|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  3 / 3 / 2022                               د. حسام آل زوين                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 للمدينة عبق منك
فلمَ الرحيل يا قاسـم !

د. حسام آل زوين
(موقع الناس)

كم هو جميل لقاء الصبية في ظهيرة يوم الجمعة بعد ان تـأمنت العشرة فـلـوس لدخول مقهى عبيد في منتصف السوق من خلال تقتيرها من المصروف اليومي المخصص للحانوت المدرسي خلال الاسبوع وذلك لمشاهدة فـلم الجمعة خصوصا افلام الكابوي وقت الظهيرة متراصين في التخوت الاولى ، ( تلك المقهى مجمع لابناء المدينة صيفا وشتاء) ، بعدها يتفرق الصبية على أمل اللقاء عصرا عند ( دكة ) دكان السـيد علي الطيب الذكـر ليجلب كل ما في معيته وما جمعه خلال الاسبوع ، حيث ينفرد ابنه عباس صديق الطفـولة بتزويدهم بالطوابع البريدية المستحصلة من الرسائل التي يستلمها على عنوان الدكان لفلاحي ومزارعي الارياف المحيطة بقضاء المحمودية والذين يقـدمون الى الدكان للتسوق من الشاي والسكر والتبغ ومما قسم الله لهم على الحساب اوتسديده ليوم جمع المحصول عند النزول به الى المدينة لبيعه ، هكذا هي كانت حركة السوق المتبعة بذلك الزمان الامين الجميل الاصيل .

توسع الدكان لدكان اخر... وبهذا وهب الصبية حرية في قضاء بعضا من الوقت عند دكته وتبادل الطوابع والمجلات ... فيغتني البعض بالطوابع وبالوانها الرائعة خصوصا تلك التي صدرت في فترة الجمهورية لحكم الزعيم عبد الكريم قاسم وصوره التذكارية في كل الاوقات والمناسبات الوطنية في افتتاح المشاريع المختلفة وبجنبه شعار الجمهورية وعلمها الزاهي (عبد الكـريم كل القلـوب تهـواك !...) مما يبهرصبية المحلة ، واذا حالفهم الحظ يكرمهم الاخ عباس بطابع او بطابعين من رسائل خارج الحـدود تحمل صورة ملكـة بريطانيا العظمى اليزابيث وهوالذي كان يحسن ازالتها من الظرف بالبخار باتقان ... وكم هم سـعداء فـرحين لاقتنائهم طوابع لبلدان ما وراء البحار . .. وماهي الا للحظات يتقاطر الصبية حول دكة الدكان ... يقدم قاسم محمد غالي الهادئ الجميل اللطيف المسالم ببسمته الطيبة البريئة ومشيته كالبندول ويدخل في حلقة الصبية المنتظرين له ليلهمهـم من قرائته لليلة امـس ويتحفـهم ما خزنتـه ذاكـرته الجميلة من ليـل المدينة الهــادئ ، عجـباً من اين له هـــذه المعلومات ، وجميع الصبية عاشوا في مراحل دراسية متقاربة ! .

الصباح المحمودي هادئ جميل في سـوق المدينـة وشـارعها المؤدي الى سـكة القطـار ، يمينه ويساره دكاكـين وعلاوي متلاصقة يكمل بعضها البعض لسد احتياجات الناس ومتطلباتهم ، خطان متوازيان في جزرته الوسطية تنتشروتمتـد فيها سلال وصناديق الخضار والخضرة تفوح بطيبها وموازين الباعة ، بائعي الخضرة بكل الخيرات والالوان ومنهم ابو قاسـم محمد غالي ذلك الانسان البسيط ، السـوق منذ الفجـر وحتى الغروب يعج بالمتسـوقين من المدينـة والزائـرين ، وتنتهي في تقاطع مقهى عبيد اوتتجاوزها الى ماقبل سكة القطار بقليل ، يتناسب طول السـوق طرديا مع كمية الحصاد ووفرة المحصول والمنتوج ومما وهب الله للفلاحين والمزارعين من الخيرات والانعـام ، ذروته الصيف ، في بداية السوق تختلط رائحة القيمر والخبزالحار بالبهارات و(الفشافيش) ، وتترابط الاخبـار بالاسعـار واخبار مظاهـرات الطلبـة وما يترقبه ويتبادله المجتمعون من معارف المدينة عند ( قنفة )عـلـوة او مقهى او دكة دكان ، اوفي ليالي رمضان . ما احلى ( التشميسة ) والنقاش مع أحسان داوود الصباغ وصلاح مهدي وابن عمه واحمد المهنا ( لروح من غادر السلام ) ، حـركـة لا تركــد كانها النحـل ممتـدة من الـدوار( الفلكـة الرهيبة ) ؛ مسرح لكل الاحداث السياسية التي عـصفت بالعــراق والتي عندها تلقى الخطابات والكلمات وتنفك المظاهرات لتتوزع وتسري اخبارها من كل تقاطعاتها الاربعة الى مقاهي المدينة ومحـلاتها، شمالا الى اليوسفية ولبغـداد ، وجنوبا الى شيشبار واللطيفية الى الحلـة ، شـرقا لسكة القطار ومحطته وما خلفها ، غربا للجامع الكبير والمحكمة وما بعدها ولباقي النواحي والارياف المحيطة بالمدينة .

في الصباح تلقى قاسم يساعد اباه ومحمود اخاه في اعـداد سلال الخضراوات حمراء خضراء صفراء بيضاء سوداء ... ياتي بها الفلاحون لسوق المدينة وقت الغروب او للتو وأن تأخرت فرائحتها الطرية ممزوجة بالطماطم والخيار والـريحان تدخل الـرئتين بارتياح . يكتمل تسوق الناس بهـدوء ... تنخفض حركة السوق قبل وصول الشمس سمتها بحين ، يأتيك قاسـم بمشيته المتباطئة متأبطاً مجلة الموعـد يأتي بها من محلة الجديدة ، من دكان عبد طاهر(الدكان الكنز من المجلات والنمنم) وفي صفحاتها وريقات لا يعلم بها الا هـو، يستلها بهدوء ، تتلاقفها الايادي ... تمعنُ الفتية البصر بصور واخبارالممثلين والممثلات ، ومن دونهم وبتمعن ... يُحسن من يسترق النظر اليها جبار رزوقي بزاوية نظره القلقة المترددة المضطربة.. والله اعلم بحالته ، اخبارالمسرح والسينما من لبنان ومصر وبعض الدول العربية والنشاطات الفنية واخبار متفـرقة مقتضبة اخرى ، التوقف عندها لسهولة قرائتها على عجل ... يُكرمْ قاسم اصدقائه بامانة وطيبة باستعارتها لوقت الغروب وعند الانتهاء من المطالعة العصرية عند سكة القطار اواللقاء عند غرفة (المقصجي) المقابلة لبيت عبد السادة .

... وتطورت عملية تبادل الطوابع والتصفح الشهري لاعداد مجلة الموعد والعربي الى قرائة صحف ومجلات وكراريس وكتيبات لم تنزل من قبل (عن الشبيبة والطلبة واخرى على اغلفتها صور؛ لابي النصف لحية ؛ اسمه لينين ، والاصعب منها لابي اللحية الكبيرة ؛ ماركس)، انتاج ووسائل الانتاج ، وسياسة واقتصاد ، لايفهم محتواها الا بصعوبة بالغة يحل شـفراتها قاسم في بعض اللقاءات حينا ، او حينا أخر يشرح جانبها السياسي ؛ الاكبـر منهم جميعا الاخ علي حسـن (علوكي) والاقـوى حسب مباراته والتي فيها يحمل على ظهرة ( وزنتين ) من الاكياس نزولا من سيارة الحمل ( اللوري ) ويركنها في سـاحة العلوة ( لا فتى الا علي ) ، فعليٌ هو القاسم الاعظم وبالطيبة ايضاً ، ذات مرة نجـى احدهم من موقف محرج خوفاً من والده في لحظة وهو يدس كراسا احمرا " لابي النصف اللحية " في كتاب لصديقه اثناء التحضيرات لامتحانات الصفوف المتوسـطة لمادة التأريخ ، وبالتحديد في صفحة فصل العشائر ، بالصدفة ورد السؤال في الامتحان بماهية اعوص المشاكل التى واجهت مدحت باشا في العراق . لروح علي السلام .

من هذا الوسط البسيط الجميل تعلموا الكثير من المعاني والمفردات ؛ اصدارات ، اعداد شهرية ، ارقام ، صور، طباعة ، ورق ، كتاب ، محررين ، مؤلفين ، مسرح ، مسرحين ، ممثلين ،مخرجين ، سينمائين ، رويدا رويدا اخبار متفرقة قصيرة تجذب الصبية الى الجدل يتلمس بها الصبية بافتخار نقاش الاصدقاء ، وان صعب شيئ يشرحه قاسم اويحسمه قاسمهم الاعظم او من هو اقدم منهم بمراحلة دراسية او الواعـون ... والشيئ الجميل يذكر ؛ رحمة وسلاما لروح الاسـتاذ رزاق شعلان ولروح من رحل من الزملاء من فتية المحلة والتلاميذ والطلبة القراء على سـكة القطار ... كان لقاسم الدور المحسوس بامكانياتيه واسـلوبه الهادئ في الايضاح والاقناع ... وذلك وفق مطالعاته واهتماماته المبكرة مع ان واقـع الصبية المعيشي الاجتماعي يكاد يكون بمستوى متقارب .. وقد يكون السـوق ، العمل والكد المبكر ، الفقـروالقهر والجور والعـوز والوسط الطيب الانساني والذي يعيش الانسان فيها معاناة الحياة في بعض مراحلها ؛ تصقل اناسها بذلك الجمال الروحي والمواقف الانسانية . وبالفضل الجميل والدور الايجابي لبعض المدراء ومعلمي ومدرسي المدارس الابتدائية والثانوية الحريصين بشكل مباشر او غير مباشر في زرع بذورالوطنية في نفوس طلبتهم ومساعدتهم له الاثر الطيب ، ويحق القول انهم تخرجوا من ذلك المعطف والعباءة الوطنية الحقـة ! .

عند انتهاء الدوام المدرسي واثناء العودة من المدرسة الابتدائية ( حلّـة المدرسة اوبعد الـردة ) ، يفتـرق الصبية التلاميذ ، عند بيت قاسم المقابل لماكنة حســن سـلومي ، ما زال ايقاع نوابض ماكنتها وضربات أحزمة عجلاتها امست سمـفونية الانتاج والعمل وارتكنت في ذاكرة الصبا ، بعد ان تتسلل رائحـة الطحين (تراب الحنطـة) الحـارة الطيبـة تخترق الخياشيم وبقوة تتغـلغـل الى الرئة تتسابق مع رائحـة تراب الطريق المرشوشة بالماء (مقابل بيت هراطه) الى حويصلاتها ، على امل اللقاء وقت العصرعند سـكة القطارلتـداول ما سوف تحتويه جعبة الاخبار الغير الدراسية الاضافية للمصطلحات لذلك "الملتحي ابو نصف لحية ". وكم بسكة القطار مروا من ابناء المدينة الابرار .

لقد صاحبت هذه المجموعة من الصبية والتلاميذ والطلبة فيما بعد جميع الاحداث السياسية التى عصفت بالعراق بوعي او بدونه ولكنها العيون الشهود ... ثـورة 14 تموز 1958 المجيدة التى قام بها الجيش بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم والضباط الوطنيين ومساندة جماهير الشعب واقامة الحكم الجمهوري وانهاء الحكم الملكي ورجالاته انذاك ، والمظاهرات التي عمت شوارع وساحات بغـداد ، وما قامت به الجمهورية من تحولات ومنجزات اقتصادية سياسية اجتماعية ثقافية ، الاصلاح الزراعي ، توزيع الاراضي ، انقلاب 1963 والحرس القومي وقتل الزعيم ورفاقه الابطال ، كان يوما قارصا تجمد كل شيئ حتى براميل الماء المخزنة في المقهى على يمين وتسلم عبد السلام عارف بعد تقاربه من جمال عبد الناصر.. وانفراط عقد الوحدة العربية وفشلها ( وحده ما يغلبها غلاب عربانة وتجرها ..) ، كانت واجهة خان السبيل الامامية من الاعلى قد استغلت بتعليق اللافتات والصور لحين من الوقت ، .. المشيرعبد السلام في البصرة ( صعد لحم نزل فحم ) وتسلم اخوه عبد الرحمن عارف ( لا يحل ولا يربط ) وزمام الامور بيد ابي فرهود رئيس وزرائه. .. وفي ظهرية من ايام تموز والفتية مجتمعة في نفس المكان عند دكان سـيد علي وكل كتابه بيده ... تأكد خبرانقلاب 1968 وصعود البعث ... كبرت حلقة التلاميذ والطلبة بانضمام بعض من الشبيبة الرياضية اليها تتبادل النقاشات عن ماهية هوية الانقـلاب والانقـلابين ... اختلطت الاخبـــار والقطـار .. جاؤوا بقطـار امريكي !. اي قطار هذا ؟ ، والاتحاد السوفياتي هم من الذين بنوا القطار ومددوا سـكته الجديدة ، فكيف بهذا القطار الامريكي .. تكاثرت الاسئلة وتشعبت فما كان برزاق شعلان وعلي وقاسم وجـواد كظوم ان يبادروا ويوضحوا للصبية مفهوم ومغزى هذا القطار، والايام والذكريات شواهد أثبتت صحة تلك التوقعات ، فبأي وعـي وفكـر نقي مبكر كانت فتية وشبيبة المدينة مكتنزة ومتقـدة ، اخـوة ليسوا باعداء .

بعد انفـراط عقـد الجبهة الوطنية واشتداد الهجمة الدموية في 1978 بحق العراقيين والغير منتمين للحزب الحاكم في السلطة والتضييق عليهم من قبل اجهزة الامن العامة السيئة الصيت بالاعتقال واعـدام الالاف من الشيوعيين واصدقائهم وتصفيتهم الجسدية وتغيبهم في المعتقلات والسجون وبالمقابر الجماعية ، في بداية الثمانينيات اعدم عباس السيد علي بتهمة انتمائه لحزب الدعوة ، واضطر قاسم كما غيره من الاف المثقفين والصحفيين والكتاب الديمقراطيين والشـيوعيين الى الخروج من العراق اوالاختباء بكل الاشكال ، اضطر للخروج من العراق مشيا للحدود مع سوريا ، عمل فيها صحفيا ، كاتبا ، بعدها مكث بعضا من الوقت في رومانيا لغرض الدراسة ، واثناء التوجه الى كردستان في 1982 التقيناه مع صديقه الصحفي احمد المهنا مرة اخرى في دمشق ، بقى ذلك الانسان العراقي الوطني ينضح طيبة وحبا للناس وللوطن ، الا ان مرضه لم يمهله طويلا ، من لندن ، أمـانة ومن على فراش الموت بسويعات وهو بهذه الحالة بعث بتحياته وسلاماته الى جميع اصدقائه ومن ابناء مدينته ورفاقه ، فلمَ هذا الرحيل المبكر ياقاسم ، كان عليك ان تنتظر لترى ما آلت اليه الظروف ، ضاع الحق والعدل واستلب الحلم . كل شيئ من ذكريات المدينة والطفولة عبق بطيبة تذكر الجميع ، سلاما لـروحك ابو سـميح .

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter