها الضجر).

وختمت بالقول: " فهل سيكون ما يشدنا الى الحزب، حزبيين وغير حزبيين، ذكريات الماضي الجميل وخطابه، فقط، ام، ايضاً، مشروع المستقبل؟"

وما يزال هذا التساؤل مطروحاً على الحزب، اليوم وكل يوم وهو يغد السير على هذا الطريق محاولاً التغلب على مصاعب الداخل والخارج.

عشت لادرك انه ليس ثمة، بالنسبة للشيوعي، خطوط حمراء ولا ما هو محرم، الا التخلي عن الدفاع عن مصالح الكادحين ، الا الجمود على ما هو بال وقديم فات اوانه، في الفكر والتنظيم.

 وانا فرح، ايضاً وايضاً، لأني ارى بأم العين تسونامي التغيير والتجديد في بلداننا العربية وفي كل مكان، ولن يكون العراق بمنجاة منه عاجلاً ام آجلاً، يهجم موجة اثر موجة يتراجع ليهجم كرة اخرى مفسحاً لشعوبنا طريق التقدم.

               **************

اعلم ان بعض رفاقي يأخذ على قلقي - يسميه الرفيق الصديق غانم حمدون، "نزقي" وما اسميه انا عنادي في الدفاع عن استقلالي ومجابهة كل ما اعتقد انه خاطئ وضار، في داخلي وفيما حولي.

لم اخف نزعة العناد والمشاكسة لدي، ولقد ختمت واحدة من رسائلي الى الحزب (نشرت في طريق الشعب يوم كان العزيز غانم يتولى تحريرها، اوائل التسعينيات من القرن الماضي، كما اعتقد) ختمها بالقول: "اني احرص ان احفظ في داخلي، وان انمي روح الصبي الشقي، المشاكس العنيد الذي كنته واظله..."

لكنه قد يشفع لي اني لم اكن متساهلاً مع نفسي وانني حاربت، ولم ازل، نوازع الضعف والتردد والقلق عندي، فما تهاونت في كشف اخطائي وخطاياي علناً وفي انتقادها، فقد تعلمت، وكم دفعت ثمن ذلك غالباً، ان هذا هو الطريق الذي لا طريق غيره، للتطهر -، كي يعود المرء وقد تخلص من ادرانه، نظيفاً، خفيفاً، اقدر على الفعل والحركة.. وقد يشفع لي، ايضاً اني كنت، بل حاولت ما استطعت، ان اكون صادقاً مع نفسي ورفاقي والحزب والناس.

لم احز شهادة (مع ان امي بعد ان اطرت الشهادة التي حزتها، الابتدائية، بدرجة الامتياز مع مرتبة الشرف الاولى! حرصت ان تضعها في مكان بارز من غرفة الاستقبال كيداً للحساد) فما ان لاحت لي اول فرصة لهجر مقاعد الدراسة، حتى اهتبلتها، تساعدني في ذلك حمية عهود متعاقبة ولسنوات طويلة من المطاردة والاعتقال والسجن والنفي..

لم اكنز مالاً، بل انا مدين بما يزيد على الخمسين الف دولار بسبب طيبتي التي تبلغ احياناً حدَّ الغفلة، (ارجو ان لا اضطر لكشفي ملابسات ذلك) ما طمحت في شيء من هذا، فقد تكشف لي المستقبل منذ كنت فتياً : ان اكون كاتباً وثورياً.

وها انذا اترك لكم الحكم ما اذا كنت، وانا في اواخر العقد الثامن، عبر مسيرة تخللتها الوهاد والذرى، اصبت شيئاً من هذا الطموح.

لكني لم اتعالى على الحزب ولا على رفاقي والناس، بما حققته، بل حاولت ان اوظفه لأضاعف من طاقتي على العمل من اجل الناس ومساعدتهم على التخفيف من آلامهم ومصاعب حياتهم والاقتراب، ولو خطوة واحدة، مما هو افضل. وما ازال، على التقدم في العمر، تتملكني، تلك الرغبة في التعلم من رفاقي، من الناس، من الحرف، على تنوعه، ومن الحياة.

الآن، وانا احسو متأنياً، متمهلاً، ملتذاً،ما تبقى من كأسي، وهو ليس بالكثير، وحيث يخامر ليلي نهاري، بل يكاد يغشاه، احسو ثمالة الكأس، مكتحلاً، بوخط الشفق المنور الرائع، ينتشر ملكاً بعرض افق غروبي، يمتلئ قلبي غبطة لانني ما زلت على الطريق ذاته، مع رفاقي ومع الناس، ولانه، أي هذا الطريق، بات اكثر رحابة، اقرب الى الناس، واحفل بالفرح والامل.

الآن اقف امامكم، امام رفاقي وامام الناس اقدم كشف حسابي، الدائن منه والمدين بنشاطاتي ومغامراتي، بهزائمي وانكساراتي لتحكموا لي او عليّ، هاتفاً من اعماق القلب :

اشهد اني عشت مغامرة كبرى للقلب والروح والعقل، وضعتني على مشارف الكشف اكثر من مرة... وما ازال!

***

اسمحوا لي، وانا اغادركم ان اشكر رفاقي الذين اقاموا هذا الحفل ومن شارك فيه، ان اهدي هذا التكريم لمن هو اجدر مني به : شهيدي مدينتي الكاظمية، كامل طه الذي آواني بيته في ظروف الاختفاء عام 1953 وسعيد متروك والى الرفاق الذين عملت تحت قيادتهم وعملت معهم من بقي منهم حياً، ومن غاب او غيّب، ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وقد بدلوا تبديلا فوزي السعدي، ابراهيم صالح (الاحمر) ناصر عبد الامير، جاسم يحيى، رشيد العزاوي، ابو سحر السامرائي، ابراهيم الحكاك، علي حسين الرشيد، محمد الجلبي، سلام الناصري، محمد صالح العبلي، طالب عبد الجبار، الياس حنا كوهاري، وبنيامين يوسف الذي آواني بيته في الموصل، والى قائد نقابة النسيج الجالس بيننا، ابراهيم جبوري، وهو اقدم قائد نقابي على قيد الحياة كد الله في عمره اطال والقادة النقابيين  وعمال النسيج اليدوي، الآخرين عبيدة، الراحل توفيق رسول وغيرهم الكثير والى العديد من الرفاق والاصدقاء الذين رافقوني على الطريق، طالت المسافة ام قصرت وبينهم مظفر النواب ، سعدي الحديثي ، سامي احمد عباس العامري ، باسم مشتاق، ومهدي الموسوي ( ابو صلاح ، اخو الشهيد سلام عادل )، ومهدي عدنان الشديدي، الذي كان له حظ ان يكون شاهداً على بعض نزواتي وشطحاتي، ونسرين بهجت التي ما بخلت في تقديم العون لي وللحزب في ظروف آواخر السبعينيات القاسية، من موقع الصداقة , وما تزال. وتتسع القائمة للعشرات وربما المئات.

والى هيئة تحرير "اتحاد الشعب" التي قادت اول خطواتي على طريق الصحافة : الشهداء رحيم شريف، عدنان البراك، ابو سعيد، والراحلان يوسف متي وبديع عمر نظمي والى المعلم، الوحيد الباقي من الهيئة، غيري، عزيز سباهي الذي كنت اتمنى ان يقف هنا، فوق هذه المنصة ، محلي، حاثاً رفاقي على ان يجعلوا ذلك ممكناً، قريباً.

والى رفاقي في "طريق الشعب" فنيين واخص منهم عميدهم ابو خلدون والمحررين الذي يبذلون جهداً استثنائياً في وضع بالغ الصعوبة، لمواصلة اصدار الجريدة.

 وآمل ان يتسع كرمكم لاهدي هذا التكريم لجدتي عائشة. التي علمتني حب الحكايا والعدل، والى خالي القائد الشيوعي اللبناني الذي كان له فضل وضع ورعاية اولى خطواتي على هذا الطريق، والى والدي، الراحلين، اللذين عانيا الكثير بسبب شقاوتي وعنادي.

والى ام ولديّ، نسرين ملك، التي تحملت معي سنيناً طوالاً، شظف العيش، وقلق التنقل.

والى ولديّ فادي وباني...

والى زهرة العمر، رفيقتي في ما تبقى ليّ من الطريق، لعله، رحمة بها، لن يكون طويلاً، الى ماجدة الجبوري.

واخيراً ان اهدي ما تبقى اذا كان هناك من باق: الى الصبي الشقي المشاكس المغامر ، العنيد، ابراهيم الذي كنته... واظل.

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter