|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  22  / 12 / 2023                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

خلف أسوار السنين
مُشاهدات من واقع المجتمع العراقي
(6)

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

تقديم
يزخر المجتمع العراقي كحال باقي المجتمعات الأخرى بالعديد من الصور والمُشاهدات المتناقضة والمُتباينة التي تكشف واقعه الاجتماعي الحقيقي، والجانب الأكبر من واقع هذا المجتمع الذي يمكن أن نُسميه بـ(المَخفي) لا يُنتظر أيجاده في المدن الكبيرة والأسواق المُترفة والشوارع العريضة المُكتظة بالسيارات الفارهة، إنما ترتسم لوحته الصادقة البعيدة عن الزَيف عند بُسطاء الناس، بين الأزقة الشعبية الضيقة والحارات القديمة البائسة ببيوتها الصغيرة المُتلاصقة، وكذلك في القصَبات والمناطق النائية والأرياف والقرى البعيدة المُختبئة والمُنفيّة بين الجبال وخلف التضاريس الطبيعية القاسية، التي تجعل قاطنيها في عزلة قاهرة ربما شُبه كلية عن باقي مراكز التَحضّر والتمدّن، ليغدوا في قوقعة اجتماعية فرضها الواقع عليهم، فارتضوها وتوارثوا مآلاتها رغم قسوتها عليهم، لشعورهم بأن تلك العزلة تمنحهم شيئاً من فسحة الحرية التي تسلبها السلطة السياسية الحاكمة عادة من سكان المدن ومراكز الاستيطان الكبيرة، لذلك ظل واقع هذه المجتمعات الصغيرة المُهمشّة تلك بعيد عن التوثيق والكشف، رغم أن الحقيقة كما هو معلوم موجودة لكنها تحتاج لمن يبحث عنها.

وربما كان منقب الآثار محظوظاً في هذا الجانب فهو بحكم عمله الحَثيث الشاق في المناطق النائية البعيدة، تجعله يطلّع على مشاهدات حياتية غير مألوفة عن طبيعة الناس الذين يقطنون تلك المناطق، وشكل حياتهم ومستوى تفكيرهم وعاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية الغائبة المُغيّبة، لذلك تراه يعكف على توثيق تفاصيلها، سَعياً منه في ذلك لإكمال صورة التاريخ الذي يعمل على استظهار حقيقته، من خلال توثيق ليس فقط ما يتعلق بما مَضى من تاريخ الانسان حيث عمله وتخصصّه في هذا الجانب، بل حاضره أيضاً كونه امتداد طبيعي لذلك الماضي، الذي من خلال استيعاب مَسيرته الطويلة يُمكن فهم واقع الحياة الراهن والحَدس بما قد يحدث بالمستقبل، وهذه هي الغاية الحقيقية والعِبرة المُبتغاة من دراسة وفهم مَسيرة التاريخ.

وهذا ما حاولت وسَعيّت إليه مع كتابة هذه المُشاهدات، قاصداً منها تسليط الضوء على جوانب عدة من الظروف الاجتماعية التي سادت أرض الرافدين عند عقد التسعينات من القرن العشرين، والتي قد تكون غير معروفة لعموم الناس، من خلال عَرض صور حية رَسخت بذهني لأحوال شعبنا الذي يقطن بعضاً من مناطقه النائية، واصفاً إياها بشكل صريح حسب ما كان عليه حالها خلال تلك الفترة وكما رأيتها بشكل مباشر من دون تزويق أو مبالغة، حيث كان بعضها يلفت النظر لغرابتها وبعضها تُحيطها الطرافة الفطرية، كما أن قسما كبيراً منها عكست قسوة واقع مؤلم كبَّل شريحة كبيرة من أبناء العراق، مُبيّناً من خلال تلك التناقضات شيئاً من طبيعة عيش أبنائها وتفاعلهم المُضني مع الحياة في تلك السنوات البعيدة التي أمتد عملي الآثاري على سنينها.

بيت الأشباح
مع بداية تنقيبات فريق عملنا في مدينة "بلد أسكي موصل" التاريخية عام 1995، تقرر من ضمن خطة التنقيب إجراء حفريات في بئرين عميقين ضمن مساحة التل الأثري الرئيسي، إذ كان من المحتمل العثور فيهما على دلائل هامة تكشف عن صفحات مُبهمة من تاريخ الاستيطان في هذه المدينة، لذلك كان يتطلب هذا العمل أن يقوم به شخص مُجازف مُتمرّس على هكذا أعمال خطرة، بعدها أخذ يتردد أسم "جُنيد الفخري" بين فرق التنقيب الأخرى العاملة في المدينة على أنه الشخص الوحيد القادر على إداء هذه المهمة الصعبة، ثم لم تمضِ سوى بضعة أيام حتى قدَم الى موقع العمل، رجل ضئيل الجسم أسمر البشَرة حاد القسَمات، في أواسط العقد الخامس من العمر، عرفنا حينها أنه "جُنيد" بصيته الذي يفوق شكله وهيئته بكثير، كان كثير الكلام ويتحدث بنبرة عالية يصل صَداها الى مسافة بعيدة، لكنه مع ذلك كان بَشوشاً دائم الابتسامة، تُشعرك إيماءاته وحركات جسده ويديه ببراءة الأطفال، مما يدعو من يقابله للارتياح اليه على الفور، لذلك كان تقاربنا معه سريعاً، إذ شَعّرنا نحوه وكأننا نعرفه منذ أمد بعيد.

مع مرور الأيام وديمومة العمل تعرفنا أكثر على شخصية هذا الرجل، حيث كان يعمل لسنوات عديدة حفاراً أثرياً في مفتشية أثار نينوى، وكسب شهرته بعد عمله مع عالم الآثار العراقي الراحل الاستاذ فؤاد سفر خلال عامي 1974و1975 في مدينة "كالخو"/"النمرود" الآشورية، حيث تمكن حينها بمجازفة خطرة من استخراج عشرات التحف الفنية العاجية من أحد آبار هذه المدينة بلغ عددها بحدود تسعين قطعة. ثم لتتوطد علاقتنا بصديقنا الجديد "جُنيد" الذي سُررنا بصداقته كثيراً، دعانا على أثرها لزيارته في بيته التراثي العتيق الذي ورثه عن عائلته، والمُنزوي بعيداً عند حافة الضفة اليُمنى لنهر دجلة، تحيطه الارض الفضاء من كل جانب بالقرب من مستشفى الموصل العام، والذي شَيّده "توفيق أفندي الفخري" أحد وجهاء مدينة الموصل عام 1913، ليُعرف بين أهالي الموصل ويَشتهر بـ"بيت الفخري"، لنُلبي تلك الدعوة المُميّزة مع أحدى أمسيات صيف الموصل الجميلة.

كان البيت كبيراً ذو تخطيط مستطيل مُشيّد بالحجر والجص، وله باب صغيرة وحيدة بسفاقتين لا يتناسب حجمها مع ضخامة البناء، حيث لا تتسع لمرور أكثر من شخصين، تعلوها أسكفة عريضة من المَرمَر الأزرق تستند على دعامتين من المرمر أيضاً، وهي مصنوعة من الخشب الثقيل مغطاة بصفائح رقيقة من النحاس غدت صدأة بفعل الزمن، ثبتت بمسامير حديدية على شكل زخرفي جميل يُشابه تصميم أبواب الخانات القديمة، يبدو البيت لمن ينظر اليه من بعيد بارتفاعه العالي الذي يقارب السبعة أمتار، مع الشُرفات التي تعلو جدرانه والتي تُشابه مَزاغل رَمي السهام، كأنه أحد قلاع القرون الأوربية الوسطى، ليُظن به في عزلته تلك كأنه صومعة أشباح تُعتصر الأنفس لرؤيتها وتنقبض الأرواح عند مشاهدتها، خاصة مع أعداد الخفافيش الكبيرة التي اتخذت من زوايا أطرافه العلياً أوكاراً لها، والتي ما أن تشعر باقتراب جسم ما أو يتولد لديها إحساساً بالخطر حتى تطير بالعشرات بشكل مُفزع كريه، وبصورة تُشابه ما تُصوّره الأفلام السينمائية عن قصر مَصّاص الدماء المعروف "دراكولا".

رَحّب بنا "جُنيد" كثيراً وبزيارتنا بابتسامته الطفولية الجميلة وبكلمات الترحيب الموصلية اللطيفة التي تنُّم عن ذوقٍ عال وأصالة أسرّية رفيعة.. (مغاحب بيكم، البيت نوَغ بطلتكم). أخذنا استراحتنا على أرائك تراثية جميلة في فناء المنزل، والذي كان على النقيض تماماً من ما أوحته الينا واجهته، حيث أحتوى على حديقة صغيرة فيها بعض الشُجيرات الصغيرة، وعددٍ من أصص الأوراد المنتشرة هنا وهناك بشكلٍ جذاب جميل، بالإضافة الى قفصٍ صغير ضَّم بضعة من طيور الحب، مَنحت زقزقتها العالية نسائم حياة على الفناء الذي تهب فيه طراوة الهواء خلال أوقات المساء، لنتذوق بتلذذٍ مع هذه الجلسة الجميلة مَنقوع الزبيب البارد الذي يُثلج الأجساد ويُريحها من شدة حَر الصيف، والذي اشتهرت به مدينة الموصل منذ سالف الزمان، ليصبح أحد لوازم المائدة الموصلية المُتعددة الأطباق خاصة خلال شهر رمضان.

