|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  17  / 2 / 2023                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

التنقيب الأثري
مهنة المَتاعب والمَشاق والمَهارات المُتعددة

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

لاشك أن لكل مِهنة مُعاناتها ومتاعبها كما لها أيضاً نجاحاتها واخفاقاتها، تبعاً لظروفها الخاصة وما يُبذل خلالها من جُهدٍ ونكران ذات، لكن يبقى التَمسّك بها يعود بالدرجة الأولى الى مَدى حب الانسان لها ودرجة أبداعه فيها. ومهنة التنقيب عن الآثار لا تختلف عن هذه القاعدة العامة، أنما طبيعة مَتاعبها تكون من نوع أخر مُختلف تَغلب عليه المفاجآت والاحداث البعيدة عن التوقع أو الحَدس، لكن ما يُؤسف له أن ما يعرفه عُموم الناس عن حقيقة هذه المهنة مَحدود جداً رغم أنتشار سُمعتها وعظِم اكتشافاتها التي كانت المصدر الرئيسي لكتابة تاريخ الانسانية، ولعل مُعظم ما معروف عنها مأخوذ من بعض افلام هوليوود السينمائية أو التقارير التلفازية المُقتضبة.

أن مهنة التنقيب عن الآثار غايتها الاساسية البحث عن المواد الاثرية الخام المنقولة وغير المنقولة، لغرض توثيقها بشكل صحيح ومعالجتها ثم دراستها بشكل علمي دقيق وفق أسلوب المُقارنة والنقد الموضوعي، للحصول منها على حقائق تاريخية راسخة، لذلك فأن السَعي للحصول على تلك المواد يَتطلب الذهاب الى أماكنها الاصلية، التي تقع غالباً في أماكن نائية بعيدة عن مناطق العمران والتَمدن الحديثة، تَضطر المنقب بالتالي خلال عملية بحثه للتعامل مع ظروف وبيئة تلك المناطق والتأقلم بمتغيراتها، والتعايش مع سكانها كلٌ حسب طبيعته وتقاليده وعاداته الخاصة.

ويقتضي من المنقب الكفء لكي يتمكن من الوصول الى هدفه وانجاز تنقيباته بنجاح، أن يكون مُلماً بالكثير من الامور وذو خبرة جيدة في العديد من العلوم والمواهب، مثل الهندسة المساحية والبنائية، كي يتمكن من تثبيت الاحداثيات الهندسية الصحيحة للموقع، ورسم الخرائط الكنتورية ومُخططات الابنية ومُجسماتها، وعلى معرفة بأساليب البناء وأنواعه، وأن يكون جيولوجياً جيداً لمَعرفة طبيعة الاراضي التي يَجري فيها حفرياته وأنواع تُربَها المُتغيّرة، ليتمكن من تَمييز الطبقات الأثرية الواحدة عن الأخرى، وكذلك له معرفة واسعة بالتصوير الفوتوغرافي وأساسياته لالتقاط مختلف الصور، من أجل توثيق اللقى الأثرية وكذلك المعالم البنائية والزخارف والرسوم والمنحوتات التي يتم الكشف عنها.

وأيضاً يكون له دراية لا بأس بها بأنواع المعادن وتكويناتها الكيميائية ومدى مقاومتها للظروف الطبيعية، وأن يمتلك خبرة ممتازة في صيانة ومُعالجة الاثار داخل الموقع وأثناء نقلها، كما يجب أن يكون مُجيداً لفن الرسم مُتمكناً من قواعده الأساسية بنَوعيه الهندسي والطبيعي، كي يستطيع رسم اللقى الأثرية وخاصة الفخريات وكِسَرها، وكذلك الأدوات الحجرية القديمة، حيث يتم اعتماد تلك الرسوم بشكل رئيسي يفوق التصوير الفوتوغرافي، في عملية فرز تلك القطع وتحديد طُرزها ومُصنفاتها والأدوار الحضارية التي تعود لها، ومن خلال ذلك يمكن تحديد زمن الطبقات الأثرية والأماكن التي يتم العثور عليها فيها.

كما يتطلب من المنقب أيضاً أن يكون اقتصادياً ومُحاسباً بارعاً لإدارة الامور المالية لفريق التنقيب، وتبويب مصروفاته وتدقيق وتنظيم حساباته وفق الميزانية المُخصصة لعمله، ومن الضروري كذلك أن يكون ماهراً في قيادة السيارات في المناطق الوعرة، وخبيراً في كيفية اصلاحها، وغير ذلك من الامور الكثيرة الاخرى، بمعنى آخر عليه أن يُجيد ليس فقط سبع صَنائع، بل دون أدنى مبالغة أكثر من سبعين صَنعة، يُضاف الى ذلك كله يجب ان يتحلى بصبرٍ ونكران ذات كبير وهدوء أعصاب لا حدود له، كي يتمكن من تدارك شَتّى المفاجآت والمفارقات التي قد تحدث خلال عمله، وطبعاً فأن كل ذلك يتطلب من المنقب أن يكون مُتمتعاً بصحة جيدة ورشاقة ومُرونة رياضية عالية عند الحركة، لتمكينه من أداء كل تلك المَهام الثقيلة الموكلة اليه.

ووفق كل تلك الواجبات والمسؤوليات فمن الطبيعي أن يكون عمل منقب الآثار مُرهقاً للغاية، فبالإضافة الى ما يُعانيه خلال العمل تحت وطأة الظروف المناخية القاسية، مُتمثلة بقيظ الصيف وشَمسه اللاهبة أو قرّ الشتاء وأمطاره الغزيرة، كذلك التقلبات الجوية التي تنتج عنها الرياح المُتربة والمُغبّرة، فأن عمله يَستمر طيلة اليوم تقريباً، حيث يبدأ بالعمل الحقلي الذي يُباشر به يومياً عند الفجر مُستغّلاً برودته لأجراء رسومه الهندسة، كون مُعدات الهندسة المساحية لا تعمل بشكلٍ دقيق عند درجات الحرارة العالية.

وفيما بعد عند احتدام العمل، عليه التنقل المُستمر مثل القط بين نقاط التنقيب لتسجيل وتوثيق كل شاردة وواردة داخل الموقع، ورسم المُخططات الاولية والتقاط الصور وتحديد وتثبيت أماكن العثور على اللقى الاثرية، وأيضاً مُتابعة عمال التنقيب باستمرار للتأكد من صحة عَملهم، لتجنب حدوث أية مشاكل أو سرقات أثناء عمليات الحفر، لذلك تجد المنقب على الدوام مُعّفراً بالرمال والاتربة التي تغدوا خلال الصيف كأنها حُبيبات من الجمر تشابه الرماد البركاني، ليَستمر العمل النهاري يومياً على هذا المنوال حتى العصر، هذا اذا لم تحدث مفاجآت عند نهاية العمل (وما أكثرها)، لتضطر المنقب حينها للبقاء في الموقع عدة ساعات أخرى من أجل إكمال أعماله.

ثم عند المساء يبدأ القسم الثاني من واجب المنقبين المُتمثل بالعمل المَكتبي لفريق التنقيب، والذي يكون في الغالب تحت أضواء المصابيح النفطية (الفوانيس واللالات)، ويشمل فَرز ومُعالجة الاثار المكتشفة كالفخاريات واللقى الأخرى، ثم رَسمها وتسَجيلها وحفظها تمهيداً لأرسالها الى المتحف، ثم كتابة التقارير اليومية التي تكون بغاية الأهمية، حيث أن إعدادها بشكل دقيق وصحيح ومُتسلسل عن مجريّات عمل نقاط التنقيب وما يَتمخض عنه من نتائج، يصبح هو الأساس في كتابة التقرير النهائي لموسم التنقيب، كما يتم مساءً أيضاً تنظيم الحسابات المالية وتحديد المُتطلبات الاقتصادية والمعيشية، لغرض توفيرها من أجل ديمومة العمل ونجاحه، إضافة الى إجراء العديد من الامور الأخرى التي تَحتاجها خطة العمل.

ومن بين أهم المشاكل التي تواجه المنقب هي كيفية التعامل مع سُكان المناطق النائية التي يُجري تنقيباته فيها، حيث أنهم يكونوا بشكل عام محافظين ولا يرتاحون لدخول الأغراب لوَسطهم، لذا يتطلب سياسة ولباقة من نوع خاص للتعَامل معهم، تبدأ بالتَعرّف على كبار رجال تلك المناطق وشيوخ عَشائرها وكسب ودّهم، ويعني ذلك ضمنياً طلب الإذن منهم بالعمل داخل حدود مجتمعاتهم، مُتعهداً لهم بعدم التدخل في خُصوصيات السكان، خاصةً غَض النظر عن نسائهم وعدم التطاول أو المَسَاس بمقدساتهم، فإذا نجح المنقب في ذلك فأن العمل سيكون مُيّسراً نسبياً، من حيث توفير الايدي العاملة من شباب المنطقة للمشاركة في أعمال التنقيب، وحماية مُعدات وأدوات العمل من السرقة، والحفاظ على الموقع الاثري من التخريب خلال العمل وبعده، وبخلاف ذلك سيكون من الصعب الاستمرار بأداء واجبه أن لم يكن مستحيلاً، ويصبح الوَضع مُنقلباً كلياً، ليغدوا المنقب حينها في موقف لا يُحسد عليه.

أما صراع منقب الاثار مع الافاعي والعقارب السامة فهو صراع روتيني أزلي، حيث لا يكاد يَمّر يوم إلا وتعرض أحد العمال أو المنقبين الى لدغدة ثعبان أو وغزة عقرب، ومن يَنجو من سُموم العقارب والثعابين، فأنه لا يبرأ من مشاكل المَفاصل الناتجة عن حركته الدؤوبة التي لا تعرف الهجوع، أو من أمراض الصَدر والجهاز الهضمي نَتيجة الاستنشاق المُستمر للغبار الخانق، والتعفّر الدائم بالأتربة العَفنة، خصوصاً خلال تنقيب القبور والمدافن الاثرية، وأيضاً بسبب شُرب المياه المُلوثة من النهر والتَعرّض المباشر طيلة اليوم للشمس الحارقة.

ومن حالفه الحظ ولم يَقربه شيئاً من كل هذا وذاك في ظل تلك الظروف الصعبة، فلابد أن تصطاده بعض من المشاكل الجلدية، مثل "الأكَزيما"، أو الجَرَب أو الحَساسية أو تَقرحات الأقدام، لكن يمكن اعتبار أحد أشد هذه المشاكل وأكثرها تأثيراً هي الاصابة بما يُسمى "حبة بغداد" أو "اللشمانيا"، نتيجة انتشار ذبابة الرمل الناقلة لطفيليات هذه الآفة الخبيثة في المناطق الريفية النائية، أما المتاعب الروتينية اليومية الأخرى المُتمثلة بإدامة أدوات العمل أو تصليح أعطال سيارة فريق التنقيب، ومُعالجة ثقوب اطاراتها ومُحاولات دفعها بسبب تغريزها المُستمر في الطرق الريفية الموحلة، أو تَطفل أهالي المنطقة المُستمر على سَير أعمال التنقيب، فيَصعب حَصرها أو عَدّها.

لكن بالمُقابل من كل ذلك فأن لهذه المهنة الكثير من نواحي المُتعة والجمالية بما يُخفف من وطأة مُعاناتها، ولعل في مقدمتها التوصل الى اكتشاف هام أو العثور على قطعة أثرية نادرة، وهذا يكون كفيلاً بإزالة كل تَعب أو ارهاق يُعاني منه المنقب، إضافة الى ما يَمنحه له ذلك من زَهوٍ مَعنوي وراحة نفسية كبيرة، كما تَمنح هذه المهنة أيضاً بشكل فريد ونادر فرصة التنقل المُستمر بين ربوع الطبيعة النائية الجميلة، خلال جوّلات المسح الآثاري التي تَسبق عادة عمليات التنقيب، كما وقد تحدث خلال التنقيبات العديد من المواقف الطريفة والمُفارقات المُضحكة، التي لابد أن تبقى عالقة في ذهن المنقب، يَصعب عليه نسيانها حتى وأن مَرّ عليها عديد من سنين.

 

 

* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter