|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  15  / 9 / 2023                                 حامد خيري الحيدر                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

أطفال العراق يَقهرون الظلام

حامد خيري الحيدر  *
(موقع الناس)

تبقى الطفولة وبَراءتها وجمال رقتها رغم أحلك الظروف وأصعب أوقات الحياة التي تَمّر عنواناً لهبوب نسائم الأمل، وصورة زاهية تُعبّر بعَفويتها وتلقائيتها عن بزوغ ضياء فجر جديد. تعود بي هذه الكلمات الى إحدى الذكريات الأثيرة على القلب، المُمتدة لسنوات بعيدة مَضت خلال تواجدي بحكم عملي الآثاري في محافظة نينوى الباسلة عند أواسط التسعينات من القرن العشرين.

كنت حينها مع بعض الأصدقاء عند أحد أيام شهر أيلول في زيارة لأحد زملائنا الآثاريين المُتقاعدين في بيته الكائن عند أطراف حي الحدباء في مدينة الموصل، حيث أعدّت لنا عائلته الطيّبة جلسة بَسيطة في حديقة منزلهم، المُزدانة رغم صُغرها بورود جميلة تنوعت أصنافها وتعددت ألوانها، تمّ غَرسها وفق أسلوب مُنسّق ينّم عن ذوق كبير، لتغدو لمُضيّفنا وأسرته الصغيرة جنّة لجَمعِهم ومُتنفساً لراحتهم المسائية، خاصة حين تَحّل تلك المشكلة الازلية التي كان ولا يزال يُعاني منها أهل العراق في جميع مُدنه المُتعبة، ألا وهي انقطاع التيار الكهربائي، الذي يَمتد لساعات طوال أصبحت للأسف رَهناً بحسابات المَصالح والأهواء.

لم تتجاوز الساعة التاسعة مساءً بقليل ونحن مُستمتعين بأمسيتنا تلك، مع أحاديث صديقنا المُشوّقة وكرَم ضيافة عائلته الأصيل حين أطبق الظلام علينا فجأة، كأنه وحش فتّاك همَّ بابتلاع الحياة، حتى القمر حينها بدا كأنه هَرب من مساحة الكون ليَحجب نوره عن شعب الرافدين المُبتلى منذ الأزل بمَلحمة الصبر، ثم لم يَمض وقت طويل حتى اعتادت العيون العُتمة واستوعبت الأنفس بتلقائيتها الحدث، لتوقد الأيادي على إثرها بضعة شُموع خفّف وَهَجها الخافت شيئاً من وَحشة الدَهماء، لتَستعيد بعدها الجلسة أريحيتها ومُتعتها.

ثم بعد بُرهة من الوقت أخذت آذاننا تتلقف من بين أشواك الحُلكة صوت عَزف رَشيق على العود قادم من البيت المُجاور، يَهفو تارة ويعلو تارة أخرى ثم يُبطئ بين هذه النغمة وتلك، وفق لحن صافٍ مُتناسق، ليرافقه بعد لحظات غناء عَذب كبرودة الصباح تجود به بضعة حَناجر صغيرة ناعمة لمجموعة أطفال لا يتعدى أكبرهم السادسة من العمر، أجبرتنا تلك الأصوات البريئة المُرهفة الإحساس التي تُماثل تَغاريد البَلابل على التزام الصَمت والانصّات إليها بملئ السَمع، تاركين ما كنّا نتحدث به يذهب الى عالم النسيان، عندها قال صاحبنا مباشرة وبشكل لا إرادي.. (بدأ الحَفل)، بالطبع لم نفهم بداية ماذا كان يقصد بقوله، ثم ما لبث أن أوضّح ما ذكره بعبارات مُقتضبة وبهَمسات خافتة كي لا يخدش جمالية سماع هذا الغناء... (هم ثلاثة أطفال، بنتان وولد، يعمل والدهم مُعلماً للنشيد في إحدى المدارس، اعتادوا كلما انقطع التيار الكهربائي أن يأخذ الأب بالعزف على العود، ليُرددوا هم الغناء مع موسيقاه مُتحدّين وحشة الظلام بهذه الطريقة، ويَستمروا بذلك حتى يعود الضوء).

لنَنسى بعدها مع ديمومة العزف الخَبير وتواصل الغناء العذب الذي تؤديه تلك الحناجر الصغيرة بأوتارها المهفهفة الرقيقة، وهو ينتقل من أغنية لأخرى، كل ما يَمّت بصلةٍ لمواضيع السياسة والتاريخ ونظريات الفن والمَنطق والأدب، حيث تَجردّنا ساعتها من كل ما يُرهق وظائف المُخ ويٌتعب ديناميكية العقل، مانحين حَواسنا بالكامل لذلك الهَديل الساحر يُدغدغ آذاننا ويُطرب أسماعنا ويُريح أعصابنا من شوائب الدنيا وضجيجها، والذي أنتهى فجأة بصيحة طفولية طويلة عالية... (هييييييييييه) مُعلنة انتصار البراءة على شياطين الظلام، لنَعرف حينها أن التيار الكهربائي قد عاد، وأن الظلمة التي كنا قد نَسينا وَحشتها قد بدّدتها ألسن الطفولة الجميلة بأصواتها العذبة الرَخيمة، لنعلم حينها فقط أن الساعة قد قاربت الثانية عشر ليلاً بعد أن مَرَّ كل ذلك الوقت دون أن نشعر أو نَمّل، ويتطلب منّا الأمر المغادرة فأمامنا عمل طويل وشاق يوم غد.

لأول مرة في حياتي أحببت الظلام وتَمنيت لو أنه يبقى فترة أطول، كي أبقى مُسترخياً حالماً ناسياً كل هُموم الدنيا مع هذا الغناء الجميل، مُستذكراً كلمات "السَيّاب" وهو يُردّدها من غربته على الخليج...

الشَمس أجمل في بلادي من سِواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يَحتضن العراق

 



* باحث آثاري

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter