| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

د. حسن البياتي

 

 

 

 

                                                                                    الخميس 9/6/ 2011

 

ـ مأساة هزلية أحادية البطل (مونودراما) ـ
 

تـنويعات للصوت والبيانو ...
 

نقلها من اللغة الروسية (1) : أ.د. حسن البياتي

ـ ستوديو لتسجيل الصوت. بيانو. ميكروفون يتدلى من أعلى. الجدار الخلفي بكامله من الزجاج فقط.

يدخل الستوديو رجل في مقتبل العمر. يجلس إلى البيانو ، يلقي نظرة من خلال الزجاج. تومض فجأة كتابة ضوئية : "الميكروفون مفتوح". يبدأ عازفاً ، بتأن ٍ ، لحناً موسيقياً من الجاز الهادئ الذي يبعث على الإستغراق في التأمل. ثم يقطع اللحن وهو في بدايته. ـ


الرجل:
عزيزي سيريوجا !.. أبعث إليك بهذه الرسالة الصوتية ، يحدوني أمل خفي بأنك سوف تتسلـّمها عبر اسطوانة الجاز ، وتضعها على الغرامافون. وبهذه الطريقة ستستمع إلى كل ما حاول ، دون جدوى ، أن يقوله لك والدك " فاذرك " على امتداد الأيام الأخيرة... إنني أعرف مقدار نفورك من المواعظ الأخلاقية والأحاديث الإرشادية ، لذا فسوف أبذل جهدي لئلا يستغرق منك هذا الإجراء كثيراً من الوقت ، وأن يكون مقبولاً وشائقـاً إلى أقصى ما يمكن. (
يعزف بهدوء) هذه تنويعات لموسيقارك المفضل أوسكار بيترسون.. عرفت ، طبعاً؟ لا تعتقد أنني فقدت صوابي أو انني لا عمل لي في يوم عطلتي. لا ، فكل ما في الأمر هو أن هذه الإسطوانة هي الوسيلة الوحيدة لإقامة العلاقة معك وتدبير الإتصال بك... أنا أذهب إلى عملي حينما تكون أنت ما تزال نائماً ، أنت تأتي إلى البيت عندما أكون أنا قد نمت... أو ما زلت ُ نائماً... وبالمناسبة ، أرجوك أن تفتح النور ، عند عودتك ليلاً ، بجرأة وشجاعة ، ولا تحاول أن تجتاز غرفتنا ـ أنا وامك ـ وأنت تتلمس متخبطاً طريقك في الظلام... فخير للمرء أن يرى مرة واحدة ، من أن يسمع مئة مرة!! ولا حاجة بك إلى تنظيف أسنانك لفترة طويلة في حجرة الإستحمام ، لأنني في كل الأحوال ، لا أخمن انك تدخن... (يعزف ُ.) سيريوجا ، أنت الآن في الصف الرابع الثانوي ، ومن البديهي ّ تماماً أن نكون ـ أنا وامك ـ قـلـِـقين ِ على مستقبلك... ماذا تريد أن تصبح في المستقبل؟! آخر مرة أفصحت َ فيها عن رغبتك في خصوص هذا الأمر عندما كان عمرك أربعة أعوام... "أريد أن أصبح بائع آيس كريم!" والآن عمرك ست عشرة سنة... أما زلت تريد ـ كما في السابق ـ أن تصبح بائع آيس كريم ، أم أنك قد اخترت شيئاً آخر أكثر متعة؟... شاطرني الرأي! ربما أستطيع أن أوحي إليك بشيء ما. إن فيك العديد من صفات العظماء... على سبيل المثال ، انك الآن تلعب الورق مثل نيكراسوف ، تحب شرب القهوة مثل اينشتاين ، تطلق تسريحة شعرك مثل صوفيا كوفاليفسكايا...

لقد آن الأوان لأن يـُـفــَـضـَّـل أحد ما... انك مثلث متساوي الأضلاع: عندك في مادة الأدب خمس درجات من عشر ، في مادة الفيزياء خمس ، في الرياضيات خمس... قدر الأمر ، يا سيريوجا ، ان لديك عشرة واحدة فقط ، وهذه أخذتها اليوم صباحاً من جيب سترتي!... (
ينهمك في العزف.)... أنا لا أتهمك في شيء... أعرف انك ستعيدها عندما تكبر. (يعزف.) دييف بروبيك. "بوسونوفا"...

قبل عدة أيام دخلت أحد المخازن لشراء كمية من المشمش... فأنت تحب الفطائر بالمشمش... لكنّ المسألة ليست هذا الشأن. هناك رأيت لوسيا. سألتــُها ، لماذا لم تعد تزورنا؟.. قالت ـ "لا وقت عندي لذلك"... و قد فهمت من طريقة كلامها أنْ ـ "لا حاجة بي إلى ذلك"... قبل لوسيا حدثت قصة مثل هذه بالذات مع تامارا... والآن تزورنا ناتاشا. ليس لدي أي إعتراض ضدها ، إنها صبية حسنة... وعلى العموم ، خمس عشرة سنة ـ قصة حب ، رومانس ، استكشاف... إنني أدرك كل شيء... "أنتوشكا ، أنتوشكا ، هيا بنا نقتـلع الكارتوشكا!..(2)" ـ (
ينفجر فجأة.) و لكن عليك أن تكف إذن عن تخويف والدتك بأنك قررت أن تتزوج بعد الإنتهاء من امتحان مادة الجبر مباشرة!... أنا أدري أنك ستجيبني قائلاً... الإحصائيات... القرن العشرون... الزيجات المبكرة... في افريقيا يتزوجون في سن الخامسة عشرة. أجل ، ولكنهم هناك يعيشون حتى سن الأربعين ، لا وقت لديهم... أنا نفسي قد تزوجت في سن التاسعة عشرة. ولحسن الحظ ، قد اتضح فيما بعد أنني أحب والدتك حباً حقيقياً... تيلونيوس مونك "سوناتا"... (يعزف.)

بطاريات الترانزيستر الصغيرة ستكون جاهزة يوم الإثنين... حذاء التزلج على الجليد ، ذاك النمساوي الصنع ، قررنا ـ أنا وأمك ـ أن نشتريه لك. لكنّ الخمسين روبلاً التي تريد أن تشتري بها بنطلون الجـينز ، لن أعطيكها حتى لو كنت أملكها فعلاً!... أنا متفق معك: إنه على الموضة... عمليّ... و هو بنطلون كاوبوي حقيقي ، لكنْ صدقني انّ أي كاوبوي يحترم نفسه لسوف يكف حالاً عن شراء بنطلون جينز إذا علم أنّ ثمنه يساوي خمسين روبلاً!... إنه سيقـتل الشخص المضارب في السوق السوداء رمياً بالرصاص!.. أنا أيضاً ارتدي بنطلون جينز ، رخيص الثمن... أرتديه لأنه قد ضاق عليك بعد أن نـَمـَـوْتَ... سيريوجا ، إنك تعتبر نفسك إنساناً راشداً. وازنْ إذن احتياجاتك مع إمكانياتنا... لن أعيد عليك القول عن الحقائق الأولية في أن جيلكم يعيش ظروفاً أفضل من تلك التي عاشها جيلنا ، مع أن هذا هو الحاصل تماماً... وإننا في سنكم... ذاك ـ هذا... خامساً ـ عاشراً... كنا نحشر في مبان ٍ خشبية مؤقتة ، وأنتم الآن... ذاك ـ هذا... خامساً ـ عاشراً... تسكنون في شقق مستقلة. كل هذا طبيعي ، في نهاية الأمر... إننا إذ كنا نحشر ونتكدس في المباني الخشبية المؤقتة ، فذلك لكي تعيشوا أنتم في شقق مستقلة ، فيها غرف استحمام ، شرفات ، ومطاهٍ مربعة بالبلاط المصقول... لكي تألف أنت ، منذ الولادة ، أسباب الراحة هذه وتعتبرها اعتيادية ، لكي تستطيع ، حين تدخل التواليت ، أن تهمل رفع غطاء القعود ، لأن والدتك هي التي ستنظف وتمسح ، في كل الأحوال... إرول غارنر "الدمية الفرنسية"... (
يعزف).

طبعاً ، أنا لست إميل غيليلس... أنا مدرس في مدرسة الموسيقى بمنطقتنا ، وإن كانوا ، في طفولتي ، يشيرون إليّ بأنني سأصبح موسيقياً عظيماً... ربما لم تكفني الموهبة ، ربما هكذا جرى المصير ، بل ربما يقع الذنب على هذا الاصبع الذي كسرتــُـه أثناء قيامي بتصليح عربتك ، يوم كنت أنت طفلاً صغيراً... ومع ذلك ، فأنا لا أعتبر نفسي سيءَ الحظ. إن لدي عملاً جيداً ، زوجة رائعة ، إبناً سليماً معافى. ثم إن أمامي آفاقاً ثرية جداً... أجل ، أمامي مستقبلك! إفهمْ ، يا ولدي ، إن الإنسان ، كما هو معلوم ، يعيش الحياة مرة واحدة فقط ، ولا يحالفه التوفيق فيها إلا نادراً جداً... إذا لم توفق في حياتك ، يا سيريوجا ، فلن أكون في خير أبداً ، حتى وإن لم أعدْ على قيد الحياة... ذلك هو ، في الحقيقة ، كل ما كان يجب أن تصغي إليه ، إنْ لم تكن ، طبعاً قد نزعت الاسطوانة منذ وقت طويل... و إلا ، فلمن كان حديثي هذا كله؟!... رحمانينوف. "نوكتيورن(3)"... رجاءاً ، لا تنثر الرماد على أرضية الشقة... (
يعزف النوكتيورن ، ينهض ـ ينصرف...)

 

هوامش المترجم
(1)
عن كتاب: "مهازل صغيرة من الدار الكبيرة" للكاتبين السوفيتيين أركادي أركانوف و غريغوري غورين. موسكو ـ دار الفن، 1973، ص41 ـ 44.
(2) كارتوشكا: كلمة روسية دارجة، فصيحها: كارتوفيل، أي بطاطس.
(3) نوكتيورن (من الكلمة الفرنسية نوكتيرن nocturne. معناها الحرفي: الليلي) ـ لحن موسيقي ذو طابع حالم، كأنما هو يستدعى مع سكون الليل وهدوئه. يـُـعزف على البيانو عادةً.


 

 

free web counter