بدا لنا "جُنيد" وهو يحدثنا بمختلف المواضيع كأنه أنسان آخر غير الذي نراه في موقع العمل، خاصة أنه شخص أعزب أختار لحياته طابع التفرد والعُزلة، مُفضلاً علاقات الصداقة العديدة التي يَمتلكها على تكوين أسرة والاستقرار في كنفها، حيث كان واسع الثقافة مُحباً للأدب والشعر رغم محدودية تعليمه الدراسي، ذو خبرة واسعة وذوق كبير في الفن ومدارسه، بعد أن قد ثقّف نفسه بشكلٍ راقٍ جداً من خلال مُطالعاته المتنوعة، كما أنه اكتسب مَهارات كثيرة وبرَع في مهنٍ وفنونٍ عديدة كالنحت والخط والنقش على الجلود. ثم بعد أخذ استراحتنا قادنا فضولنا للطلب من مُضيّفنا التجوال بين أرجاء المنزل، حيث كنّا مُتشوقين للاطلاع عن كثبٍ على تفاصيله ومرافقه البنائية وأسلوب تشييده، بعد أن سَمعنا الكثير عنه.

كانت مرافق البيت المُشيّد بطابقين تتوسطه ساحة وسطية مستطيلة الشكل، ينفذ إليها من باب المنزل عبر مَمر أو رواق ضيق، وتطل على الساحة عدد من الأواوين التي كانت تُستخدم لمعيشة سُكان المنزل وجلوسهم فيها، خاصة خلال أيام الربيع والصيف حيث يستقبلون ضيوفهم خلالها، وكذلك كأماكن لإنجاز الاعمال المنزلية التي تحتاج الى التعاون بين أفراد العائلة، كخَبز الفطائر وحَشي "الباسطرمة" وكبس المُخلل "الطرشي". بدا البيت بمساحته الكبيرة مهجوراً تماماً، ولم يَستغل صاحبه من صرحه الضخم سوى غرفتين فقط، واحدة لمنامه والأخرى لمعيشته وعمله واستقبال ضيوفه، حيث أن باقي مَرافق البيت كانت غير صالحة للسُكنى على الأطلاق، أما لكونها مُتهدمة أو لأنها مُتصدعة تملؤها الشقوق وفي طريقها للانهيار، وطبعاً كان ترميم البيت كما أخبرنا "جُنيد" يحتاج الى مبالغ كبيرة جداً، وهذا ما ليس له طاقة عليه مع تلك الظروف الصعبة التي كان يعيشها البلد.

ومن الداخل ينقسم البيت الى قسمين يفصلهما جدار له باب صغير، أحدهما يطل على نهر دجلة، ويكون مُخصص لاستقبال الضيوف والزوار، لازال أهل الموصل يطلقون عليه التسمية التركية القديمة "السَلاملك" أو "الديوان خانه"، أما قسمه الآخر، فقد تم تخصيصه لأفراد العائلة والذي سُميَّ بالتركية "الحَرملك"، أي مكان اقامة أفراد العائلة، ويَضّم عدداً من الغرف المُختلفة القياس والتصميم، والتي تطل على فناء المنزل وكذلك الجانب الخارجي بعدد من الشبابيك لغرض الإنارة والتهوية، وهي أيضاً ذات أطر خشبية جُمّلت بالزجاج الملون، ودعّمت للحماية بأسياخ حديدية متشابكة، من جانب آخر فقد احتوت جدران الغرف من الداخل على عددٍ من المشكاوات التي تُستخدم لوضع القناديل والمَسارج أو الكتب واللوازم الأخرى، كما أحتوى البيت على سرداب كبير كان يُستخدم لحفظ مؤونة العائلة ومخزونها، يرتكز سقفه كما في باقي الغرف في الطابقين العلوي والأرضي، على عقود نصف دائرية تقوم على دعامات قصيرة مربعة الشكل منحوتة من المَرمر الأزرق المُعّرق، وهي الطريقة المُتبعة عادة في تسقيف المباني الموصلية التراثية، ومن الجدير بالذكر أن بَنائي مدينة الموصل كانوا يَطلقون تسميات مَحلية طريفة على أساليب عقادة السقوف، حيث تُسمى عقادة الغرفة المستطيلة التخطيط بـ"المَهد"، كونها تشابه غطاء مَهد الطفل الرضيع، أما إذا كانت الغرفة ذات تخطيط مربع فتُسمى عقادتها "عرقجين" تشبهاً بطاقية الرأس الشعبية الشهيرة، التي كان يَعتمرها الرجال في عموم مدن العراق ومنها الموصل طبعاً.

ولعل أجمل ما في البيت هو وجود غرف واسعة في الطابق العلوي، تطل من جانبها الخارجي مباشرة على نهر دجلة بشبابيك مستطيلة الشكل معمولة أطرها من الخشب تعلوها أقواس مدببة، دُعمّت لغرض الحماية بكتائب حديدية مزخرفة بشكل في منتهى الروعة، كما تَطل نحو الداخل حيث فناء المنزل بشرفةٍ واسعةٍ "طارمة" تُعرف لدى أهل الموصل باسم "يازلغ"، وهي في الغالب كلمة تركية الأصل، والتي تكون مَحمولة على أعمدة رخامية زرقاء مربعة الشكل، منقوشة قواعدها وتيجانها بزخارف هندسية جميلة، لتجعل من الناظر اليها يُبقي عيونه شاخصة نحوها دون أن تنتابه الرغبة لتوجيه نظره الى مكان آخر. ووفق هذا يمكن اعتبار بيت الفخري مثالاً ونموذجاً واضحاً للتصميم الغالب في البيوت التراثية الموصلية، حيث اعتمدت فيه أهم العناصر المعمارية التي انتشرت وسادت خلال الفترة العثمانية، مثل الساحة أو الفناء المكشوف الذي يتوسط البيت، والأواوين المُطلة على الفناء، وكذلك وجود الشُرفات والسَراديب، والتي ترجع في أصولها الى خليط من العناصر المعمارية الشرقية، من عراقية الجذور الى تركية وفارسية، بالإضافة الى تأثيرات أخرى قادمة من بلاد الشام، حيث يُلبي هذا النموذج المعماري الحاجة الاجتماعية والاقتصادية والمناخية لسكانه.

ومن الطريف قوله أيضاً بشأن هذا البيت، أنه أسوة بالعديد من البيوت التراثية القديمة سواءً في الموصل أو في مدن العراق الأخرى، قد دارت حوله العديد من الأحاديث والحكايات الشعبية بمرور الزمن، حيث يتردد بين الناس بأن البيت تسكنه ارواح الأسلاف، كما وردت الكثير من الروايات بين أهالي الموصل عن وجود أشباح داخل البيت، حتى أن بعضهم أدعّى يقيناً مشاهدتها ليلاً وهي تسير حوله وعلى أعالي جدرانه، وطبعاً أن مثل هذه التصورات والتهيؤات حالة طبيعية في عُموم المجتمعات المنغلقة، حيث يتم تناقل العديد من القصص الساذجة بين الناس البسطاء لتتحول مع مرور الزمن الى حقائق ثابتة مُسلم بها في ذهنيتهم.

كانت أول ردة فعل لنا على البيت وصاحبه أنه من الجنون أن يسكن المرء هذا المكان الموحش المُنعزل، تاركاً الموصل الجميلة يأهله الطيبين ومناطقه الفسيحة، خاصة اذا كان وحيداً ومن دون عائلة أو ونيس، إلا في حالة واحدة أنه قد ألِف مُعاشرة الجان ومصاحبة الاشباح كما يظن ويعتقد اصحاب العقول البسيطة التي اعتادت صخب المدن وضجيجها، لكن رغم كل مآخذنا على العيش في هذا المكان يبقى أهم ما في البيت وربما كان هذا أحد أسباب عدم ترك "جُنيد" لبيت جده، هو أن التيار الكهربائي لا ينقطع عنه مُطلقاً بخِلاف كافة مناطق المحافظة بَل قل العراق بأجمعه، بسبب تغذيته الدائمة من التيار الكهربائي الخاص بالمستشفى العام الذي يقع الى جواره، وهذا الشيء بالنسبة للشعب العراقي خلال تلك الايام كان مُعجزة ونعمة لا يمكن تقديرها بمال.

بعد مُهلة من الزمن واستيعاب صورة البيت وشَكل مَرافقه وهندستها في عقليتي، بدت لي تفاصيله ليست بغريبة عني وكأني قد رأيتها سابقاً، لكن للأسف لم تُسعفني ذاكرتي متى أو أين كان ذلك، وبعد سؤال صديقنا "جُنيد" والاستفسار منه عما أحسست به، بدَد حَيرتي باسماً بأن البيت معروف ومشهور عالمياً، حيث أن بعض مشاهد الفلم الأمريكي الشهير "طارد الأرواح الشريرة"، والمعروف لدى المشاهدين العرب باسم "التعويذة"، المُنتج عام 1973 لمؤلفه "وليم بيتر بلاتي" ومخرجه "وليم فريدكين" قد تم تصويرها في هذا البيت، بالإضافة الى مشاهد أخرى منه تم تصويرها في مدينة "الحضر" التاريخية وبعض أحياء وأزقة مدينة سنجار، ليراودني حينها شعور وتساؤل مُحيّر.. كم لدى العراق على امتداد مساحته الكبيرة من مواقع وأماكن ذات أهمية خاصة، أقصيّت للأسف من حساب الزمن، وكم من استثمارات هائلة قد تم هَدرها في مجالات السياحة والفن والاعلام، فيما لو كانت قد استُغلَت بشكل عَقلاني صحيح، بعيداً عن خيالات التعصب والمثاليات الفارغة الكارهة لسماء التطور، والتي قيّدت أبداع وفكر الانسان العراقي على مدى دهور بسلاسل التخلف والعزلة.

الديرة أمان
بحكم الواجب الذي أوكل إليه لأجراء التنقيبات الأثرية في موقع تل النمل الأثري الكائن جنوب قضاء "الشرقاط"، أتخذ فريق تنقيباتنا من ناحية "الزاب" مقراً لأقامته بين عامي 1997و1998، لقربها من الموقع نسبياً وكذلك لما يُمكن أن توفره لنا من احتياجات ومستلزمات العمل والمعيشة، وكانت هذ الناحية قد تأسست عام 1960 لتتبع إدارياً لقضاء الحويجة العائد لمحافظة كركوك، وقد سُميّت الناحية باسمها هذا نسبة الى نهر "الزاب الأسفل" أو "الزاب الصغير"، الذي يصب في نهر دجلة الى الجنوب منها بمسافة حوالي كيلومترين، علماً أن نهر "الزاب الأسفل" قد وَرد في الكتابات المسمارية باسم "زابو شوبالو" في حين ورد "الزاب الأعلى" بصيغة "زابو أيلو"، كما أورده المؤرخ اليوناني "زينفون" صاحب حملة العشرة آلاف فارس في كتابه الموسوم "أناباسيس" أي "الصعود" باسم "زاباتاي"، كما وَرد في المصادر الفارسية بصيغة "زاب كوجك".

كان أهم ما شعرنا به في ناحية "الزاب" بعد مدة قصيرة من إقامة فريق تنقيباتنا فيها هو الأمان المُطبق في جميع ارجائها، بما فيها الطرق الريفية الذاهبة منها أو القادمة نحوها، حيث لم نسمع عن أية سرقات أو حوادث جُرمية حدثت فيها أو المناطق القريبة منها، وكان هذا الشيء بالنسبة لنا غريباً بالفعل ويدعو للدهشة خلال عقد التسعينات من القرن العشرين، عندما كان الأمان في عموم مناطق العراق قد أخذ بالتلاشي وأصبح من أحلام البَطر، بسبب سوء الأوضاع المَعيشية التي حلتّ بين الناس جرّاء الحصار الاقتصادي الذي فرض على شعب العراق، حيث تزايدت عمليات السطو المُسلح والقتل والتفنن بالغش وتصريف العملة المزورة، وغيرها الكثير من أصناف وانواع الجرائم التي كان النظام الحاكم يروّج لها بشكل غير مباشر من خلال أقزامه وزبانيته، لغرض شَل حركة المجتمع وبَث الخوف في أوصاله ونسيان الجاني الحقيقي المُتسبب لما حصل للبلد، والتي كان يُمكن أن تُؤلف بصددها موسوعات كاملة، ناهيك عن سرقة السيارات التي غدَت مهنة رائجة كمهنة بيع السكَائر.

لذلك كنّا نظن مع بداية عملنا في هذه المنطقة، أن سيّرنا الدائم في دروب ومسالك نائية بسيارة المَهام الحقلية الحكومية الحديثة المُخصصة لأداء واجبنا الآثاري التي يَسيل لها لعاب السُرّاق، سيكون نوعاً من المجازفة غير المَحمودة العواقب، خاصة حينما كنّا نحمل معنا قطعاً أثرية نعثر عليها خلال حفرياتنا، أو مبالغ نقدية كبيرة عند توزيع أجور العمال الشهرية والاسبوعية، لكن ما رأيناه كان عكس ذلك تماماً، حيث كنّا نتنقل بشكل آمن من دون أن نشعر بأي شيء غير اعتيادي، إضافة الى مقر أقامتنا الكائن في أطراف الناحية الذي لم يكن يتجرأ أحد بالتجاوز عليه أو الاقتراب منه بعد معرفة الأهالي لهوية ساكنيه وطبيعة عملهم، كل هذا لم نكن نتوقعه من بيئة نائية بعيدة عن سيطرة الحكومة والقانون، وكان سكان الناحية يُطمئنّون مخاوفنا ويُريحون هواجسنا هذه على الدوام مُرددين عبارة.. (لا تخافوا من شي الديرة أمان)، وقد كانت كذلك بالفعل وأكثر مما كنّا نتصوره، وفي هذا الجانب يرجع الفضل ويُحسب للجانب العشائري والنظام القبلي السائد في تلك المجتمعات التي أخذت سلطتها تنوب تدريجياً عن مؤسسات الدولة الرَسمية بعد أن غدَت مسؤوليتها هامشية وشكلية فقط.

كانت الناحية كما بدا لنا مظهرها بسيطة اقتصادياً كباقي مناطق العراق، وهي تنقسم الى قسمين، الأول هو العمران الحديث الذي يتمثل بشارع رئيسي عريض يمتد من الشرق الى الغرب لمسافة تقارب الكيلومتر ونصف في وسطه محطة كبيرة للوقود، شُيّدت على جانبيه الدكاكين والمحلات التجارية الصغيرة، بعضها مُخصص لبيع الأغراض الزراعية والأخرى كانت لتوفير الحاجات اليومية الأساسية للناس ومتطلبات معيشتهم، إضافة الى مركز صحي وبعض المدارس والمباني الحكومية الأخرى مثل دائرة للبريد وأخرى للزراعة والبيطرة، وكذلك مركزاً للشرطة أتخذ من أحدى غرفه مقراً لمدير الناحية، كما يوجد عند الطرف الغربي من الشارع تل أثري كبير ارتفاعه بحدود سبعة أمتار يعرف لدى السكان باسم "تل الصكَالة"، أما بيوت السكان والتي كانت جميعها مَبنيّة بالطابوق الإسمنتي "البلوك" فقد شُيّدت مباشرة خلف تلك المَحلات أو عند أطراف الناحية.

أما القسم الآخر فهو القرية القديمة التي تُعرف باسم "الجَرية" اختصاراً لأسمها الكامل "جَرية الشكَ"، فقد كانت أكثر بساطة وفقراً من القسم الجديد، وتقع الى الغرب منه بمسافة نصف كيلومتر تقريباً وتطل على الضفة الشرقية لنهر دجلة، وهي تُمثل منطقة الاستيطان الأولى في الناحية، لذلك كانت مكتظة بالسكان قياساً الى مساحتها التي كان قطرها لا يتجاوز النصف كيلومتر، وتقابل هذه القرية عند الضفة المقابلة قرية صغيرة تُدعى "الجَرية الجوانية" وأخرى كبيرة تُسمى "المسّحكَ" تقع عند سفح جبل "مكحول" الذي يبدو لمن يراه من "جَرية الشكَ" بشكل كبير هائل ينتصب على حافة هُوّة سحيقة، لتكوّن هذه المنطقة المُمتدة على جانبي النهر غَور فسيح شديد الرطوبة مناسب جداً لزراعة المحاصيل الزراعية.

أما أهل "الزاب" كما عرفناهم بعد مدة من العيش وسطهم ورغم التعامل المحدود معهم، فقد كانوا بسطاء الحال كوضعهم الاقتصادي، أغلبهم لا يمتلك أرضاً لزراعتها بل كانوا يقتاتون أما من تربية المواشي وما يرده عليهم منتوجها، أو يعملون كأجرّاء بُسطاء لدى مُزارعي قضاء "الحويجة"، أولئك الاقطاعيين الجُدد والحيتان النَهمة التي ازدادت سُمنة وتُخمة خلال تلك الأيام، كما كان يعمل البعض في مجال البناء أو المعامل الانشائية الصغيرة التي تنتشر في المنطقة، وكذلك بالأعمال التجارية المحدودة، كما أنخرط البعض الآخر في السلك المدني من المهن الحكومية وخاصة التعليم أو السلك العسكري في الجيش والشرطة، وما يُحسب أيجاباً لهذه الناحية هو أن نسبة المُتعلمين من أهلها كانت كبيرة نسبياً قياساً الى باقي المناطق المجاورة، وخاصة أصحاب الشهادات الجامعية الأولية والعليا، والذين كان معظمهم من خريجي جامعتي الموصل وصلاح الدين.

وكان أهالي الناحية يحملون الكثير من الصفات البدوية بما لها وما عليها، مُتمثلة بالطيبة والموّدة والكرم من جانب والعراك والتخاصم لأسباب واهية من جانب آخر، كما يُلاحظ عنهم أيضاً العفوية والتلقائية في تصرفاتهم وردود أفعالهم الحياتية، ومن يعرفهم عن قرب يَشعر بهذا الأمر بشكل واضح، وأنهم يعيشون بغرائزهم لا بعقولهم، كما لو أن بيئتهم هي التي تُسيّرهم بفعل قوانينها وسَجية طبيعتها، من جانبٍ آخر كانوا مضيافين بشكل غير محدود، وأذكر مع صبيحة أول يوم لقدومنا، بادّرَنا سكان البيوت المجاورة لمَقرّنا بوجبات فطور يحملها صبية صغار، تتمثل بأرغفة الخبز الطازج وقدور اللبَن الخاثر مع صحون الزبدة ترحيباً بقدومنا، والتي تقبّلناها منهم طبعاً شاكرين من أجل تقوية أواصر الثقة والاحترام معهم، إضافة الى دعوات تناول طعام الغداء التي وجّهت لنا من باب التقدير بالضيوف، لكننا كنّا دوماً نعتذر عن قبولها بشكل ودي للغاية مُتعللين بضيق الوقت والانشغال الدائم بزحمة أعمالنا وكثرتها، لكن الأمر الأهم هو على الرغم من الطابع العشائري المُنغلق لسكان الناحية، إلا أنهم لا يبدون أي تَحسّس أو نفور تجاه الغرباء القادمين من مناطق العراق الأخرى، وهذا ما أحسسناه بشكل جَلي طيلة فترة تواجدنا بينهم.

لوحة بغدادية
كان مُرورنا اليومي الراجل بين الأزقة الضيّقة العتيقة، ونحن نتوجه الى بناية القشلة البغدادية حيث مقر عملنا في المؤسسة الآثارية عند الصباح ثم عند خروجنا منها لاحقاً بعد نهاية الدوام الرسمي*، من المُتع اليومية التي لا يُمكننا الاستغناء عنها، وفي كل يوم كنّا نكتشف شيئاً جديداً من أحوال الناس وغرائب أمورهم مع المشاهد الحياتية الروتينية المليئة بالصَخب، إذ لا تزال تلك المنطقة العتيقة التي تُحيط بناية القشلة وَسط بغداد، بدَبيب حَركتها وضَجيج شوارعها وأزقتها الضيّقة واسواقها التاريخية، ترسم صورة مُصّغرة للمجتمع العراقي ببساطته وعفويته وتناقضاته وطيبة قلبه، وفي مقدمة تلك الأسواق مَحال الحِرف والمِهن الجلدية الذي يُسمى "سوق السراجين" الكائن مقابل "جامع الوزير"، و"سوق السَراي" بدكاكينه الصغيرة الذي كان يُسمى سوق "الجَقبقجية"، أي سوق صناعة أدوات التدخين، وشارع "المتنبي" الذي كان يُسمى أيام الدولة العباسية بـ"درب زاخي" ثم سُميَّ خلال الفترة العثمانية بـ"الأكمكخانة" ويعني منطقة المَخابز العسكرية، حيث ترى مَحال بيع القرطاسية المُتخمة بلوازم الطلبة والتلاميذ، على الدوام مكتظة بزبائنها خاصة مع بدء المدارس عامها الدراسي الجديد عند مطلع شهر تشرين الأول، وهم يساومون الباعة أسعار بضاعتهم مهما دَنت قيمتها، أما المكتبات الكبيرة و"بسطيات" بيع الكتب المُتناثرة في كل مكان، فتراها عامرة بمختلف عناوين الكتب تُغري المولعين والمُبتلين بالثقافة ليدفعوا عن طيب خاطر ما كانوا قد إدخروه لاقتنائها، والبعض منها كان يَبيع خلسة وبشكلٍ خفي لخاصة من زبائنٍ موثوق فيهم مطبوعات مَنسوخة عن كتب سياسية أو دينية، كانت الجهات الأمنية خلال تلك الفترة قد منعتها من التداول، ومن بين اصحاب تلك المكتبات كان يُسمع عن بُعد صياح بائع الكتب الراحل نعيم الشَطري المعروف بـ"أبو ربيع"، وهو يقف أمام مكتبته المُسماة باسمه "مكتبة الشَطري" يُنادي بمُختلف عناوين الكتب، مُروّجاً بصوته الجَهوَري لمَزاد كتبه.. (كتاب.....، ثمنه.....، من يَزيد؟ من يَزيد؟ راح أصالح، راح أبيع).

أما المطاعم الشعبية الصغيرة بتنوع مأكولاتها والمَحشورة بين اكتظاظ كمّ المحال الهائل الذي يملأ المكان، فلا يكاد المَرء يجد لنفسه كرسياً شاغراً فيها من شدّة الزحام، وفي مُقدمتها مطعم "كباب الاخلاص" لصاحبه الراحل عباس الحاج داود، الذي أنتقل موقعه فيما بعد الى ساحة الرصافي، ومطعم "كبة أبو علي" الشهيرة التي تحّول أسمها لاحقاً الى "كبة السراي" الذي تصل رائحة كبته الشَهيّة المُغريّة حتى طرف السوق، مع العبارة المُميّزة التي أعتاد ترديدها صاحب المطعم الراحل "الحاج أبو علي" بلهجته البغدادية الجميلة وهو يُقدّم طبق الكبة الساخنة لزبائنه.. (أخذ عني أخذ.. ألف عافية)، ولا يُنافس هؤلاء في اجتذاب الزبائن الجَوعى سوى مطعم "كاهي علي" بكراسيه ومَناضده المَصنوعة من الخيزران ومُبردة هوائه العتيقة ذات الصوت المُدوّي.

وخلف تلك المَحال المتباينة التَخصص وشكل الرزق، أنزَوَت ورش صياغة الذهب بحرفييها المندائيين المَهَرة، وكذلك مطابع الكتب والإعلانات التي كان يُستدل على وجودها من صوت مكائنها الذي يَكاد لا يَنقطع، كما انتشرت بينها أيضاً عربات بيع الشاي والسكَائر وقطع الحلوى بعَفوية تجلب دوران الرأس وحيثما يتواجد زبائنهم، يوم هنا ويوم هناك بين هذا المطعم أو ذاك المَحَل، وبين هذه الحركة العشوائية الدائمة التي لا تهدأ، كان يقف بائع السَمك ذو العقل المُختل "عدنان" مع عربة أسماكه النهرية الشَهية مُقابل مقهى "الشابندر" بهيئته الغريبة، من لحية كثّة وملابس عسكرية موّشحة بميداليات نحاسية مُقلّدة، مُعتمراً قبعة مُميزة، متشبهاً بالزعيم الكوبي الراحل "فيدل كاسترو"، والذي أعتاد رواد المنطقة مُمازحته بين حين وآخر قتلاً للضجر وتناسياً لهموم الحياة داعين إياه بكلمة "عَوعَو"، ليَرُّد هو عليهم بالمُقابل بسَيل من أقذع الشتائم، بل وحتى بائعات الهوى وَجدّن في هذه البيئة الصاخبة مَثابة خاصة لهّن لاستحصال (رزقهن) في طرف شارع المتنبي عند التقائه بشارع الرشيد، لتغدو هذه اللوحة الفوضوية السائبة الحدود والمتباينة الخطوط، بمثابة حالة خاصة خلقتها الحياة البغدادية على صفحة الدهر جيلاً بعد جيل من المُستحيل أيجاد شبيها لها.


ملاحظة...
في 1987 صدر قرار حكومي يقضي بنقل مَقر المؤسسة الاثارية العراقية وأقسامها، من بنايتها الحديثة في منطقة "الصالحية" بجانب المتحف العراقي الى بناية السراي القديم "القشلة"، بهدف إعادة الحياة الى الأبنية التراثية العريقة في العاصمة بغداد، ثم في عام 1998 صدر قرار آخر أعاد بمُقتضاه مقر المؤسسة الى بنايتها السابقة، تزامناً مع تشريع القانون الجديد للمؤسسة الآثارية العراقية الذي تم بموجبه تحديد الاسم الجديد للمؤسسة وهو "الهيئة العامة للآثار والتراث".



* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter