|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الثلاثاء  28  / 7 / 2020                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

دراسة فنية لتمثال باسطكي

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

أكتشف هذا التمثال البالغ الاهمية عن طريق الصدف عام 1975، وذلك خلال تبليط الطريق الواصل بين مدينتي دهوك وزاخو في شمال العراق، الى جانب تل أثري كبير يُعرف باسم "باسطكي"، ويقع ضمن حدود قرية صغيرة تُسمى بنفس الاسم، لذلك عُرف بين الباحثين بهذه التسمية "تمثال باسطي". ومن المهم ذكره هنا أن الطريق الذي عثر فيه على التمثال هو نفسه الذي كان يسلكه الأكديون للوصول الى مناطق تجمعاتهم التجارية والعسكرية في منطقة "كبدوكيا" وسط بلاد الاناضول، لذلك فمن المؤكد أن هذا التل يمثل أحدى المدن الصغيرة التي تقع على هذا الطريق. وقد أحدث هذا التمثال حين اكتشافه ضجة كبيرة في الاوساط الآثارية والفنية، كونه يمثل أثراً فنياً فريداً من نوعه بالنسبة لتطور الفنون في بلاد وادي الرافدين، ولم يسبق ان أكتشف مثيل أو شبيه له في جميع المواقع الأثرية في العراق.

التمثال يبلغ وزنه 150كغم وهو معمول من معدن البرونز بأسلوب الصب، وتم صنعه من قطعتين البدن والقاعدة، تم تثبيتهما الى بعضهما بواسطة أسافين برونزية. يمثل بدن التمثال النصف الاسفل لجسم أنسان عاري يبلغ ارتفاع المتبقي منه 23سم، يظهر وهو جالس بوضعٍ تتعامد فيه ساقاه بشكل أفقي الى بعضهما لتضم بينها أسطوانة مجوفة، وقد تم تثبيته على قاعدة دائرية قطرها 72سم ومحيطها 120سم وارتفاعها 10سم، كما ويضم سطح القاعدة أيضاً نص مسماري باللغة الأكدية القديمة، مكوّن من ثلاثة حقول منقوشة على شكل مستطيل أبعاده 13×34سم، تمثل كتابة تذكارية للملك الرابع في السلالة الأكدية "نرام سين" 2291_2255ق.م، تذكر في مضمونها بأن هذا الملك قد قضى على تسعة أقوام في المناطق المعادية لإمبراطوريته.

تعرض التمثال للأسف الى الكسر والتشويه المتعمد، حيث تم قطع نصفه العلوي بالكامل، كما تم قطع أجزاء من أصابع الأرجل، وفي الغالب كان ذلك من قبل القبائل "الكَوتية" الغازية التي أسقطت الإمبراطورية الأكدية عام 2230ق.م، ودمروا مدنها وخربوا معالمها ورموزها بالأخص الملكية منها. وقد أدى فقدان النصف الأعلى من التمثال الى صعوبة في تحديد طبيعة الشخص الجالس، وهل هو يمثل أحد الآلهة أو أنسان في وضع طقوسي ديني معيّن، فيما لو تم الأخذ بطبيعة وضع الجلوس والغاية منها وكذلك الحركة التي كان يؤديها من خلالها.

أن وضعية الجلوس في هذا التمثال نادرة وغريبة وليس لها قرائن في الفن العراقي القديم، لكنها تشابه الى حدٍ ما نماذج أخر تظهر في المنحوتات البارزة الأكدية وكذلك صور الأختام الأسطوانية التي تعود الى الفترة الأكدية، حيث يظهر فيها شخص بوضع الركوع أو القرفصاء ولكن ليس الجلوس التام، حيث يمثل شخص إله راكع يمسك بيديه أسفيناً كبيراً مثبتاً إياه في الأرض، وما يزيد من هذا التشابه هو وجود حقول الكتابة المسمارية في تلك الأختام والتي تعتبر أحد مميزتها.

كل ذلك دعا الى الاعتقاد أن الشخص الجالس يمثل أحد الآلهة وهو يُركز بجلسته أسفين البناء أو الراية المقدسة في الأرض تمهيداً لبناء معبداً عليها، وهو شيء يتطلب أخذ موافقة الآلهة مسبقاً التي تقوم من أجل ذلك بتكريسها وتطهيرها لهذا الغرض، حسب المعتقدات الدينية لسكان وادي الرافدين. ومن الآراء المطروحة كذلك في تحديد هوية الشخص الجالس أنه البطل السومري الشهير "كَلكَامش" وذلك من خلال شكل النطاق العريض الذي يحيط بطن التمثال، والذي يُذّكر بالأنطقة التي تظهر على أجساد البطلين "كَلكامش" و"أنكيدو" في صور الأختام الاسطوانية.

أن أهم وأبرز ما في هذا التمثال هو الأثبات بوصول الفنان الأكدي الى فهم التفاصيل التشريحية لجسم الانسان وخاصة بما يُعرف بـ"النسب القياسية"، وهذا ما يبدو واضحاً في تنفيذ شكل وحجم العضلات وتناسقها، وكذلك طول السيقان وحجم الأقدام وأصابعهما وحساب حجهما نسبة الى حجم وشكل البطن، لذلك يقع عمل هذا التمثال وفق الأسلوب الواقعي المستند الى الطبيعة الجسمانية للإنسان، وهو ما يُمّيز الفنون الأكدية بشكل عام، والتي اعتبرت حينها بمثابة ثورة على التقاليد والطرز الفنية القديمة التي كانت سائدة قبلاً والتي تُمثلها الفنون السومرية القديمة.

كان تَمثال "باسطكي" النادر أحد القَطع الأثرية الهامة التي سُرقت من المتحف الوطني العراقي خلال الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لكن يشاء الحظ الحسن أن يتم أستراجعه بعد بضعة أشهر وقبل أن يتم تهريبه الى الخارج، وهو موجود حالياً ضمن معروضات القاعة الأكدية في ذلك المتحف.

 

* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter