|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  23  / 7 / 2020                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

تمثال الملكة السومرية "بو آبي"

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

يُعد تمثال الملكة السومرية "بو آبي" والتي كان يُقرأ أسمها سابقاً في الكتب والمصادر القديمة بشكل مغلوط "شوباد"/"شبعاد"، أحد أشهر التحف الفنية التي يعرفها جميع أبناء الشعب العراقي. وكان قد أكتشف مدفن هذه الملكة ضمن مجموعة من المدافن الأخرى التي تعود الى عصر دويلات المدن السومرية الثاني أي بحدود 2500ق.م، عرفت باسم "المقبرة الملكية في مدينة أور"، وذلك في أواسط العشرينات من القرن الماضي من قبل عالم الآثار البريطاني "ليونارد وولي" وفريق عمله، وما كان يُميّز هذه المدافن إضافة الى ما عُثر عليه فيها من نفائس الآثار والتحف الفنية البديعة، هو أسلوب الدفن الذي أجريَّ فيها، حيث دُفن الى جانب الملوك المدفونين (ومنهم "بوآبي") العديد من الأتباع والحاشية من الرجال والنساء، وكان ذلك جزءاً من مراسيم وطقوس خاصة ترافق عملية تأبين المتوفين، ضمن تقاليد ومعتقدات عقائد ما بعد الموت التي آمن بها السومريون خلال تلك الفترة.

وقد غدا هذا التمثال رمزاً من رموز حضارة سومر، بسبب جماله ودقة وأسلوب نحته، حيث يعكس جمال وشموخ المرأة العراقية وسحر ابتسامتها، التي تظهر بشكل مَهيب لا يكاد يُرى، تفوق كثيراً لو تم التمعن بها بدقة تلك المُرتسمة على وجه صاحبة الموناليزا، مما يجعل الناظرين اليه يحيدوا دون إرادة أو شعور ببصرهم عن الحُلي الذهبية الرائعة التي تزينه، والتي تفنن بصياغتها فنانوا سومر فأبدعوا في رونقها ودقة صنعها، ويَنشّدوا بنظرهم الى ذلك الوجه السومري الرائع بما يحمله من تقاسيم جميلة، من جبهة عريضة أبية تعلوها عُصابة رائعة معمولة بأوراق ذهبية رقيقة، وتاج رائع ذي ورود ثلاث مثمنة الأطراف، الى عيون لوزية واسعة ساحرة، وأنف أشم وحنك مستدق رشيق يعلوه ثغر ساحر ترتسم عليه تلك الابتسامة التي لابد ان تظل عالقة في ذهن كل من يراها، بالإضافة الى جيد رشيق يلفه طوق عريض ومجموعة قلائد ثمينة معمول خرزاتها بأشكال هندسية متناسقة متناظرة التوزيع، من أحجار العقيق والفيروز والمرجان والزجاج البركاني الأسود، بينما جُملت الأذنين الجميلتين بأقراط مزدوجة ضخمة هلالية الشكل، تم صياغتها لتُماثل زوارق الماء السابحة في أهوار أرض الرافدين "المشاحيف".

كل ذلك جعل الكثير من الناس يعتقدون خطئاً أنه تمثال أثري يعود هو الآخر الى الحقبة السومرية، دون علم منهم أن مَن صنع هذه التحفة الجميلة هو الفنان العراقي الراحل "خالد الرحال" 1926_1986. وفي ذلك حكاية قد لا يعرفها أغلب العراقيين، فبعد افتتاح المتحف العراقي عام 1966 واعادة تنظيم معروضاته وفق أسلوب علمي حديث ومدروس يتناسب مع تصميم بناية المتحف الجديدة، تم وضع مصوغات وحُلي الملكة "بو آبي" على نموذج رأس افتراضي معمول من الخشب خالٍ من أية معالم لا يليق بتلك النفائس، مما أثار امتعاض فنانَنا الكبير حين رؤيته له خلال زيارته للمتحف، حيث فقدت تلك الحُلي بهذا العرض الأصم مع هذا النموذج الخشبي الميّت رونقها وقيمتها الفنية الكبيرة، على إثرها اقترح على مدير الآثار العام آنذاك الدكتور "فيصل الوائلي" عمل تمثال من الجبس بالحجم الطبيعي لتوضع تلك الحلي الثمينة عليه، يحاكي شموخ وجمال المرأة العراقية المتمثل بهذه الملكة السومرية، لإعطاء جمالية وقيمة فنية إضافية لتلك الحُلي الذهبية التي تزين التمثال. ولم يمض أكثر من شهر حتى أنجز الفنان الرائد "خالد الرحال" تحفته الفنية الرائعة هذه، ثم ليقدمها هدية ثمينة منه الى المتحف العراقي، لتتوسط بجمالها البديع قاعته السومرية الفسيحة.

لكن ما يؤسف له حقاً أن هذا التمثال الرائع قد أصابه التلف خلال الغزو الامريكي البغيض لعراقنا العظيم عام 2003، حيث أدى القصف العنيف لبغدادنا الحبيبة الى اغراق سراديب بناية البنك المركزي العراقي بالماء، حيث كان التمثال محفوظاً هناك الى جانب العديد من القطع الاثرية الثمينة والنفيسة، مما تسبب بتلفه تماماً بسبب مادته المعمول بها وهي الجبس. وبعد انتهاء ذلك الغزو الهمجي واعادة تلك الآثار الثمينة الى بيتها الرحب في بناية المتحف العراقي، أعيد وضع حُلي الملكة "بو آبي" الحزينة بفقدانها تمثالها الجميل ثانية على ذلك النموذج الخشبي القديم البائس.

فيا ترى هل يجود علينا الزمان يوماً بـ"خالد رحال" آخر تصوغ راحتاه تحفة فنية مُماثلة تظهر للعالم رُقي شعب سومر وعظمته وجمال ملكته الحسناء "بو آبي"، وتلعن بصوتٍ مدوٍ بشاعة الحروب وقُبح صانعيها الكارهين دوماً للفن والثقافة وحضارة الأنسان؟

 

* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter